فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

حوار صحيفة الوطن العمانية

نشر في 7-5-2017 في ملحق أشرعة، أجرى الحوار الصحفي السوري وحيد تاجا

بداية أريد أن أشكرك على ذلك الوقت الممتع الذي قضيته وأنا أقرأ أعمالك وقصائدك.. وما كتب عنك.. حلوة تلك الشخصية المزاجية التي تتمتع بها والتي تنعكس بشكل واضح على كل ما تخط يداك. "أحببت" شهرزاد.. وعتبت على شروق، وقد تكون عشقتها، وحاولت فهم الحب والمرأة بشكل آخر.. استوقفني ديوانك "مزاج غزة العاصف" فقد كنت أدرك، حتى قبل قراءته، أنني سأكون وجها لوجه أمام مزاج فراس العاصف.. ولم يخب ظني كثيرا.. كما توقعت أن أجدني أمام قصائد مقاومة مختلفة كل الاختلاف عما عهدناه.. استمتعت بكل ما قرأت منك وعنك.

لا ينفِي الشاعر فراس حج محمد تهمة “المشاكس والإشكالي والجريء” التي يوجهها إليه كل من يكتب أو يتحدث عنه .. ويرى في حديث شيق مع ” أشرعة” أن هذه الصفات خاضعة أصلا للمواضعات الاجتماعية والدينية وما ألفه الناس. إذ تفترض هذه الأوصاف طرفين؛ أحدهما متمردا، والآخر “متمرَّدا عليه”.

الشاعر فراس عمر “حج محمّد” من مواليد مدينة نابلس عام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطينيّ الحديث. ويعمل حاليّا مشرفا تربويّا للّغة العربيّة في مديريّة التّربيّة والتّعليم/ جنوب نابلس. وصدر له شعرا : “أميرة الوجد”، “مزاج غزّة العاصف”، “وأنتِ وحدكِ أغنية”، “الحبّ أنْ”، فضلا عن مجموعة “أناشيد وقصائد” (للفتيان والفتيات). و نقدا: “ملامح من السّرد المعاصر- قراءات في القصّة القصيرة جدّاً- ” في ذكرى محمود درويش”ـ دراسة “قراءة في كتاب قلب العقرب للشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، ذلك المنتبه المختلف”. ونثرا : “رسائــل إلى شهرزاد”، “مــن طقوس القهوة المُرّة”، “دوائر العطش”، “يوميّات كاتب يدعى X ” (قصص وسرد )، “كأنّها نصف الحقيقة” (قصص وسرد )، “شهرزاد ما زالت تروي ـ مقالات في المرأة والإبداع النسائي”.

1ـ بداية، هل يمكن إعطاؤنا لمحة عن البدايات.. ومن هم الشعراء الذين كانوا مصدر إلهامك؟

أتقدم أولا بشكري الجزيل لإدارة جريدة الوطن العمانية وللصديق الأستاذ وحيد تاجا على هذا الحوار الذي يقدمني فيه للقارئ العربي. أما بالنسبة لسؤال البدايات والتكوين الشعري، فيصعب تحديد شاعر أو شاعرين تركوا أثرا في لغتي وصياغاتي الجمالية للجملة الشعرية أو في خلق النبات الشعري، إذ إنني كنت منذ طفولتي المبكرة أحب قراءة القصائد والأناشيد في المقررات الدراسية، وربما حفظت بعضها عن ظهر قلب وما زلت أحفظ بعضها إلى الآن. وبعد ذلك أخذت في قراءة المجاميع الشعرية التراثية، كالمعلقات، وكتب التراث الأدبية عموما ككتاب "أدب الكاتب" والشعر والشعراء لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ، والأمالي لأبي علي القالي والكامل في اللغة والأدب لأبي عباس المبرد، وقراءات متعددة في الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي وخاصة المتنبي وأبا تمام والبحتري، والشعر الصوفي لا سيما ابن عربي والحلاج، وصولا إلى الشعراء المعاصرين من محمود سامي البارودي وأحمد شوقي ومعروف الرصافي لمحمود درويش وأدونيس وأنسي الحاج ونزار قباني، وشعراء المقاومة الفلسطينية، وبعض الأصوات من الشعر العالمي كشكسبير وبابلو نيرودا. كل هؤلاء وغيرهم تركوا في شيئا ما، لمساءلة الوعي الخاص وكيف يمكن أن أكون وكيف يمكنني أن أكتب، حتى لا أكررهم، أو أكون مجرد صدى لأصواتهم.

