<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
أدرك النقد العربي منذ وقت مبكر: أن النص الأدبي غنيّ بالدلالات، وأنه من أجل ذلك قد يحتمل وجوهاً متعدّدة من التأويل، وقد يتسع فيه مجال التفسير والقراءة، وإبداء الرأي.
جاء في الوساطة في نقد علي بن عبد العزيز الجرجاني لبيت أبي الطيب المتنبي:
ما بقومي شَرُفتُ بل شَرُفوا بي وبنفسي فَخَرتُ لا بجُدودي
قوله: ((فختم القول بأنه لا شرف له بآبائه. وهذا هجو صريح. وقد رأيت من يعتذر له فيزعم أنه أراد: ما شرفت فقط بآبائي، أي لي مفاخر غير الأبوة، وفِيّ مناقب سوى الحسب. وباب التأويل واسع، والمقاصد مغيبة. وإنما يُسْتَشهد بالظاهر، ويتّبع موقع اللفظ..[1])).
وأورد ابنُ رشيق بيتَ امرئ القيس في وصف فرسه:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ، مدبر معاً كجُلمود صخرٍ حطَّه السيلُ من عَلِ
تحت ما سماه ((باب الاتساع)) فذكر أكثر من تفسير له، ثم عقّب على ذلك هذا التعقيب الذكيّ، فقال: ((يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى..[2])).
وزاد البغدادي في خزانة الأدب على ما أثبته ابن رشيق من توجيهات لبيت امرئ القيس، ثم علَّق على ذلك قائلاً: ((هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل. وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه..[3])).
التأويل وقصد المتكلّم:
ولكن النقد العربي – كما هو واضح – يحترم النص ودلالاته اللغوية، وذلك مقدَّم عنده على ما يُسمّى بـ (( مقصدية المؤلف)).
ردّ الآمدي – صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين: أبي تمام والبحتريّ – على تهمة وجّهها إليه أنصار أبي تمام، بأنه لم يفهم ما قصده شاعرهم من كلامه، بهذه العبارة النقدية المهمة، التي تضع قاعدة موضوعية دقيقة للتأويل:
قال الآمدي: ((ليس العمل على نية المتكلّم، وإنما العمل على ما توجبه معاني ألفاظه..[4])).
وهي عبارة تُستنبط منها – على وجازتها – مجموعةٌ من الأحكام التي تتعلّق بتأويل الكلام أو تفسيره، منها:
1 – أن النص وحده هو المخوَّل بإعطاء الدلالة، وفرز المعنى المراد، ومنه وحده تُستنبط الأحكام، وتُستخرج المفاهيم، وبذلك يحتفظ النص – بما تعطيه معاني ألفاظه – بهيبته ومكانته وسلطانه، ولا يعتدي عليه معتدٍ.
2 – أن فكرة ((المعنى في بطن القائل)) – كما يقول بعضهم – غير صحيحة، لأن الناقد لا يعوِّل على نيات المتكلِّم، وهو غير قادر على ذلك أصلاً: لا شرعاً ولا عقلاً؛ فالنيات لا يعلمها إلا علاَّم السَّرائر، والناقد ليس عرَّافاً ولا قارئ فنجان، وإنما هو متلقٍّ يقوم بنشاط عقلي منطقي تمليه لغة النص الذي أمامه، وطبيعة ألفاظه وعباراته.
وهذا عندئذٍ يلغي فكرة ((مقصدية المتكلِّم)) ويحيل على مقصدية النص، ويعطيه السلطان على نحو ما فعلت البنيوية بعد ذلك بقرون.
3 – أن سلطان القارئ، أو سلطان المتلقي – خلافاً لما يقوله التفكيكيون وأصحاب نظرية التلقي – منضبطٌ بالنص المقروء، محكوم بدلالة ألفاظه، ومعاني عباراته، وليس سلطاناً مطلقاً، يجعل هذا القارئ يؤوِّل النص كما يشاء، أو يقرؤه على هواه، حتى ليقوِّله ما لم يقل، أو ينطقه بما لم ينطق.
4 – عبارة الآمدي النقدية البليغة لا تُنكر ما يمكن أن يحمله النص من دلالات متعدِّدة، أو توجيهات مختلفة، ولكنها – مرة أخرى– تجعل ذلك نابعاً من النص ذاته بما فيه من إمكانات، وبما يفرزه من المعاني والأفكار، وليس بما يُحمَل عليه حملاً، أو يُكره عليه إكراهاً، استجابة لسلطان زُعِم أن القارئ وحده هو الذي يمتلكه.
إن الصيد في جوف النص، والقارئ هو من يستخرجه، ولن يستطيع أن يستخرجه – دائماً – أي قارئ، بل القارئ الدّرِبُ المتمرس، وبذلك نحترم طرفين من أطراف معادلة العملية الأدبية، هما النص والقارئ، ولا نستهين بأحدهما أو نسقطه انحيازاً للطرف الآخر.
5 – وأخيراً، إن الاحتكام إلى النص لا يعني تجريده – كما يفعل البنيويون – من كلّ خارج: كالمجتمع، أو التاريخ، أو السيرة، أو ما شاكل ذلك، لأن هذا الخارج قد يكون في أحيان غير قليلة جزءاً من الداخل، وقد تكون ((معاني ألفاظه)) التي يحيل عليها الآمدي محكومة بهذا الخارج، بل آخذةً أبعادَها الحقيقية من خلاله، فقد يكون – وما أكثر الأمثلة على ذلك – هذا الخارجُ هو الذي شكَّلها على هذا النحو أو ذاك، فأصبح جزءاً من دلالتها.
وهاهو الآمدي نفسه الذي يحيل على سلطان النص، وما توجبه معاني ألفاظه يحيل في شعر أبي تمام نفسه إلى هذا الخارج، ويوضح أن التقاط معاني الألفاظ قد لا يتضح إلا بمعرفة هذا الخارج، فيورد بيت أبي تمام:
تسعونَ ألفاً كآسادِ الشَّرى نَضِجَت جُلودُهُم قبلَ نُضجِ التينِ والعِنَبِ
وهو بيت عابه بعض النقاد، ومنهم أبو العباس المبرِّد، واستنكروا إيرادَ هاتين الفاكهتين، فيقول الآمدي مدافعاً عن البيت، مبيِّناً ارتباط اللفظين المعيبين بخارجٍ معيَّن: ((لهذا البيت خبرٌ لو انتهى إلى أبي العباس لما عابه..[5])).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
- الهوامش: [1] الوساطة بين المتنبي وخصومه374. ..[2] العمدة: 2/94...[3] خزانة الأدب: 2/94... [4] الموازنة: 1/179... [5] النظام: لابن المستوفي: 2/64.
ساحة النقاش