الرسالة السادسة والعشرون:
عليّ أن أعيد قراءة كل ما كتبت لأرى نفسي جيداً
الاثنين: 3/12/2018
فراس حج محمد
أسعدت أوقاتا:
لا شيء جديد، أشعر أن الحياة تراوح مكانها بروتينها القاتل، السيناريو يعاد كل يوم بقسوة شديدة، تلبتس عليّ الأيام أحيانا، ولا أعرف في أي الأيام أنا، إلا بعد العودة إلى الروزنامة. البرد شديد هذا اليوم، لا شيء يشغلني عنه، ولا شيء يبعده عني، متصلب كقطعة خشب باردة. والوحدة تزيد من الإحساس بالبرودة واليأس والمرض أيضا، وهي محفز شديد لإخراج كل ما يفكر فيه المرء دفعة واحدة دون رحمة.
زرت المدينة في الأسبوع الماضي، وكان من المقرر "ظاهريا" أن نلتقي، يبدو أنك لست متشجعة لذلك، كنت أترقب رسالة منك، ولكنك غصت في معمعة العمل، فنسيت الوعد والموعد، وربما جاءك الإنقاذ من حيث كنت ترغبين عندما أبلغتك أنني قد قفلت راجعا، ولم يكن بالإمكان أن نلتقي. أراك قد تنفست بعمق، وقلت وأنت تبتسمين وقد انزاحت الغمة عن صدرك: "الحمد لله، ارتحت من رؤيتك". ثمة أمور أكثر جدوى من ضياع الوقت في لقاء بلا قيمة. أليس كذلك؟
في الحقيقة أنا كذلك لم أكن أرغب في أن نلتقي، وما الفائدة؟ فلا جدوى من لقاء حبيب، وأنت تعلم أنه سيأوي إلى حضن غير حضنك في نهاية اللقاء. كان هذا الإحساس مؤلما، ولكن الأشد ألما أن تظل متعلقا بشخص لن يكون لك ولو بعد مئة عام.
أنهيت أخيرا رواية "عندما بكى نيتشه"، كان نيتشه يعاني من وجع حبه لـ (لو سالومي)، رأيت في هذه الرواية الألم، كما هو، عاريا، وجها لوجه، كان نيتشه مريضا نفسيا وبحاجة إلى العلاج، وكل العشاق مع الوقت يصبحون مرضى نفسيين، يحتاجون إلى العلاج، لقد وقفت عند هذا المقطع، وأعدت قراءته عدة مرات. مقطع يبين مدى معاناة نيتشه من سيطرة لو سالومي على نفسه وتغلغلها في كيانه، ورعبته الجامحة التي وصلت إلى حد الانتقام منها: "لقد استولت هذه المرأة، لو سالومي، على عقلي وقبعت فيه. لم أتمكن إلى الآن من إبعادها عن تفكيري، لا يمر يوم وأحيانا لا تمر ساعة من دون التفكير فيها، في معظم الأوقات أكرهها، أفكر بإذلالها، بإهانتها على الملأ، أريد أن أراها ذليلة تتوسل إلي حتى أعيدها. وفي بعض الأحيان يحدث العكس، إذ أشتاق إليها، أريد أن أمسك بيدها، أن نذهب في نزهة بالقارب في بحيرة أورتا، أن نحيي شروق الشمس في بحر الأدرياتيك معا...". ليست غريبة هذه الحالة عني، لقد فكرت بما فكر فيه نيتشه مع لو سالومي التي وصفت بأنها المرأة التي سلبت عقول العظماء في القرن العشرين.
إن المدهش في هذه الرواية أيضا هو أن الطبيب نفسه يعاني من الأعراض نفسها، وبالضرورة المرض نفسه، والأكثر صدمة أن يكون القارئ يعاني من هذه المتلازمة التي أصبحت كالقدر. انتهت الرواية بشفاء الطبيب وبكاء نيتشه، ما يعني أن دموعه قد طهرته من ذلك الوجع الذي أصابه في حبه لـ (لو سالومي)، ولكن القارئ لم يشف بعد، وأظن أن لن يشفى أبدا من هذا الوجع. ربما كان من الأجدى أن يفكر الروائي بالقارئ أيضا. كيف له أن يشفى؟ وكيف يمكن أن تكون الرواية علاجا لهؤلاء القراء الذين يشاركون الشخصيات المرض نفسه. لا بأس إذن، فلنواجه المصير المحتوم حتى آخر العمر، مرض مزمن ومعاناة أبدية قهرية قسرية.