2ـ لفتني اتفاق كل من كتب أو تحدث عنك على أنك "شاعر مشاكس، إشكالي، جريء". ما رأيك كـ "ناقد" بهذا الأمر؟ وأين ترى مكمن الإشكالية والجرأة عند الشاعر فراس حج محمد؟

ربما كانت هذه الأوصاف "المشاكس والإشكالي والجريء"، خاضعة أصلا للمواضعات الاجتماعية والدينية وما ألفه الناس، فأن تصدم الذائقة بشعر جديد وتطرق موضوعات جديدة وتتحدث عنها بشكل مستمر دون الالتفات لتلك الضجات المفتعلة، سيكون من الطبيعي من وجهة نظر المجتمع أن تكون "غير مؤدب" و"قليل أدب"، فتنعكس في لغة النقد إلى وصف جمالي له صدى صوت المجتمع كالمشاكس والإشكالي والجريء، إذ تفترض هذه الأوصاف طرفين؛ أحدهما متمردا، والآخر "متمرَّدا عليه".  

3ـ شروق في ديوانك "أميرة الوجد". هل هي فكرة لقصيدة وديوان شعر، أم أنها تجربة عاطفية فاشلة. بمعنى آخر كم تحمل كتاباتك، نثرا وشعرا، من السيرة الذاتية؟

لا أظن أن هناك تجربة فاشلة وأخرى ناجحة، كلها تجارب إنسانية، نصل فيها إلى حدّ معين، تترك فينا ما تترك من أثر، فتتسلل تلك التجارب إلى ما نكتب، شئنا أم أبينا، حاولنا أن نخفي ذلك أم نصرح به. فكتابات الكاتب بمجموعها هي هو، تجاربه، حياته، ولذلك فهي سجل سيرته الذاتية، فالكاتب عموما لا يكتب من فراغ، فكل قصيدة أو قصة هي رجع لموقف ما. وهنا علي أن أشير إلى أمر مهم، وهو أن أفضل الكتابة وأعمقها وأدومها عمرا ما كانت وليدة التجربة التي تؤثر في الكاتب، وتجعله خاضعا بصورة أو بأخرى لها ولشروطها، لتكون مادة خصبة ضمن شروط الإبداع الجمالي الذي يميز كاتبا عن آخر. وضمن هذا المنطق كان ديوان "أميرة الوجد" الذي وثق لتجربة إنسانية عاطفية، ولم تكن مجرد قصيدة أو فكرة لديوان شعر. 

4ـ لعل أول ما يلفت النظر في كل أعمالك تقريبا هو أنها تضم في وقت واحد كل تنوعات الثقافة الشعرية (الأنشودة، النص العمودي، والنص النثري والشعر الحر).. مما يشعرنا فعلا "أننا نقرأ أكثر من شاعر في الديوان الواحد الأمر" حسب تعبير الشاعر محمد حلمي الريشة. والسؤال ما الذي يفرض هذا الشكل أو غيره؟

منذ أول كتاب أصدرته وهو كتاب "رسائل إلى شهرزاد" حرصت أن يكون هناك نصوص متعددة بين الشعر والنثر، فضم الكتاب كل أنواع الشعر، بما في ذلك قصيدة مكتوبة باللهجة العامية، وتابعت هذا التنوع في كتاب "من طقوس القهوة المرة"، ولكن بشكل أقل شعريا، فلم يحتو الكتاب إلا على قصيدتين واحدة من الشعر الحر والأخرى من الشعر التقليدي، ولكنني في الكتاب حرصت على التنويع في أشكال السرد القصصي ما بين القصة القصيرة والقصيرة جدا والشذرة الفكرية، هذه الاستراتيجية في بناء الكتب اعتمدتها في كل الكتب الشعرية والنثرية، مؤداها رسالتان الأولى جمالية والأخرى توثيقية، فكل كتاب من تلك الكتب يدور حول محور معين، ويجسد تجربة ما، فكان من الطبيعي من وجهة نظري أن يضم الكتاب بين دفتيه كل النصوص الشعرية والنثرية التي تحدثت عن تلك التجربة.  

