عن مشرط كمال الرياحي وأشياء أخرى
فراس حج محمد/ فلسطين
بفضل صديقتين من صديقاتي الكاتبات انشغلت بالروائي التونسي كمال الرياحي، دفعتاني إلى التعرُّف إليه عن قرب، فقرأت ما كتبتاه عنه أوّلاً، ودفعني الفضول ثانياً للبحث عن هذا الكاتب "الوحشيّ" "غير المهذّب" لأشاهد عدّة مقابلاتٍ تلفزيونيّة معه، كاتب يشبه نفسه بمزاجه الخاصّ، له طريقته التي تميّزه عن غيره، طَلِق في الحديث مع محاوريه، ذَرِب اللسان، يشرح ويسهب ويطنب، أعتقد أنّه "كاتب أفعال" جيّد، بمعنى أنّه "ثرثار" ممتاز ويصلح للرواية، عدا أنّه- ظاهريّاً- يبدو سعيداً، وصاحب نكتة إلّا أنّه كاتب معبّأ بالكوارث والحزن والمرارة، ولم تكن حياته مرفّهة، لقد عانى كثيراً، وها هي آثار معاناته تطفحو على سطح الكتابة الساخن بل والملتهب في كلّ ما كتب من سرد، ذلك يمنحه القدرة على بناء نصّ سرديّ يقوم على المفارقة، أو الفكاهة أو عليهما معاً.
هذا انطباع أوليّ عن كمال الرياحي الروائي التونسي الواصل إلى أعتاب جائزة البوكر وكتارا، والحاصل على عدّة جوائز في الرواية العربيّة والسرد العربي، أحببته، وصرت أفكّر ببعض أفكاره، أعجبني ما صرح به أنّه لا يريد أن يكون شيءٌ من كتبه في المقرّرات الدراسيّة، حتّى لا يشتمه الطلاب، يحبّ أن يقرأوه سرّاً، ويتعاطونه كما يتعاطى الحشّاشون الحشيش.
أعجبني كذلك تقييمه لذاته ومواهبه، فقد "رحم التونسيّين من شعره" فأقلع عن قول الشعر وأخلص للرواية، ذكّرني موقفه بموقف الكاتب مكسيم غوركي الذي اكتشف أنّه ليس شاعراً فأقلع عن قول الشعر هو أيضاً، فقال في كتابه "كيف تعلّمتُ الكتابة": "كتبتُ الشعر بسهولة، لكنّي رأيت أنّ أشعاري رديئة حتّى القبح، واحتقرت نفسي لعدم مقدرتي، وعدم موهبتي في كتابة الشعر" (ترجمة مالك صقور، دار الحصاد للنشر والتوزيع، ص29). مع أنّ الرياحي ليس مثل مكسيم غوركي؛ فلم يحتقر نفسه بسبب ذلك، بل يتحدث عن الموضوع بكثير من السخرية والفكاهة، ويُنهي الحديث عن ذلك بضحكة تشعرك بأنّه كان مسروراً لهذا القرار، وليس نادماً أو متحسّراً.
بكلّ هذه العرامة السرديّة- إن صحّ القول- يذهب الرياحي إلى الرواية إلى حدّ التطرُّف أحياناً، فعلى الناس أن يقرأوا الروايات؛ فهي وحدها القادرة على التثقيف كما قال في إحدى مقابلاته، ففي الرواية يجد القارئ كلّ المعارف، فتغنيك الرواية عمّا عداها من الكتب.
في رواياته شيء من "قذارة الحياة" وعجائبها، وفضح أسرارها، هكذا خلُصت بعد تلك المقابلة التي تحدّث فيها عن "عشيقات النذل" (دار الساقي، بيروت، 2015) التي أدخل نفسه في سياقها الروائيّ على طريقة "التخييل الذاتي"، فهل كان يتحدّث عن نفسه؟ لقد أراح القرّاء والنقّاد من ثقل هذا السؤال "المخابراتي"، وأعطاهم شيئاً ممّا يبحثون عنه من حياته الخاصّة في هذه الرواية عبر الكمالين فيها، دون حدوث التطابق التامّ بطبيعة الحال، بل خلط الواقعي بالمتخيّل السردي، وتاهت الحقيقة. وكأنّه يريد أن يقول إن لم يعجبكم كمال واحد فخذوا كمالين، اشبعوا فيهما، كمال الريحاني وكمال اليحياوي، ها هما معكم في "عشيقات النذل". لعلّ فعلته تلك- بعيداً عن لعبة السرد الروائي المخاتل بين الذاتي والتخييلي- هي مغازلة لقرّائه أو هديّته لهم، وهو الكاتب المغروم بآراء قرّائه، والحريص عليها وتقديرها إلى درجة أنّه يخونهم "خيانات صغيرة"؛ فيعيد نشر تلك الرسائل التي تأتيه عبر صندوق الرسائل، فقد صرّح أنّ كل ما يأتيه من رسائل معرّض للنشر، وكل ما يرسله أيضاً من رسائل لا يمانع من أن ينشره الأصدقاء.
