جدلية الرعب والأمان..
الحبيب بالحاج سالم/ تونس
قراءة سردية أنثربولوجية في نص: هل تكفي هذه المسافة لحدوث الأمان؟ للكاتب: فراس عمر حج محمد
• النص:
عندما سألتني صديقتي المقرّبة عن سبب البعد وعدم ردي على اتصالاتها. أجبتها: لأنّني صديق، وأحافظ على مسافة آمنة حتى لا يكون هناك حادث عاطفيّ مؤسف.
- أنت يا صديقي، لا تعرف الاعتدال، متطرف، "يا بطّخه يا بتكسر مخّه"!!
- بالطبع لا، ولكن لا بد من (الفرملة)
- البعد بهذه الطريقة ليس جميلا، ولا تنس أنك (مفرملٌ) أصلا، ولا أشعر بالخوف منك، لتعلق قلبك بمن تهوى.
- عندما تصلين إلى السّرير وأبدأ باستنشاق رائحة جسدك، يرعبني ذلك، فأبتعد، فالشهوة ليس لها أمان يا صديقتي. ولعلها في لحظة ما لم تعد تفرق بين صديقة وحبيبة، إذا اختلطت الصورتان وتقابلتا في الحضور والغياب، فأنا شخص سرعان ما أنزلق على كل جسدٍ عطريٍّ، ناضجةٌ كُمَّثْراه.
- احذر إذن من أن يصيبك الأذى، شيء من الرضوض والكسور.
هنا تضحك بخبث غواية امرأة شهيّة، ربما شعرت برعشة خفيفة تحرك أعضاءها للنشيد!
- لا أظنّ ذلك، لأنّني إن وقعت وقعت على حريرٍ، فيلتهمني ذلك الجسد، فلا أصاب إلا ببعض ألم شهوة مجنونة.
- احذر جيدا يا صديقي، هذا الحرير محرم إِلَّا على لابسيه!
لذتُ ولاذت إلى الصّمت، ربما أرادت هي أيضا المحافظة على المسافة الآمنة، وربما زادت في تلك اللحظة رعشتها!
فمن ذا الذي يستطيع أن ينيم الوحش إن صحا؟
• القراءة:
"الخطيئة الأصلية تبرئنا.."
(موريس كلافال)
تبدو الإشكالية في هذا النص الحواري، في ظاهرها عتيقة أخلاقية سلوكية نكاد نقول فقهية
(في النهي عن الاختلاط بالنساء مثلا، وفي هذا الفهم ظلم بيّن للنص إن أسقطناه عليه لأن شاغل الكاتب نحسبه أبعد وأعمق من ذلك..)، ولكنها على أي حال ليست مفاضلة ساذجة بين الصداقة والحب، أو محاولة في الإجابة عن أسئلة من قبيل: هل تستقيم الصداقة بين الرجل والمرأة؟...
الطابع الإشكالي ينبثق من الصيغة الاستفهامية المفتوحة، من حيث المنشأ والمقصد باعتبار حواريتها المكثفة، على الإيجاب والسلب، بحسب الثقافات والعقائد المتفاعلة ،أي تلك التي يرد عليها الكاتب أو تلك التي يستثيرها، فيقول بعضهم إنها تكفي.. ويقول آخرون بكل بساطة: قطعا لا تكفي..وقد يكون في استراتيجية الكاتب ومن خلال العلاقة بين النص والعنوان إنه، قد حسم أمر الإشكالية، فجاءنا منتصرا للسلب، فتتفجر الإشكالية الأم وتنفجر عنها فرضيات كبرى منها:
النص إعادة كتابة لقصة الخطيئة الأصلية باعتبارها أصلا لاهوتيا مشتركا بين الأديان الكبرى ودرسا في الأخلاق والرفعة الروحية والتنزه الفلسفي، وفي منزلة الإنسان يتردد بين الحيوانية والألوهية، كما يشاء الفكر المثالي أن يفهم الإنسان وتاريخه وأصله ومصيره...وكأن الإنسان، في طبقة ما من طبقات المعنى في هذا النص، يحيا قدرية تراجيدية من طراز كوني، وهي أنه آثم أمس واليوم وغدا، وأن عليه أن يعمل على اجتناب المصير الكارثي، فيفعل وهو يعلم أنه قاصر على ذلك، ساقط في مستنقع الخطيئة، هالك في النهاية..