5ـ يرى النقاد أن أهم ركائز مشروعك الشعري هي اللغة الغنائية التلقائية والقريبة إلى حدّ التماهي مع لغة المتصوّفة ومزجها بالأحاسيس الجيّاشة، ما قولك؟ وبالتالي ما رأيك في ظاهرة الاستلهام من التراث الصوفي؟

الشعر ظاهرة غنائية طربية إنسانية صوفية تمتع الروح والوجدان أولا قبل أن تحاكي العقل، فالشعر لا يمتح من المعقول والمألوف، وربما لهذا السبب يجنح الشعر إلى اجتراح معقوليته الخاصة، وبالمجمل إذا لم يؤثر الشعر في القارئ تأثيرا مباشرا من خلال لغته التلقائية المفخخة بالمشاعر الجياشة، يفقد الشعر أهم ميزة من ميزاته الحيوية، وقد انتبه النقاد قديما لأهمية هذا الأمر، وعبروا عنه بمصطلح "السيرورة" التي تساعد على الشيوع والاستظهر وإحداث المتعة، ولذلك فالشاعر والصوفي يلتقيان هنا في هذه النقطة بالذات "الإمتاع الروحي"، فالمتصوفة هم من استعانوا بالشعر ليعبروا عن تجاربهم الروحية، أما الشاعر فهو صوفي بطبعه، ولكن النقد الحديث رأى المسألة بشكل معكوس، فرأى أن الشاعر متأثر بالصوفية والصوفيين مع أن المسألة ليست كذلك، ورضي الشعراء بهذا الرأي.  

6ـ يمكن القول: إن المرأة هي أهم ثيمة في كتاباتك، فهي المحرك والباعث والمحفز بل وهي النواة المركزية  لكل قصائدك ونثرك. فما الذي تمثله المرأة بالنسبة لك؟

التفت كثير من النقاد إلى هذه المسألة، وهي حقيقية، وأنطلق في التعبير عنها بشكل واع تماما، فأنا لم أكتب سوى لامرأة واحدة. وأما المسألة الثانية والمهمة أنني أنا نفسي صنيعة امرأة، منذ أن ولدتني أمي وتلقيت على يديها الغناء والشعر والموسيقى، إلى جدتي لأبي التي كانت "شهرزاد" ليالينا الطويلة تقص علينا الحكايات والأهازيج والنكات والأمثال الشعبية، وتاريخ الناس المعيش الشفوي، إلى آخر امرأة عرفتها وشاركتني الفكرة والكتابة. فالمرأة بالنسبة لي كياني الشخصي ووحيي الذاتي وأماني الذي إليه ألجأ كلما التبست علي أمور الحياة وتكالبت علي أوجاعها.

7ـ وما حكايتك مع "شهرزاد"؟ هل هي المثل الأعلى للمرأة عندك حيث صدر لك في عام 2013 "رسائل إلى شهرزاد"، وكنت أسست صفحة على الفيس بوك تحت اسم "الليلة الثالثة بعد الألف، شهرزاد وحكايات منتصف الليل"، وها أنت تعود الآن بكتاب “شهرزاد ما زالت تروي”؟

أول امرأة أطلقت عليها لقب "شهرزاد" كانت جدتي التي كانت بارعة في السرد الذي لا ينتهي، وهذا كل ما كنت أعرفه عن شهرزاد أنها امرأة سرد وقصص، بعد ذلك تطور هذا الرمز ليصبح دالا يشير إلى امرأة ما لها القدرة على التغيير وإعادة الخلق من جديد، كنت أبحث عن "شهرزاد" تلك التي تغيرني من الداخل، وهذا كان مطمحا ذاتيا، عبرت عنه في كتاب "رسائل إلى شهرزاد"، وصاحبتني هذه الشخصية بحمولاتها الحية والفكرية والواقعية، إلى أن رأيت "شهرزاد" هي كل امرأة تحمل هما اجتماعيا ورسائل حياة خالدة، فعبرت عن هذه الفكرة في كتاب "شهرزاد ما زالت تروي"، إذ هو كتاب فكري نقدي، يسلط الضوء على إبداع المرأة وأفكارها وقدرتها على التغيير من خلال كتاباتها، ولم تنحصر في الدور التقليدي للمرأة، أو في الصورة التقليدية كـ"أنثى" للمتعة والسرير.  