حديث الرياحي عن نفسه في تلك المقابلات كشف الكثير من صفاته ككاتب مشاكس، ومسكون بالرواية والهمّ الروائي. لفت انتباهي أيضاً حديثه عن رواية "المشرط" (سلسلة عيون المعاصرة، دار الجنوب، تونس، ط1، 2006). وقبل أن أقرأها في جلسة واحدة، بدت لي الرواية غريبة في موضوعها، إذ تمسّ ما تعرّضت له مؤخّرات النساء من اعتداء من "قنّاص النساء"، فيجرحهن في مؤخّراتهن التي تثير الرغبة أو الاستفزار وربّما تغيظ أكثر ممّا تبهج، لتتحوّل تلك المؤخّرات إلى موضوع اجتماعي وسياسي وثقافي وديني، عدا ذلك الموضوع الأثير الأصلي المتعلّق بالممارسة الجنسيّة عند النساء وعند الرجال على حدّ سواء.
ولعلّ الرصد السردي لموضوع المؤخّرة كما ورد في الرواية، وكما سأبيّنه فيما يأتي هو الأرضيّة الذهنيّة التي جعلت "شلّاط تونس" يقوم بفعلته فيستهدف مؤخّرات النساء بمشرطه الطبيّ، مشرط أعاد المؤخّرة إلى دائرة الضوء إعلاميّاً وثقافيّاً، لينهار معه ومع فعلته ذلك التابو، فيصبح الحديث عن الموضوع علنيّاً، ويسمّي الأشياء بمسمّياتها، كما رصده الرياحي نفسه فيما أثبته من أخبار مصوّرة عن صحف متعدّدة.
ذكّرتني الرواية بكتاب "موجز تاريخ الأرداف" للكاتب الفرنسي جان ليك هينيج، وعلى ما يبدو أنّ الرياحي لم يطّلع على الكتاب، فلم يأت على ذكره خلال حديثه عن مؤخّرات النساء، ولم يشر الرياحي من قريب أو بعيد لهذا الكتاب، على الرغم من أنّه نافع جدّاً لموضوعه، مع أنّ الرياحي ذكر قصة الكاتب يوسف الشاروني "المقرف المضحك أو من تاريخ حياة مؤخرة"، ووظّف الكثير من الأخبار الصحفيّة التي تدعم فكرته الروائيّة، وذكر كتباً كثيرة وظّف منها نصوصاً طويلة. وفي الكتاب الفرنسي "موجز تاريخ الأرداف" الكثير من روائع السرد حول الأرداف واقتحامها وجمالها، وكلّ ما يتعلّق بها سلباً وإيجاباً، صورةً ولغةً، ولعلّ الرواية تنطلق من تلك الجملة التي يذكرها جان ليك هينيج في كتابه: "الله وحده قادر على احتساب الأفكار النجسة الصاعدة من ردف النساء نحو دماغ الرجال"، وبسبب تلك "الأفكار النجسة" ولد "الشلاط ليُعملَ المشرط في مؤخّرات النساء.