وكل القصص "العصرية" هي استعادة للنصوص القديمة المؤسسة للوعي واللاوعي الإنساني من حيث هو وعي أو لا وعي معذّب، يعذبه الشعور بالإثم والعبودية والانتفاء المطلق للحرية، مقابل الانصياع الكامل لجبرية مذلة وحتمية قاتلة..ويتنزل ضمن ذلك سؤال الاختيار وسؤال الخير والشر، وسؤال المقدس والمدنس، وسؤال الظلم والهيمنة والاستعمار والجريمة والقتل..لأن كل ذلك امتداد لغريزة الشهوة..شهوة كل شيء مختزلة في شهوة الفرج..
النص أصولي لاهوتي بامتياز، ولكنه محكوم بمنطق أنا (كذا)لا بمنطق عليّ أن أكون (كذا..) لأن ما أنا به كائن هو الأصل في تكويني، وهو جذر محنتي، وهو صليبي الذي أظل أجرجره أبدا.. أما ما عليّ أن أكون فهو مسألة أخلاقية فلسفية عقلية آتية من خارجي، حتى وإن صدرت عن عقلي أنا..وفي ذلك فيض من القول في الطبيعة والثقافة.. وإلا فبماذا نحن آدميون؟؟ ننتسب إليه انتسابا سلاليّا وتكوينيا ووراثيا، وأعظم ما أورثنا إياه الخطيئة الأصلية، نأتيها مثلما أتاها، أو نصبو إليها وإن انضبطنا أو قمعتنا الدولة دونها...
كذا يجيب الكاتب إجابة سردية كامنة عن سؤال محوري: ما مأتى الشر؟؟ وما السبيل إلى اجتنابه؟ ويعيش قلقا مبتدعا مستطرفا، في بنية سردية حواريّة مخاتلة غير مفصحة عن مكامنها إلا باستدراج وانتباه إلى "الجوقة" الحواريّة المتفاعلة في تشكيل الخطاب المتعدد الأصوات، وتوجيه دلالته إلى حيث لا منتهى ولا مستقرّ..
ولنا في حواريته باب إلى الأصوات الكبرى المتجاوبة فيه، وما اكتنّ في كنفها من أصوات فرعيّة..
والقصة كما يعيد الكاتب كتابتها، ولا نعني استنساخها، هي قصة آدم وحوّاء، باعتبارها قصة الإنسانيّة في بحثها الأبدي عن "الأمان" المفقود..
ويبرز صوت آدم، صوت راو/شخصيّة، يحكي قصته، ويتقلب في وجوه، هي وجوهه، وينشر فينا فكره ورؤيته لذاته وللعالم، فيحتجّ فيقع من "الإقناع" موقعا ما..
صوت آدم:
1) كما يقدمه الراوي:
يبدو شخصية مركبة تركيبا ثنائيا، فهو من جهة أولى، محافظ (أحافظ على..) منضبط، محترم لقوانين "السير" يخشى الوقوع في المحضور والمحذور، فلا يرد على الاتصالات ( يخالها إغراءات وغوايات شيطانية..) يلوذ بحجة "الصداقة" ثوبا قيميا ثقافيّا حديثا طارئا على الأصل التكويني الغريزي، باحثا عن "الأمان" ضديدا للخطورة وما تعنيه من هلاك ووقوع في الإثم الممكن والمودي بصاحبه إلى نار الندم ونار جهنّم..وهو يعتبر "المسافة" ضمان السلامة واجتناب الحوادث(المنكرات التي ليست بمعتادة..كذا تعرف المعاجم الحدث والحادث..) وهذه المسافة (مسافة الأمان ) هي الفاصل بين الكون الملائكي والكون الغريزي للمخلوق الآدمي، ينهى عن القرب من الشجرة (والقرب حين حصوله خرق لقانون المسافة) وفي الثقافة الجماعية تقترن الشجرة والثمرة والمرأة في إطار "وسوسة الشيطان" وقوة إغوائه، ليخرج الإنسان من حال الملائكية الساكنة المطلقة الخالدة، إلى حال البشرية البهيمية الأبدية المعذبة..
وكذا يعيد الكاتب كتابة القصة مستثمرا عالم المدينة و"زحمة المرور" (ضمن ما نعتبره استعارة كبرى ذات فروع، وهي استعارة القيادة أو السياقة...) والاكتظاظ والالتحام البشري في الفضاءات العمومية، وما قد تعنيه من تقارب مثير مزعج للباحثين عن الأمان المستحيل أصلا..