8ـ كان لافتا موقف الكاتبة إيمان زياد، التي استنكرت أن يكون لها مقال في كتابك “شهرزاد ما زالت تروي”. حيث اعتبرته كتاب يهين المرأة ويعد الكاتبات جواري؟

هناك كتاب ومثقفون لا يرون ما أرى، ومن حقهم الطبيعي أن يروا المسألة حسب قناعاتهم، ربما لو نظرنا إلى شهرزاد/ الأسطورة بطلة الحكايات القديمة بشكل فكري مجرد لرأيناها مناضلة وليست جارية، استخدمت فن الممكن، ولعبت دور السياسي المحنك في تغيير الأوضاع. مع الإشارة هنا أن المرأة اليوم لم تختلف صورتها عما كانت قديمة، فهي مستعبدة أيضا وبطرق حديثة وحداثية، وتحتاج إلى "شهرزاد" جديدة لإنقاذها من هذه الورطات المتتالية.

9ـ عدا عن كتابك الموسوعي "الحب أنْ"، لا تكاد قصيدة أو قطعة نثرية تخلو من الحديث عن الحب، العذري تارة، والصوفي تارة أخرى. ما هو مفهومك للحب؟

أن تكون محبا عاشقا فأنت حي وحر، فالله فطرك على الحب لتعيشه وليس لتكتمه أو تقتله، فالحب ليس حراما أو جريمة، وهنا أستذكر ما قاله الشاعر والفيلسوف عمر الخيام "ما أضيع اليوم الذي مر بي// من غير أن أهوى وأن أعشقا". فممارسة الحب في كل شؤون الحياة هو علامة على أنك تتمتع بسلام روحي ومتناغم مع فطرتك، وستشعر كم أن هذا الكون جميل وكم هو الله جميل ويفيض حبا في ذاتك.

10ـ هناك تأثر واضح بالقرآن الكريم في كل ما تكتب تقريبا من نثر أو شعر؟

القرآن الكريم من أكثر الكتب التي قرأتها وتأثرت بها، وأحفظ الكثير من سوره وآياته غيبا، فقد صاحبني القرآن وصاحبته منذ كنت يافعا، فدرسته وتأملت ما فيه من جماليات فكرية وأسلوبية ودقة تعبيرية عن المعاني. فحضور الآيات والتعابير القرآنية أمر طبيعي حيث يكون لازما، إذ تحل الآية أو التعبير القرآني عفوا في محلها من النص تداعيا تلقائيا، إذ إن النص يكون يطلبها ويعبر بها لأنها أقوى في التعبير وأجمل، فتتناغم مع السياق الشعري أو النثري تناغما واضحا ولا تشعر بالإقحام.  

11ـ رأى أحد النقاد أن افتقاد وجود أي تأثير للقرآن الكريم في ديوان "الحب أن"، نقطة على الكاتب وليس له، وتساءل كيف استطاع "فراس حج محمد" أن يكتب بعيدا عن ثقافة شكلته أدبيا قبل أن يتشكل فكريا/ دينيا؟

الفكرة العامة والتفصيلية في "الحب أن" تقوم على أن الحب موجود في كل وقت وفي كل الأشياء، وهناك أبعاد صوفية ودينية في بعض مقاطع الديوان، وربما غاب اللفظ القرآني عن النص ولكن النسغ الروحي الديني الصوفي الوجداني كان حاضرا. هناك مقطوعات تشير إلى ما ورد في الإنجيل، وهناك مقاطع صوفية تشير إلى الاتحاد والحلول، وربما تحيل إلى ما قاله الحلاج يوما "فإذا مسَّـك شيء مسّنــي// فإذاً أنت أنا في كلّ حـال"

12ـ وماذا عن طغيان الهم الفكري والفلسفي في معظم قصائدك؟

النص يحمل صاحبه بكل ما فيه من هموم فكرية وفلسفية. وهذا الجانب أخذت بملاحظته شخصيا فيما أكتبه من شعر بفعل التأمل في مسائل الموت والحياة والحب نفسه، وبفعل القراءات الفكرية والفلسفية المعمقة لمجموعة كبيرة من المؤلفات التي ستجد صدى لها في تلك القصائد دون أن تتنازل عن تلقائيتها وحيويتها لتكون قريبة إلى القارئ بعيدا عن الإرهاق الفكري الفلسفي المعقد الذي يحيل النص إلى منظومة لغوية معقدة تستعصي على التلقي الإيجابي المباشر وتثير فيه المتعة أيضا.