اشترك الرياحي مع جان ليك هينيج في مساحة سرديّة لا بأس بها، فقد تعرض الرياحي إلى مؤخّرات النساء فوصفها؛ وأوّل مؤخّرة تحدّث عنها هي مؤخّرة زوجة الحارس، حارس مدينة المنافيخ الذي قبض عليه ولم يدعه يخرج من المدينة، وبعد أن يساعد السارد الحارس على الشفاء من المرض يعفو عنه ليتركه يخرج من المدينة، فتخرج معه زوجته، وفي الطريق تغويه، أوّلاً بتحسّس "شيئها"، ثم لتكشف له عن إستها، يقول السارد في وصف المشهد: "استدارت بإستها كان مثل قبّة بيضاء تلمع تحت ضوء القمر". (ص47) وينتهي الأمر بركوبها حتى الفجر، وأمّا امرأة الحافلة الموصوفة بأنّها امرأة قبيحة فمؤخّرتها تشفع لها، لنقرأ عنها هذا الوصف أيضاً: "مؤخّرتها الفسيحة تبدو كالإسفنجة تكفي عشرة رجال". (ص84)
وليس هذا وحسب، بل إنّ للمؤخّرات فعلها السردي الواضح في رواية "المشرط"، وارتبطت في السرد بما يوحي بالانتقاد غير المباشر لبعض جوانب الحياة الصحفيّة أو الثقافيّة في تونس، فعندما تحدّث السارد عن هندة الطالبة بمعهد الصحافة وفنون الأخبار وصفها على الشكل الآتي: "صاحبة أكبر مؤخّرة في تاريخ الصحافة التونسيّة، هي التي حالفها الحظّ ليلتها فقد وقفت أمامه (السلطان/ الديناصور) في قميص النوم شبه عارية". (ص90) وعلى العكس من هندة فإنّ سالمة المتديّنة ذات "المؤخرة المنقبضة" كانت تخجل من مؤخّرتها، فهي مثيرة للضحك، فلا تلفت الأنظار إليها، ولا يشتهيها الرجال. إضافة إلى سحر المؤخّرة وأثرها في نفس الرجل وانتباهه له، فإنّ أيضا لهذه المنطقة من الجسم لذّتها التي تؤثّر في المرأة تأثيراً عميقاً، وهذا ما تكشفه هندة عندما اعترضت عليها إحداهن أنها أصبحت بفضل الديناصور فيلسوفة، فتيجبها إجابة ذات دلالة مهمّة: "لو عرفتْ مؤخّرتُك سيفه لنطقت بالوحي يا عقدة العقد". (ص95).
ويغوص الرياحي أكثر من ذلك في موضوع المؤّخرة لتصبح عنواناً على الشخصيّة، فثمّة ارتباط بين المؤخّرة والشخصيّة، وكما يرى هينيج فإنّ "مؤخّرتنا تبقى الجزء الغريزي والبهيمي لدينا، فلا يمكنه أن يخدعنا، كما ليس بالإمكان إخفاء طبيعتها الحقيقيّة واندفاعاتها وعذاباتها. فهي إذاً، في أكثر من جانب، الوجه الخلفي لشخصيّتنا، سواء أكان الأمر متعلقاً بفرد أم منزل أو مدينة"، وكذلك الرياحي يرى أنّه بالإمكان "أن تكتشف شخصيّة الواحدة من مؤخّرتها، المومس، مثلاً، لا تترهّل أردافها أبداً". (ص93) بل ربّما كانت المؤّخرات مستودع أسرار الخلق، تقول الرواية على لسان السارد: "يبدو لي الآن أنّ كلّ أسرار الخلق في مؤخّراتهم، في ذلك المكان تتجمّع كلّ الحكايات التي لم تخرج إلى العلن، ويبدو والله أعلم، أنّه كلّما كبر حجم المؤخّرة كبرت أسرار المرء". (ص133). ويصل السرد بالمؤخّرة إلى المجال الاقتصادي في سياق المحافظة على الحياة والتأمين عليها كما حدث مع جينفير لوبيز وتأمينها على مؤخّرتها من عيون الرجال الذين يضايقونها إلى حدّ تصريحها قائلة "أنا مقهورة لأنّني محرومة من تحريك مؤخّرتي كما يجب". (ص121)