أحاول أحيانا ألا أفكر كثيرا بهذه المسألة، وأركز التفكير في أمور أكثر جدوى وأقل ألما. لعلك علمت أن ندوة اليوم السابع في القدس قد ناقشت كتابي "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، أسعدتني جدا هذه المفاجأة، كنت أظن أن الكتاب لن يناقش في الندوة، فقد سلمت منه ثلاثين نسخة للكاتبة ديمة السمان قبل أكثر من خمسة أشهر عندما زرتها في مكتبها في وزارة التربية والتعليم. ووصلت إلى اليأس من ذلك. أسعدتني بلا شك ملاحظات الكتّاب، ولكن بعضهم قد تجنى على الكتاب، واتهمني أنني اعتمدت على الملاحظات الفيسبوكية، رجعت إلى الكتاب وقرأته، وسألت نفسي أين حدث ذلك، لعل الكاتبة التي كتبت ذلك لم تنتبه إلى أنني عندما استعنت بالفيسبوك كان من أجل إتمام ملاحظتي حول "النص الفوقي" لرواية "السماء قريبة جدا"، إذ يقتضي الموضوع متابعة المواقع الإشهارية للرواية. أيضا ثمة عدم تركيز في الاقتباس من الكتاب، وخلط الملحوظات بين الروايات. ولكن بالمجمل كانت المناقشة مبهجة وجميلة. أعادت إحياء الكتاب، هذا الكتاب الذي شكل غصة في حلق الناشر، فهو لم يبع منه سوى عشر نسخ في كل المعارض الدولية التي شارك فيها. كتاب فاشل بلا شك من وجهة نظره.
ملاحظة وقفتُ عندها مليا خلال مناقشة الكتاب، عندما بينت الكاتبة ديمة السمان في معرض حديثها عني أنني معاق، وتظهر في كتاباتي، بشكل غير واعٍ، هذه المعاناة، وأشارت إلى ما كتبته عن رواية "أرواح كليمنجارو"، وتضيف أنني حتى لو لم أصرح أنني معاق، فالإعاقة حاضرة في كتاباتي كلها. هل تلاحظين ذلك؟ عليّ أن أعيد قراءة كل ما كتبت لأرى ذلك، ولكن ربما كان من الأفضل أن يبحث عن ذلك غيري.
لم أتسلم كتابي الجديد بعد من الناشر، وأبلغتني دار نشر أخرى أنها بصدد طباعة ديواني "ما يشبه الرثاء" ، ولكن عليّ أن أدفع مبلغا كبيرا، إلى متى عليّ دائما أن أدفع مقابل أن ينشر لي؟ إنها خسارة تلو خسارة، هنا تبرز حسرة خاصة تضاعف من الإحساس بالندم للنشر والكتابة عموما، يبدو أنني إلى الآن لم أنجز شيئا ذا بال. ويبدو أنني لو مكثت العمر كله أكتب وأصدر الكتب، ستصدر كلها على نفقتي الخاصة، ما يعني تكدسها في المخازن والمكتبات وغرفة نومي. هل تصدقين أن نيتشه كان يعاني من المشكلة ذاتها؟ يتوقع نيتشه أن من قرأ كتبه لا يتجاوز عددهم المائتين فقط. بدا حديثه في الرواية مفخخا باليأس من هذا الواقع.
أصدقك القول وأصارحك أن اليأس معبئ كل أفكاري حيال الكتابة وجدواها وأهميتها، تيقنت أنّه لا أحد يتقن الكتابة ولا حتى أنا، كل مرة أحاول فيها الكتابة أبتعد عن الكتابة الجيدة، وأغوص في العدم والرداءة. أشعر بالتفاهة والجنون والعبث أحيانا، كل شيء يسير بالعكس، في الحياة، وفي الحب، وفي الكتابة، خيبات تتصارع على ما تبقى من جثتي المتهالكة.
نسيت أن أخبرك أنني بدأت بقراءة كتاب ماريو بارجاس يوسا الذي ذكرتِهِ في رسالتك السابقة "الكاتب وواقعه"، يبدو كتابا مفيدا، مع أنه غير سلس. سأحاول أن أنهيه قريبا، مع أن القراءة فعل ليس أقل عبثا من الكتابة، بل ربما يفوقها عبثية، دائما أسأل نفسي ما فائدة أن تقرأ، أو أن تكتب؟ وربما ما فائدة أن تعيش أصلا؟ وما معنى أنك من سكان العالم؟ وماذا يحدث لو نقص العالم نفسا من نفوسه المتكاثرة بلا جدوى؟
آخ كم يوجعني كل ذلك ولكن لا بأس. لا عليك. لا تفكري بهذا كثيرا.
ربما استطعت أن أراك قريبا، لا أدري، لم تعد عندي الجرأة الكافية لمزيد من الخسارات المؤلمة، ولكن بالـتأكيد سأجد طريقة مُثلى أوصل لك فيها نسخة من الكتاب عندما أتسلمه، كما حدث وأوصلت لك نسخة من ديوان "الحب أن...". لكن لن أعيد السيناريو نفسه، لأنني، بكل تأكيد، أكره الروتين مهما كان جميلا.
اكتبي لي لعل بضعة كلمات تُبلسم الوجع الذي يتفشى في الروح كأنه الداء العضال.
دمت وسلمت
فراس حج محمد