قصة قصيرة ارض السوادبقلمي الكاتب واعلامي وائل الحسني. حدق المعلم وهو يدخل إلى الصف ناحية التلميذ المهجر ذي العشرة أعوام والذي كان يجلس على رحلته المنفردة الواقعة آخر الصف ، والقريبة من النافذة المطلة على حديقة المدرسة حيث طلائع الربيع توهيمن على الأفق في هذه المدينة التي نزح إليها مع البقية الباقية من عائلته المنكوبة . ألقى التحية بابتسامة موجهة إلى التلاميذ الذين وقفوا وهم يرونه داخلا ، بينما بقى ذلك التلاميذ الصغير سارحا بفكره نحو عالم مجهول فتح له من نافذة الصف الصغيرة التي تساقط زجاجها بفعل المعارك التي دارت بين المجاهدين وأهل المدينة وقوات الاحتلال الأمريكية تلك النافذة التي لم يبق من زجاجها سوى كسر حادة تعلقت بإطرافها كانت تفتح له بوابة الولوج إلى عالمه الذي يحبه ، عالمه الذي أخرج منه عنوة حيث تلك البساتين الرائعة ، والجداول الفتيه التي شقت بعصا سحرية فاخضر ماؤها محاكيا الزرع المحيط به ، عالم لم يكن يعرفه هؤلاء الصغار الذين يقضون أوقاتهم يلعبون فوق الأرصفة الإسفلتية التي لم تعرف الزرع يوما .. أو يقضونها يركضون مختبئين في الأزقة ليشاهدوا من هم اكبر منهم سنا وهم يطلقون رصاصهم وقنابلهم على دبابات الاحتلال الأمريكي التي لم تفتأ تدخل المدينة الآمنة فتعبث فيها فسادا فتتعالى أصواتهم الرفيعة بصفارات مشجعة وهوسات تعلموها من أهليهم ، وفي تلك ألحظات مر شيخ طاعن في السن وحيى المقاتلين بأهزوجة ورثها عن أبيه الذي كان يشدو بها في ثورة العشرين وعندما كان يواجه الاحتلال البريطاني آنذاك .. رد الصغار بأصواتهم الملأى بالحماسة كأنها صوت واحد ، أومأ المعلم أليهم بالجلوس ، فجلسوا محدثين اصواتا تلاشت حالما التفت المعلم نحو السبورة التي لم تمسح جيدا وهو يلتقط من حافتها قطعة أسفنج بالية ، ويمررها عليها بسرعة وهو يقول : - ماذا أخذنا في الدرس السابق ..؟ فارتفعت أصابع التلاميذ وأصواتهم .. أستاذ .. أستاذ .. أومأ وهو يبتسم لتلميذ صغير أسمر ضعيف البنية .. - درسنا بالأمس صورة اقرأ .- أحسنت ..!! قال مشجعا ، في الوقت الذي مازالت عيناه تدوران في الصف لتستقرا في مكان واحد شغل فكره ، وهو يلتفت خلفه ويكتب على اللوحة ( سورة اقرأ ) - حسنا .. وماذا قلنا في سورة اقرأ ..؟ فارتفعت الأصابع وتعالت الأصوات من جديد أستاذ .. أستاذ .. ابتسم وهو يشير إلى تلميذ أخر في ناحية اخرى من الصف قائلا - نعم حسام ..نهض الصغير وهو يجر بيديه أطراف قميصه التي ارتفعت قليلا بنهوضه وقال بتلكؤ وخجل : - لكونها أول صورة نزلت على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .. و تكلمنا على .. وشعر بالإحراج وراح يفرك جبينه .. فابتسم المعلم وعادت تلك الأصوات والأصابع الصغيرة تعلو مرة أخرى .. لم يكن بسام معهم في كل هذا ، فقد شغله عالمه الذي كانت تحوم فيه روحه الطائرة متخيلة أصوات الصغار تغريد بلابل بستان جده محلقا فوق أجنحتها - بسام ماذا تقول أنت ..؟ - ها .. أنا ..!! تلكأ وهو ينهض متفاجئا بالسؤال ، ثم قال : - أظن أننا تكلمنا عن الوطن .. وصمت ..فقال المعلم مشجعا : - أحسنت .. وبعد ..؟ وانتظر منه جوابا ، كانت عينا الصغير تدوران بين المعلم وتلاميذ الصف الذين التفتوا أليه ، لم يشعر أنه منهم ، فهو لا ينتمي إلى عالمهم هذا.. مازال وطنه في داخله يحترق وصورة أبيه أمامه والدماء تسيل منه وهو يتصدى للغربان القادمة ماثلة في مخيلته .. وهو يشعر أنه ضعيف ثقيل عليهم وعن هذا العالم الذي فقد كل ما هو جميل فيه بعد أن لجأوا إلى احد أقاربه في المدينة ، والذي قرر الدوام في هذه المدرسة لعله يخرج من عالمه وصمته .لم يتكلم ، شعر المعلم بأنه انتظر طويلا فقال : - ما به الوطن يا بسام ..؟ - تكلمنا عن الوطن .. وعن الزرع .. و.. - أجل . - و.. صمت مرة أخرى فهو يعرف الزرع أكثر منهم جميعا فكم من شتلة غرسها بيديه وكم من ثمرة ذاق باكورة نضجها .. كان الصغار ينظرون أليه بفضول وشفقة .. قال المعلم : - حسنا .. سأقرب لك الموضوع ، هناك أسم يطلق على ارض العراق لان زرعه كثيف ..و .. لم يتكلم الطفل ، بل أطرق رأسه ، وارتفعت أصابع التلاميذ وأصواتهم .. أستاذ .. أستاذ .. من جديد ، لم تكن تشبه أصوات البلابل هذه المرة فقد غدت كأزيز رصاصات اخترقت أذنه بعد ان اخترقت جسد أبيه وصبغت دمه الحشائش الصغيرة التي تحول لونها الأخضر الزاهي إلى لون أشبه بالأسود بفعل ذلك ، تذكر ذلك اليوم الذي كان هو فيه قد تسلق إحدى النخلات التي كانت من غرس جده ، وشاهد كل ذلك بعينيه الصغيرتين الخائفتين .أومأ المعلم إلى الصغار بالصمت ، فامتثلوا بسرعة ..قال المعلم من جديد وهو مصمم على إخراجه من عالمه : - ألا تقول لي شيئا عن ارض العراق يا بسام ..؟ - يسمونه ارض السواد .قالها بصعوبة وهو مطرق رأسه .. فقال المعلم مشجعا : - أحسنت .. وبعد ..؟ لماذا ..؟ - لأن لون زرعه أخضر مسود فقال وهو يضع يديه على الرحلة منحنيا نحوه ، وهو يتصور أن الطفل بدأ يخرج من عالمه المخيف الذي كان يحلم به طول الدرس .. وعينيه السوداويين فيهما ألف سؤال .. وسؤال . - أحسنت .. أحسنت .. لماذا ..؟ كانت شفتا الطفل ترتجفان وقد اعتراهما اصفرار غريب ، وهو مازال مطرقا برأسه ، وراحت أصابعه تتحرك بعصبية قرب يدي المعلم الذي قال مشجعا مرة أخرى .- نعم يا بسام لماذا لون زرع العراق اخضر مسود ..؟ شعر أن قطرة دمع حارة سقطت على ظهر يده قبل أن يقول الطفل بصعوبة - لأنه مصبوغ بالدماء .. ثم سقط على مقعده مجهشا بالبكاء .