13ـ المعروف أن الفنان التشكيلي يرسم من وحي القصيدة، ولكن في قصيدتك، نجدنا أقرب إلى قصيدة مستوحاة من لوحة تشكيلية؟

العلاقة متداخلة بين الفنون جميعها، فكما أن الفنان التشكيلي يعبر بالخطوط والألوان عن الفكرة، كذلك الشاعر فإنه "يرسم بالكلمات" كما قال نزار قباني، كما أن الشاعر يهتم برسم صوره التعبيرية المشهدية مجسدة كلوحة فنية ناطقة بالنغم، عدا أن لي اهتماما بالفن التشكيلي واطعلت على كثير من التجارب والمدارس الفنية من الواقعية إلى التكعيبية وصولا إلى السوريالية، ربما كان هذا هو السبب في مثل هذا التداخل بين القصيدة واللوحة، وتبادلهما التأثر والتأثير.

14. تطرقت في "يوميات كاتب يدعىX"، الى العالم الافتراضي المجنون، وما يدور به من مؤامرات وخبايا. واعترفت بكره الفيسبوك. ما حقيقة موقفك من هذا العالم وكيف ترى تأثيره إبداعيا واجتماعيا؟

يشكل الفيس بوك نمطا حداثيا للكتابة، أهم ما يميزه التفاعل بين الكاتب والقارئ، وسبق أن كتبت في ظاهرة الفيس بوك عدة مقالات ناقشت فيها ذلك الأثر الذي يتركه الفيسبوك علينا نحن الكتاب، وكم استطاع هذا "المنتج الإبداعي" من التأثير فينا، وبطبيعة ما نكتب، وأشير هنا إلى تجربة الشاعر الفلسطيني زكريا محمد الذي عبر عن هذا التأثير وهذه الإيجابية في ديوانين له وهما "علندى" و"كشتبان" وأشار إلى شيء من هذا في مقدمة ديوانه "كشتبان" الذي هو قصائد "فيسبوكية" بالمفهوم التفاعلي الإيجابي. أما تلك النظرة السلبية للفيسبوك والكره له ربما لأنه أجبرنا على التخلي عن بعض عادتنا القديمة في القراءة والكتابة كما طرحت في كتاب "يوميات كاتب يدعى X" الذي جعلنا أشبه بكائنات إلكترونية، تحيا وتعشق وتصادق افتراضيا.

15ـ عندما تحدثت عن المرأة الجاهلة في نص "ذات لقاء في المدينة رسالة شفوية حادة"، تقصدت كتابة النص باللغة المحكية، وعندما تحدثت عن نفسك في قصيدة "مسخ لغوي" استعملت ألفاظا تشاؤمية لوصف حالتك في حين أنك استخدمت ألفاظا أكثر تفاؤلا لوصف الآخرين. لماذا؟ وإلى أي مدى يمكن تطابق اللفظ مع المضمون في الشعر؟

لا بد من أن يتطابق اللفظ مع المضمون، وهذه قضية نقدية مهمة قديمة وحديثة، فلكل مقام مقال يناسبه، ويعبر عنه، كما أن الواقعية تفترض لغتها المناسبة للفكرة، فعندما كتبت نص "ذات لقاء في المدينة رسالة شفوية حادة" كنت أعبر عن واقعية الفكرة كما حدثت، دون تزويق أو تجميل أو تفصيح، ويحمل هذا النص هجائية من نوع خاص، أما "مسخ لغوي" فقد كانت الألفاظ تناسب المعاني والصور المتناقضة بين أنا وهم، وكان لكل صورة من الصور ألفاظها التي تناسبها.