وهو يعيش خوفا أبديّا واستعدادا لا يني "للفرملة" باعتبارها فعلا قمعيّا تسلطه الذات على الرغبة، بالقوة المستوجبة، كلما رأت خطرا محدقا متخذا شكل امرأة..
وهذه الفرملة هي أصوات عدّة ونصوص كامنة في الأعماق، هي خطابات زاجرة ناهية محذرة متوعدة ملوّحة بمرّ العذاب وأقسى الألم، ترقد في العمق، وتستثار عند الحاجة..
ولكل ما تقدّم أصل هو أصل الأصول وأم الحوادث، وعلّة العلل، نكتشفه بتعاقب المخاطبات وتداعي الأفكار وتناسلها تبريرا وتفسيرا واحتجاجا. فللخوف والحذر والقلق والرهبة وسوء الظن بالذات وبالآخر (أي بالأخرى) مردّ إلى الشهوة الواقعة في المركز من تكوين الإنسان. وليس في هذا ما يستطرف سوى أن الراوي يقدم صورة عن نفسه، هي على قدر عظيم من الصدق والعلم بالسريرة والحرص على اجتناب خطاب العفّة الرسميّ الذي حفظه عن درس الأخلاق في مؤسسات المجتمع:
"عندما تصلين إلى السّرير وأبدأ باستنشاق رائحة جسدك، يرعبني ذلك، فأبتعد، فالشهوة ليس لها أمان يا صديقتي. ولعلها في لحظة ما لم تعد تفرق بين صديقة وحبيبة، إذا اختلطت الصورتان وتقابلتا في الحضور والغياب، فأنا شخص سرعان ما أنزلق على كل جسدٍ عطريٍّ، ناضجةٌ كُمَّثْراه.."
إنه صوت "الإنسان الاجتماعيّ" الذي تغلبه مصالحه الضيقة وتهزم قيمه الثقافيّة، فيتحرك فيه "الشرّ الأصليّ" المتجذر المنحدر إلى أبعد كهوف التاريخ والزمان، فإذا هو جسد وحسّ بل حواسّ وغريزة ورعب وهروب..وبكل الصدق والتعرّي تتحدد الهويّة بلا تردد ولا مواربة ولا "حياء":
"أنا شخص سرعان ما أنزلق على كل جسد عطريّ.."
تلك هي الخطيئة الأصلية المتكررة أبدا والمسرودة سردا تكرريّا لحكي ما كان وما سوف يكون، ما دامت شروط الفعل/ الحادث ثابتة عاملة أبدا..
ولا يخفى ما في هذه اللوحة/ القصّة من أبعاد "إيروتيكيّة" غير خافية على ذي نظر، ولكنّ البعد الأبرز والأدل فيها هو ذاك الذي تقترن فيه الشهوة بالرعب والهروب وإنكار الحال وهي ماثلة حاصلة، فهي الهويّة وعنوان الكيان واختزال التاريخ والحضارة والصراع والقتال والفناء...
وما الرعب والهروب سوى رد الفعل الثقافيّ الأخلاقيّ القمعي الذي يعيه الراوي ويعلم عبثيته ولامعناه، ولكنه لا يتنكر له وإن كرهه، بل هو يتمسك به ويجاهد ويجهد في سبيل إعلاء كلمته وتغليبه..إنه جاعل منه إيروسا سماويّا تطهيريّا يعرج به ومنه إلى السماء بعد أن يتخبط دهورا في أوحال الرذيلة..
ذاك هو برنامج الشخصية/ الإنسان يغويه الجسد والثمرة المحرمة، فيقبل ويهمّ وقد يقع وقد يمتنع..ولكنه بين هذا وذاك متردّد بين نزول وصعود، ووقوع ونهوض، وتطهر وتدنّس وقوة وضعف..وهو بعد كل ذلك "مؤمن" بخلاصه وعودته إلى أصله السماوي الإلهيّ قبل أن يكون..