كل ذلك السرد حول المؤخّرة وملاحظتها بعيون الآخرين نساءً ورجالاً يعمّق المفارقة الضمنيّة التي قد يلمحها الدارس في الرواية، وذلك بالحضور الروائي الباهت والمتردّد لابن خلدون ومقدّمته، وفيما أصاب التمثال المركون في أحد شوارع مدينة تونس، لتصبح المؤخّرة أهمّ من تلك المقدّمة المنسيّة التي لم يلتفت إليها أحد وأولى بالملاحظة من التمثال وما أصابه من تشوّه نتيجة عمليّات الترميم، فبعد أن شرع السارد بالكتابة عن ابن خلدون يتراجع عن ذلك: "لقد حسمت أمري لن أكتب شيئاً بعد اليوم عن ابن خلدون. أصبحت متأكّداً أنّني أتوهّم. لا يمكن للتماثيل أن تتكلّم وتتحرّك ويصيبها القمّل. التماثيل هي التماثيل. عيب ما أفعله". (ص143)
جاء الحديث عن المؤخّرة في الأجزاء الثلاثة. وفيها يخلط السارد بين العجائبي- الغرائبي وبين الواقعي، ويبرّر أحدهما بالآخر أو يفسّره به، ليس فيما يخصّ سرديّات المؤخّرة فحسب، بل كلّ مناحي السرد وموضوعاته، فالعجائبي الوارد في الجزء الأوّل، أصبح مبرّراً وليس عجائبيّاً بالمقارنة لما يحصل في الجزءين الثاني والثالث، أو هكذا يريد أن يقول الكاتب وصرّح به، "ففي الحياة ما هو أعجب من هذا القصّ العجائبي" (ص143)، هكذا تبدو حياة الشخصيّات وربّما البشر جميعاً سلسلة لا متناهية من الأفعال الغرائبيّة التي أنتجتها الخطيئة الأولى التي أشار إليها في أواخر الجزء الأوّل بإثباته لوحة "الخطيئة الأصليّة" (ص65) للفنّان هوغو فان دير غوس دون تعليق، ليكتمل الجزء بما يرتبط بها، وليعود إلى ذلك في الجزء الثالث من خلال قصّة "في ذكر غادة الكامليليا وانهزام القنّاص مساء السبت" (ص155)، و"غادة الكاميليا" هو الوصف الذي أسبغه على "عاهرة الروتند"، سعاد، تلك المرأة المكتنزة التي تغلغلت في السارد حتّى العظم، وقد عاشت عيشة الخاطئة، ولكنّها ماتت موتة المؤمنة، فقد كانت في نظره أشرف امرأة، فهي امرأة المدينة كلّها.
على من يقرأ هذه الرواية أن يكون صبوراً؛ ليكتشف اللعبة السرديّة التي لعبها الرياحي، إذ تبدو الرواية للوهلة الأولى مفكّكة ومجرّد سرد حكائي فوضوي غير مترابط، هذه الفوضى التي يعيد ترتيب عناصرها شيئاً فشيئاً في الجزء الثالث، وهناك تكتمل الصورة الروائيّة لعالم يضج بالبشاعة أكثر ممّا تتخيّل أيّها القارئ، بشاعة في السياسة، وفي ممارسة التديُّن، وفي الجدل حول الموضوعات الاجتماعيّة، وفي الجنس وممارسته والنظر إليه، فما هذا المجتمع الذي تقلقه مؤخّرة لينفق في محاربتها كلّ هذا العبث؟ إنّها صفعة قويّة يوجّهها الروائي لوجه كلّ هؤلاء وأفكارهم التي لا تبالي بالحياة وجمالها، ولذلك يعلن الثورة مساء السبت في هذا المشهد الدالّ: "ظلّت عشيّة السبت حفلة للحبّ يشارك فيها كلّ التونسيّين بلا استثناء. ها هي سراويل الجينز الضيّقة تعود تكتسح الشارع وها هي أمواج المؤخّرات المركّزة بكلّ الأحجام والألوان وها هي النهود المندفعة تتحدّى العالم، كثيرها نسي حاملات الصدر وخرج حرّاً ينقر بحلمته القمصان الشفّافة القصيرة، ماذا ستفعل أيّها القناص التعِس أمام هذا الطوفان من الأجساد المتحابّة؟". (ص156)
تكشف هذه الرواية كيف يختبئ الناس وراء حكاياتهم حتّى وإن كانت غرائبيّة وعجائبيّة ليداووا أوجاعهم الشخصيّة وجوعهم الآني، يأكلون الحكايات ويشربون إيقاعاتها بفعل حمزة الثابتة، كما يأكلون النساء بالنظر إليهنّ كما يحدث في الواقع، وما الاعتداء على مؤخّرات النساء وجرحها بالمشرط إلّا رمز كبير الدلالة في الانتقام من النساء في أكثر شيء مثير ومميز بالنسبة لهنّ، كما جاء في تصريح جينفير لوبيز، وله صدى فيما حصل مع النساء التونسيّات، ولكن بعنف ودم ومشرط وضحايا.