16ـ يلاحظ غياب المكان في أكثر أعمالك، حتى في ديوان "مزاج غزة العاصف" غابت الجغرافيا كليا في القسم الأول. لماذا؟

ما التفت إليه الآن بعد قراءة هذا السؤال هو ما أهمية ذكر المكان؟ لا وجود للمكان حقيقة إلا خارج الذات، فعلى كل ذات أن تتخذ من ذاتها مكانا وجغرافيا خاصة تنطلق منها إلى كل مكان وجغرافيا، هذا أمر، والأمر الآخر هو أنني كاتب إلكتروني، ذو فضائي مفتوح دون تحديد للجغرافيا، فماذا تعني الجغرافيا الخاصة إذن؟ ربما ستكون معيقا أو خللا بنيويا في النص وأنا أتوجه في هذا النص لكل القراء بغض النظر عن جغرافياتهم المحدودة.

17 ـ لاحظت تكرارك لـ كلمة "بعض" كثيرا في (مزاج غزة العاصف)، سواء في عناوين القصائد أو كلماتها؟

نحن لا نسيطر على الكل، لا كل الذات، ولا كل الآخر، ولا كل المعنى، هذا إحساس بواقعية تتجنب المثالية والاحتواء الكامل، فإن رأيت وفهمت "بعض" الذات والمعنى فأنا أكون قد نجحت نوعا ما، تاركا "بعض" ذاتي وذوات الآخرين ليروا ما يرونه، لعلنا نكتمل، مع أنني أشك في إمكانية هذا الاكتمال.

18ـ انتقد محمد عمر يوسف القراعين الإغراق في التشاؤم في ديوانك (مزاج غزة العاصف). ما رأيك؟ وهل أنت متشائم إلى الحد الذي تذهب إليه في كتاباتك؟

ليس هناك ما هو أسوأ من الحرب، فلا منطقية فيها ولا رحمة، فإذا اشتعلت ستدمر كل الجمال الكوني والإنساني وتصبح وحشا ضاريا يلتهم الأخضر واليابس، في ديوان "مزاج غزة العاصف" كانت هذه الفكرة المسيطرة علي وأنا أكتب قصائد هذا الديوان، فقد كتبت قصائده في مدة (54) يوما هي مدة الحرب، وكنت أشاهد المجازر والموت غير المبرر والمجاني والفظيع والوحشي، فما عساي أن أقول إلا ما قال أبو العلاء المعري الذي شك بكل جدوى الوجود يوما وكان واقعيا وليس متشائما: "غير مجد في ملتي واعتقادي// نوح باك ولا ترنم شادي". فالحرب كفيلة بصناعة العبث. ومع ذلك لا أظن نفسي متشائما خارجا حدود النص المكتوب عن الحرب وجنونها.

19ـ جاءت قصائد اجتياح غزة، مختلفة جدا عما اعتدناه من شعر المقاومة، فقد "أوجعتنا دون صراخ، أثرت فينا دون بكاء"، وسؤالي كيف ترى شعر المقاومة اليوم؟ وهل تمثل عودة الشاعر الفلسطيني إلى الذات انسلاخا عن مجتمعه وقضيته؟ وما هو مفهومك للالتزام؟

"الشعر في ظل الحرب" عموما يختلف عن غيره، والشاعر الفلسطيني لم يترك شعر المقاومة يوما، حتى وهو يلتفت إلى ذاته ويحبها ويدور في فلكها، هو يؤكد حضوره بصيغة وجودية إنسانية، تثبت للآخر المحتل/ العدو أننا ما زلنا لم نهزم، لذلك نحن نقاوم أيضا بقصيدة الغزل كما نقاوم بقصيدة الحرب، لتصبح المقاومة ليست فقط حمل السلاح بل أن تثبت وتعيش وتمارس حياتك على هذا "المتاح من الوطن" فأنت مقاوم وملتزم بمعنى وجودي كبير ومفتوح إنسانيا على مطلق الأشياء. وفي قصائد "مزاج غزة العاصف" لم أكتب عن الطائرات والضحايا والدمار، وإنما كتبت ما يشعر فيه كل إنسان يرى تلك الجريمة المشهودة من ضياع وغرق في الجنون، فربما لذلك كانت مختلفة عن كل ما كتب عن الحرب خلال الحرب وبعدها.