إنه "إيروس" دينيّ ثنائيّ ضدّي مضن، ولكن الكاتب يقدم له صيغة "شخصيّة" لا تنكر فيها لأصل التكوين، بل هو جاعل من الشهوة موضوعا للشهوة، لأنه إن لم يشته مات، وانتفى معنى أن يصبو ويعلو شبقه واغتلامه، ففي كل ذلك معنى الوجود والجهاد والسعي لبلوغ النجاة.. فيقبل على المغامرة راغبا في رعب، مجنونا في عقل، آملا أن يفنى جسدا في جسد:
"إن وقعت وقعت على حريرٍ، فيلتهمني ذلك الجسد، فلا أصاب إلا ببعض ألم شهوة مجنونة"
وكلما تقدمنا في المخاطبات لاحظنا مزيدا من التعري والتحدي والصدق والتنصل من قشور الثقافة والأخلاق، ويكون ذلك أول ما يكون، في تصوير الذات على حالها الأصلية الأصيلة..ويتجاوب حرفا النص، ويجيب الراوي/الكاتب عن استفهام(العنوان) باستفهام هو آخر القول وفصل الخطاب:
فمن ذا الذي يستطيع أن ينيم الوحش إن صحا؟
وهذا الاستفهام، الاختتامي خطابا والابتدائي فكرا واحتجاجا، تكثيف للقصة والأطروحة والحجة والإنسان والأصل والتاريخ، ما أتى وما سيأتي..ففي معنى الانتفاء أو الاستحالة إثبات الهوية "الوحشية" للإنسان من وجهة نظر أنثربولوجية، بلا حكم قيمي، وفيه شعور حاد بالألم ووعي معذب يقترن بالإصداع بالحقيقة المرعبة..وانتشارا للنسق الإيروسي الخصب، يحاور الراوي "وحشه" النائم (الوحش صورة إيروسية متعددة الأبعاد تماما كالكمثرى صورة للجسد والعضو الانثويين..) أي هو كما كان وكما هو الآن مغمورا تحت طبقات التحضر والتثقف والسياسة والتربية والعقل والدين..وكان ينبغي أن تتضافر كل هذه القوى لكي تنيم الوحش ولا تقتله، ويظهر الإنسان"العصري" العاقل لينشر قيم المحبة والصداقة والتواصل والسلم والتعايش بين الأفراد والشعوب.. فيصدق نفسه أحيانا، ويصدقه السامعون، بغباء، كثيرا..
وفي بنية الشرط احتمال حدوث كارثي.. فحين يصحو الوحش ينهار كل البناء الورقي اللفظي الزائف، ويظهر الإنسان في وجهه البدائي البدئي العدواني الغريزي، وتعلو فيه شهوة كل شيء، فيعربد ويغتصب النساء والأمم، ويعلن نفسه امبراطورا سيدا للأرض.. فيفتح ما يفتح حتى يسقطه وحش أشدّ..
كذا بدا لنا النص كثيرا خصبا وإن شحّ ظاهرا واكتسى ثوبا دلاليّا مغالطا متداولا في الصحف السيارة ومنتديات الدردشة النسويّة (أتكون صداقة بين الرجل والمرأة؟)..
ونعتقد أن مقاصد الكاتب أكثر من ذلك، وأن النص رامز في استحياء وبساطة مقصودة، ساكت منتظر أن تقوله أنت، فاللغة تقول ما استطاعت، وهي تاركة لك أن تقول ما يبقى، وهو الأعظم..
والنص لذلك مفتوح على آفاق دلالية رحبة، جامع سابح بنا في عوالم النساء والحضارة والتاريخ والسياسة..وأقصى ما يمكن بلوغه منها أن الإنسان لا يتطور، وهذا معلوم، وأن سيرورة الترقّي الروحي والعقليّ شاقّة مضنية، يمكن أن تنكسر وترتد في أي لحظة، والتاريخ المعاصر بل الراهن الإعلامي بما يقدمه من معطيات عن العنف والاغتصاب في سلوك الأفراد والدول، يؤكد فكرة الكاتب ورعبه وهو يعي "الوحش" وإن نام..
2) كما تقدمه المحاورة (نسميها حواء)
هي صورته الخارجية، أو هو كما يبدو في عين المحاورة العاقلة الصديقة المدنية الحريصة على التواصل، القلقة لانقطاعه، وأشد ما يقلقها تطرفه ووقوعه ضحية تفكيره الثنائي القطعي الحاسم، وهي تجد في المأثورات الشعبية التي لا تخلو من إيحاء ما يبين عن أزمة الراوي، ولك في التباس الضمائر مجال للعب التأويلي الطريف:
"يا بطّخه يا بتكسر مخّه"!!