تضرب الرواية على هذا الوتر الحسّاس، وتر الوهم، فالناس يتوهّمون أنّهم أحياء يتمتّعون، فتختفي الحدود بين المعرفة بالوهم وبين الحقيقة، تماماً مثل ما حدث مع سعاد والمخنّث، فهل فعلاً جامعها الكلب في بيت المخنّث بدلاً عنه؟ رمزيّة في الحدث والشخوص تتعالى على الواقع وتردّه إلى تلك العجائبيّة المرصودة في الجزء الأوّل إلى حدّ الهذيان، وكلّ حكاية عجائبيّة وردت في الجزء الأوّل سيجد لها القارئ صدىً بصورة أو بأخرى في معالجة المعيشي واليومي الذي غاص فيه الرياحي إلى درجة كشف العصب، ليشعر القارئ بالعري، ويلسعه البرد، وترجّه الصدمة؛ لعلّه يصحو من سكرته التي طال أمدها.
إنّ السؤال الذي ينهي به الرياحي الجزءين الأوّل والثاني: "من يصدق هذا الهراء؟" (ص74 وص112)، يصبح في ظل الواقع الذي نحياه: لماذا لا نصدق هذا الهراء والواقع أشدّ هراء منه؟ ولذلك اختفى السؤال في نهاية الجزء الثالث؛ لأنّ كثيراً من الحقائق صارت واضحة، وهي أشدّ ألماً من كلّ ذلك الهراء المبني على الحكايات والسرد المشتبه بالواقعي أو أنّه بين الواقعي والعجائبي، ليخلُص إلى أنّه واقعي، أو إنّه حقيقي تماماً كما تبيّن بعض الإشارات والأسماء الواردة فيه. هنا تبدو الرواية فعلاً "مشرطاً" طبيّاً يداوي الوعي، وليس مشرطاً بيد "الشلاط"، وبذلك يبني الكاتب مفارقة أخرى تناظريّة بين مشرطين مختلفين في الوظيفة ومكان العمل.
تجرح رواية "المشرط" الوعي وتهزّ الضمير والمعرفة، ولكنْ، ما جدوى كلّ ذلك ونحن لا نتحرّك وتأكلنا الخرافة ويستولي علينا غيرنا ويصادرون حتّى حكاياتنا ليسترزقوا بها؟ فليس فقط الكتّاب من يفعل ذلك، وإنّما أيضاً تجّار السياسة والدين يفعلون الشيء ذاته، ولكن لكلّ طريقته، ولكلّ أسلوبه. فإذا ما كان "الكتّاب أقذر خلق الله في الكون، لا يمكن أن تأمنهم على أسرارك أبداً، ويبيعونك في عمود رخيص أو في قصّة قصيرة على صفحات مجلّة مفلسة" (ص163)، فالآخرون أيضاً من سياسيّين ورجال دين أدعياء لا يَقِلّون عنهم قذارة وسوءاً، فتجارتهم بنا أكبر وأشدّ.
لقد حقن الرياحي القصّة الحقيقية "شلاط تونس" برمزيّة روائيّة وفكريّة، فتجاوز السرد الحدث الحقيقي إلى ما بعد ذلك الحدث إلى آفاق من التأويل والربط الفنّي، ليكشف عن البنية الاجتماعيّة وبنية التفكير ويسائل الوعي بأشدّ الوسائل والأساليب تأثيراً، وهي الرواية، معتمداً على الغرائبي بوصفه أغرب أساليب الرواية وأكثرها إمتاعاً وشهوة وشهيّة، ولكنّها الشهوة المحمّلة بالألم الشديد، والمفرّغة من اللذّة، مهما كان شكلها أو مدّتها أو كيفيّتها. وبذلك يبرهن الروائي كمال الرياحي أنّ السرد الغرائبي ذو طاقة واقعيّة، بل إنّه أشد التصاقاً من الواقعيّة التشاؤميّة، فليس هناك ما هو واقعي أكثر من "الواقعية السحرية" في البيئة العربيّة المعاصرة.