20. كيف تنظر إلى علاقة المثقف بالسلطة السياسية؟ وما المطلوب من المثقف الفلسطيني في هذه المرحلة بالذات؟

ربما علينا أن نتحدث عن سلطات أخرى غير السلطة السياسية، فهناك السلطة الدينية التي تناصب العداء للمثقف أكثر من السلطة السياسية وتعتبره خارجيا ومهووسا، أو "مرتدا" "آبقا" "زنديقا"، والسلطة الاجتماعية المتحالفة تلقائيا مع السلطة الدينية في نظرتها للمثقف، وهاتان السلطتان هما بلا شك صياغة السلطة السياسية التي لا تنظر بعين الرضا للمثقف وتعمل على إقصائه وتحجيم دوره، فالعلاقة بينهما مريبة في الأعم الأغلب.

وعن علاقة المثقف الفلسطيني بالسلطة أيا كان نوعها، تندرج في هذا السياق، وهي بالمجمل علاقة غير ودية مع السلطة الدينية والاجتماعية وحيادية مع السلطة السياسية، فأغلب مثقفينا الفلسطينيين موظفو سلطة، ولكنهم غير مثقفي سلطة في الغالب، وهذا ما يحسب لهم، فلا تشيع في كتاباتهم التمجيد السلطوي، بل كثيرون منهم ينتقدون معبرين عن قناعاتهم، كما أن من يتساوق مع السلطة السياسية في الرأي يتساوق معها معبرا أيضا عن قناعاته الشخصية، على اعتبار أن ما آل إليه المشروع الوطني الفلسطيني كان جهدا "فصائليا" وطنيا وهو المتاح والممكن.

21ـ كيف ترى الفارق بين شعر الداخل الفلسطيني وشعر الشتات؟

في السبعينيات وما بعدها كان ينظر إلى شعر الشتات أنه فنيا متطور أكثر ومفتوح على آفاق جمالية أرحب، وما فتئ النقد يشير إلى محمود درويش وتطوراته الجمالية، لم تكن هذه الخاصية متوفرة للشاعر في الداخل، فلم يكن منشغلا بتطوير جماليات القصيدة بقدر ما كان يريد التعبير عن الحدث الذي يعيشه يوميا من قتل واعتقال وتشريد. أما اليوم فهنا في فلسطين ولدت اتجاهات فنية حديثة في الشعر، واستطاع الشاعر الفلسطيني في الداخل أن يضيق الفجوة بين الشعر الفلسطيني في الشتات وبين ما ينتجه من شعر في الداخل من الناحية الجمالية والفنية، وتخلت القصيدة عن "عنتريتها" لتبحث عن جماليتها في قصيدة الومضة وقصيدة النثر وتوظيف الأسطورة والسرد الشعري، دون أن يتخلى الشعر الفلسطيني في الداخل أو في الخارج عن موضوعة فلسطين وما ينتجه الواقع المرير من مآس تتوالد كل لحظة.

22. على الصعيد الإبداعي، هل تعتبر وجودك في الصفة الغربية ميزة أم أنه حرمك من ميزة ما؟

لم يعد لوجود الشخص في أي مكان ما ميزة إبداعية في ظل هذا الانفتاح على العالم، وتوفر سبل الاطلاع على المنجز الإبداعي العربي والعالمي، فالتكنولوجيا وأدواتها وأساليبها المعاصرة لم تجعل الكاتب في عزلة عن الآخرين، بل على العكس مكنته من الاطلاع المباشر والدائم على كل التجارب الإنسانية والتواصل مع الآخرين، فالضفة الغربية لم تعد مكانا ضيقا وجغرافيا محاصرة كما كانت من قبل، فثمة أشياء قد تغيرت لصالح الإبداع، وصارت الإصدارات الحديثة من كتب ومجلات متاحة للجميع، وصار المكان جاذبا للمبدعين من خارج فلسطين، ويكفي للتدليل على ذلك إقامة معرض الكتاب الدولي السنوي الذي يقام في فلسطين وتشارك فيه العديد من الدول العربية وغيرها، ويشارك في فعالياته العديد من الأدباء العرب.

المصدر: الوطن العمانية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 315 مشاهدة
نشرت فى 9 مايو 2017 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

726,077

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.