وهو إلى ذلك "مفرمل أصلا" لا يثير الخوف، فيه نبل العاشقين ووفاؤهم، مميز بين صورة الحبيبة وصورة الصديقة، عاقل كسائر المواطنين الصالحين، إذ يحترم قواعد العيش معا ويلتزم تقاليد التواصل السلمي بين الجنسين..
وتعنينا هذه الصورة "الثانية" من حيث أنها خارجية ساكنة واثقة لا قلق فيها، ولكنها قاصرة عن بلوغ الحقيقة، ولا ترى صاحبتها، من زاوية نظرها، الوحش النائم في الأعماق.. وكذا سائر الناس أو معظمهم، لا نرى فيهم أو منهم إلا ما "يسرّ.." ولا تأتينا لحظة الصدق إلا من الذات تسبر غورها، وتقول: هذا أنا كما أنا، فاحذروني..وذاك ما كان من الراوي وهو يعترف اعتراف المتطهر الناشد للسلامة والغفران والرقيّ.. وفي انتظار ذلك يقول ما يخجل ولا يخجله، ويجهر بما نكتم، فنكذب وإن صدقنا...
صوت حواء:
نسمعه صوتا ثانيا، يحكيه صوت الراوي/الكاتب، فهي تقول ما يريد أن تقول لأنه صانعها ومنطقها حين يشاء بما يشاء.. وهي رغم ذلك خلاصة لأصوات كثيرة تقول قولها، وتقول هي قول نساء كثيرات، لما للمتخيل من روابط معقدة بما يسمى الواقع..
نراها هنا في بعدين:
الأول: تبدو فيه هادئة ثابتة واثقة متمكنة من "براديغم" تفكيرها، متعالية على الراوي المتخلخل والمهلهل من وجهة نظرها، لذلك هي مشفقة عليه في سخرية لطيفة.. ولكنها مطمئنة إليه آمنة شره، فلا شر فيه لأنه "مفرمل" ومحبّ، ولا يمكن أن يقع في ما يخل بأصول الصداقة..وهذا البعد يحكم سلوكها التواصلي الخطابيّ، فنراها تغذو ذاك الخطاب مفردات حاملة لقيم "عصريّة" (تواصل، اعتدال، نبذ التطرف، صداقة، عقل...) فلا تشعرنا في الشطر الأول من خطابها أنها تعيش في مجتمع قمعيّ مثلما لمسنا في خطاب الراوي، ولا تكشف عن أي قلق أو صراع أو توتّر.. وهذا أمر يحتاج نظرا، وهو ما يتولاه الراوي..
الثاني: نحتاج فيه إلى صوت الراوي العليم لنكتشف ما حجبه الخطاب المنقول، فإذا هي مسكونة مثله تماما بالوحش، فتتحول، وهو يراها، من معلمة حكيمة صديقة، فتستعيد أو تصعّد صورتها البدائيّة، فإذا هي في الأدغال من التاريخ، بعيدا عن قيم الحداثة، تقودها المحركات القديمة إذ يتثاب فيها "الوحش" فيها ليصحو:
"تضحك بخبث غواية امرأة شهيّة، ربما شعرت برعشة خفيفة تحرك أعضاءها للنشيد!"
وبعين الحصيف العليم المنتصر تراجيديّا، يتابع السيرورة التراجيدية لانهيار منظومة الصداقة وانتفاض وحش الغريزة المدمّر..:
"وربما زادت في تلك اللحظة رعشتها!"
كذا يكذبها ويكشف لنا زيفها وورقيّتها، فيستحيل التقابل بينه وبينها تماثلا، صديقان مسكونان بالوحش، لا يعلمان متى يصحو.. ولك أن تعدها في أوضع أفضل من حيث السلوك، وأن تعده في وضع أفضل من حيث العلم.. وقد تكون في مرقى التحضر في درجة أرفع، ولكن الراوي لا يعترف بهاته الفوارق، لأن السقوط ممكن في أي لحظة...
هي تقول قول الشاعر وتطلب طلبه: كن صديقي.. وهو يهرب من المطلب ولا يأمن نفسه ولا يأمنها هي أصلا.. أليست أصل الغواية؟؟ كذا يقول في نفسه...
هكذا بدا لنا هذا النص: خفيفا بميزان، ثقيلا بميزان، ضيقا بمقياس، واسعا بمقياس..
وكذا هو الأدب، بل كل قول...