اختيار البحث الأدبي :
ليس اختيار البحث الأدبي شيئاً ھيناً ، إذ لا بد للباحث من ثقافة واسعة كي
يهتدي إلى بحث أدبي ظريف ٠
* أول ما يجب على ناشئة الباحثين عمله ألا يلقوا بزمامهم في بحوثهم على
غيرھم وأن يعملوا على الإھتداء إليها من خلال قراءاتهم وعكوفهم على كتب
الباحثين من قبلهم ، يستعرضون موضوعاتها ويقرؤون فيها حتى يستبين لهم
موضوع يتفق وميولهم ويحاولون بحثه ودراسته ٠
* الباحثون الحقيقيون يتناولون موضوعات اكتشفوھا بأنفسهم أثناءقراءاتهم لكثير من البحوث الأدبية وھي قراءة من شأنها أن تنشئ في عقولهم كثيراً من الأفكار والخواطر التي يمكن استغلالها فيما يبحثون ويختارون من موضوعات ، وأيضاً فإنها تنشىء في أنفسهم إحساساً عميقاً بأن سباقاً حاداً عنيفاً سيشب بينهم وبين من اتصلوا بهذه البحوث ، وأن واجباً عليهم لا أن يقرؤوھا فحسب بل أن يجدوا كل الجد في الإكباب على ما قرؤوه وأن يحاولوا بكل مااستطاعوا النفوذ إلى أفكار وآراء لم يصل إليها سابقوھم في البحث ولاسجلوھا في بحوثهم ٠
* ومن أخطر الأشياء أن يبدأ الباحث حياته عالة على غيره من الباحثين الذين سبقوه فإن ذلك يصبح خاصة من خواص بحوثه ولا يستطيع فيما بعد أن يتحول باحثاً بالمعنى الدقيق لكلمة باحث ٠
* ومن أجل ذلك كان ینبغي ألا يهجم ناشئ على البحث في الأدب قبل أن
يتسلح له بقراءات كثيرة فيه وفي مباحثه حتى يجد نفسه وحتى تتكون
شخصيته تكوناً أولياً ٠
* ودائماً ينبغي أن ينقب الباحث الناشئ على جانب من جوانب النشاط الأدبي
لم يعن به الدارسون من قبل ويحاول أن يتبينه في أضواء غامرة بحيث ينكشف له من جميع جهاته انكشافاً تاماً ٠
* المهم دائماً تضييق مجال البحث حتى يستطيع الباحث المبتدئ أن يلم بأطرافه وحتى يحيط بمادته ومصادره ٠
* ولا بد للدارس الناشئ للأدب من ثقافة واسعة بعلوم العربية من النحو
والصرف والبلاغة والبيان والأخبار والتاريخ ، ولا بد من الوقوف على الفكرالفلسفي.
تنسيق مواد البحث الأدبي :
ليس كل ما يجمعه الباحث جديراً بأن يسرد في البحث ، ونفس المواد المتصلة بالبحث في وضوح ينبغي أن ينسق فيما بينها ٠
* ليس البحث مجرد ملء فراغ من أوراق إنما ھو عمل علمي ٠
* وعلى ھذا النحو ينبغي أن يستقر في أذھان الباحثين الناشئين أنهم يتعاملون
في كلامهم مع علاقات منطقية محكمة فالكلام لا يلقى عفواً ولا يسرد سرداً
بدون إحكام علاقاته المنطقية بما قبله وبما بعده ، وكل فقرة فيه تتصل بما قبلها وبما بعدھا اتصال الجزء في التجربة بالجزء السابق لهوالجزء اللاحق ٠
* ولا يظن القارئ أن ھذا شئ سهل فكثير من البحوث الأدبية ينقصها التسلسل المنطقي المحكم حتى ليظن الإنسان كأنما ھو ھبة لا يؤتاھا إلا الأقلون والواقع أنه ليس ھبة وإنما ھو كدح وعناء أن يحدد الإنسان نفسه إزاء ما يبحثه وأن يتحول به إلى ما يشبه تجارب علمية قويمة ، تجارب بالمعنى الدقيق فهو لا يكتب – بعد جمعه لمادته – كل ما يطوف به ، وإنما يكتب ما يستحيل إلى تجارب متعاقبة ، تجارب تسودھا العلاقات المنطقية بحيث تصبح مقدمات ونتائج مرتبة ٠
* فالإرتباط بالترتيب الزمني أساس أول في تنسيق مادة البحث ، وقد يتخذ
المكان قاعدة بدوره للترتيب ٠
* ومن الخطأ الشديد أن یظن الباحث الناشئ أن المعارف المرتبطة بموضوع
جميعاً متساوية القيمة في الدلالة العلمية فيورد فيه جميع المعارف المتصلة به
بدون تفرقة بين معرفة مهمة وغير مهمة ، والمعارف بطبيعتها تختلف كما
تختلف صلتها بالموضوع ودلالتها الخاصة ولذلك كان ينبغي أن يجري فيها
ضرباً من الإختيار والإنتخاب فليس كل ما قرأه خليقاً بالتسجيل بل ينبغي أن
يأخذ ويدع وأن يدون ما ھو خليق بالتدوين ويحذف ما ھو خليق بالحذف ٠
* ولعل أخطر ما يعرض بحثاً أدبياً للإنهيار أن يجمع صاحبه كل ما يتصل
بعنوانه من مادة علمية بدون عناية باختيار أو تصنيف ٠ وكثير من البحوث
الأدبية يؤدي بها ذلك إلى أن تصبح طوائف من المعارف منها ما يرتبط بها
ومنها ما لا يرتبط بها تماماً أو قل منها ما يرتبط بها ارتباطاً دقيقاً ومنها ما
يرتبط بها ارتباطاً واھياً ٠ وليس ذلك فحسب ، فإن كثيراً منها يسوده التشويش وتشيع فيه الفوضى ولذلك كان من الضروري أن يقسم البحث الأدبي إلى أبواب وفصول حتى تتميز موضوعاته وتصبح لكل موضوع دائرة أو منطقة خاصة يدرس فيها درساً دقيقاً ٠
* ولعل في ھذا كله ما يدل على أن النسق المنطقي أساسي في أي بحث أدبي
وھو كما يطلب في الفصل وأجزائه وفقره وعباراته يطلب في نسقه العام ٠
ساحة النقاش