محمود شقير يواصل الحنين لمدينته الأولى!
فراس حج محمد
يواصل الكاتب الفلسطيني محمود شقير الكتابة للفتيان والفتيات من خلال تعاون وطيد وعميق مع جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، والتي أخرجت للنور العديد من إبداعات شقير القصصية والروائية لطلاب المدارس من فتيات وفتيان أو أطفال دون سن العاشرة، وها هو يكتب شيئا من "سيرة" ذاتية، عاش بعض تفاصيلها في المدينة المقدسة، مدينته الأولى، القدس، فماذا يقول شقير في هذه السيرة؟
إنها إذن "القدس مدينتي الأولى"، هكذا يعنون شقير هذه السيرة، فهل كان يقصد شقير بالأولى تلك المدينة العريقة من وجه القدس الذي عرفه قبل الاحتلال؟ ربما أراد أن ينفي تعلقه الوجداني بأي مدينة أخرى، فأصرّ على إضافة المدينة إلى الذات لتصبح "مدينتي"، يا لله!! ألهذا الحد يستولي الحنين على الأشخاص ليذوبوا في المكان ويتوحدوا فيه؟!
وتناول شقير في هذه السيرة عبر (95) صفحة من القطع الصغير، جوانب من حياته التي عاشها في المدينة المقدسة؛ طفولته وشبابه وكهولته بعد أن تركها مجبرا على الرحيل عنها، ويسجل فيها بعض ظواهر المدينة في الأربعينيات من القرن العشرين وحتى إبعاده عنها، والعودة إليها مرة أخرى لتكتمل الدائرة في القدس، فيتحدث شقير عن تعلمه في مدارس المدينة، وعمله معلما في بعض مدارسها، وتجواله في شوارعها، وتأمله لبناياتها وملامحها، ليعيش واقعها الحالي بصورتها القديمة المختزنة في الذاكرة!
كما، ويتحدث شقير عن اشتغاله بالسياسة، وتفرغه لها تفرغا كاملا، ليصبح ناشطا سياسيا، يعرضه ذلك للملاحقة والاعتقال الإداري، ويضطر أحيانا للتخفي بعيدا عن عيون الاحتلال، حتى يقع أخيرا بين أيديهم ليتم إبعاده!
لا يطيل شقير في الحديث عن المنفى والمدن التي عاش فيها، على الرغم من أنه عاش (18) سنة في المنافي، وجرّب مدنا كثيرة من بيروت لعمان لهنسكي وحتى براغ، إلا أنه لم يتحدث عن تلك المدن بالتفصيل غير ما قدمه من ملحوظات عامة حول الوضع النفسي الذي عاشه منفيا يعاني من عدم الاستقرار، حتى يسمح له بالعودة عام 1993 مع مجموعة من العائدين بعد اتفاق أوسلو الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية و(إسرائيل)، ليعود إلى مدينته الأولى.
يعاود الحنين شقير من جديد، فيسير في شوارع المدينة، وكأن وجهها الحالي لم يعجبه، فسرعان ما تقفز صورة المدينة الأولى إلى الذاكرة، تلك المدينة التي تغص بالذكريات والجمال والوطن، إذ لم يصب هذا الوجه بالتشوه، فلم يبرح ذاكرته، وكأنه يريد أن يثبت وجه المدينة الأصيل الذي عرفه، قبل أن تغير دولة المحتلين الملامح والأبنية والوجه والطابع!
توظف السيرة اللغة البسيطة البعيدة عن تقنيات التعقيد اللغوي، فيسرد الكاتب ببساطة أحداثا وقعت له، تتناسب وأعمار هؤلاء، وتحبب إليهم المدينة. والقاطن فيها لم يبرحها ولم تبرحه، وتعيد إلى الأذهان حقيقة البعد الحضاري والثقافي والسياسي للمدينة.
تظهر هذه السيرة المقتضبة أن ذاكرة شقير مكتنزة بالأحداث العميقة، التي تؤهله لكتابة سيرة موسعة، يتحدث فيها بالتفصيل عن بعض ما سكت عنه أو لم يشأ أن يستفيض فيه، فهل سيكتفي شقير بهذه المقتضبات، فتضيع كثير من الأحداث التي مرّ فيها ومرّت فيها القضية الفلسطينية، والعمل السياسي الحزبي في فلسطين؟ عدا التوسع في بيان حقيقة الوضع الاجتماعي بشكل عام للمدينة، الذي بدا باهتا في الحضور في هذه السيرة بحكم أنها محددة الهدف في التعريف بالرابط الوجداني بين المكان والكاتب، وموجهة لفئة من القرّاء، لا يعنيها من الأحداث أو الأفكار أكثر مما طرح في "القدس مدينتي الأولى"، مع العلم أن هناك كتبا للمؤلف قد تناول فيها جانبا من سيرته الذاتية ككتابه "مرايا الغياب"، أو كتابه "ظل آحر للمدينة"، إذ يتناول فيه الحديث عن مدينة القدس كذلك.
وأخيرا، ما الذي تضيفه هذه السيرة لأدب الأطفال؟
إن "سيرة" الكاتب شقير هذه، تعد سبقا في أدب الأطفال، في أنها تناولت سيرة الكاتب نفسه، بعد أن كنا نقرأ لكتّاب كثيرين سيرا غيرية لأبطال تاريخيين وسياسيين، تأتي هذه السيرة بفتح جديد في التعريف بالكاتب نفسه بلغته هو، مع شيء من الارتباط بالمكان والأحداث الكبرى، فربما كان محمود شقير هو صاحب الريادة في كتابة سيرة ذاتية للأطفال، وهو بذلك يضيف بعدا جديدا لأدب الأطفال في الأدب العربي بشكل عام، وفي فلسطين بشكل خاص.