جدل
حول محمود درويش وأسراره الشخصية
فراس حج محمد/ فلسطين
الكاتبة سوسن الأبطح في مقالها المنشور في صحيفة الشرق الأوسط تحت عنوان "استغلال محمود درويش" (الجمعة 12-6-2020) حول حادثة "درويش- بركات" تحاول بالاعتماد على بعض نصوص درويش رد التهمة عنه، تلك التهمة التي جاءت في مقال سليم بركات (محمود درويش وأنا)، وصار درويش بفضلها أباً، وكذلك قيل بفضلها الكثير الكثير من الكلام.
ثمة ما يدخل النقد ومناهجه في متاهات، فتضيع الحقيقة، إن كان الناقد يبحث عن الحقيقة الشخصية المتعلقة بالأفراد/ الأدباء معتمدا على ما خلفه من نصوص. فإن تلك الأعمال لن يجد فيها ضالته، فتلك الأعمال ستخضع لفكرة مسبقة يبحث عنها الناقد ويريد إثباتها، فيلوي عنق النص لتأكيد وجهة نظره، فثمة قراءة نقدية تثبت ادعاء وتهمة، وثمة قراءة أخرى مغايرة للنصّ نفسه ربما تنفي التهمة وتبرّئ الشاعر، مع أنه ليس متهما، وسيجد كلا الطرفين ضالته في الشعر، فشعر درويش حمّال أوجه في التأويل على ما يظنّ النقاد والدارسون.
ولكن، ما الذي يبحث عنه الناقد عند دراسة العمل الأدبي؟ هل يبحث عن تفاصيل الحياة الشخصية، هكذا مجردة من أي معنى بلاغي أو جماليّ متصل بالنصوص والمشروع الإبداعي للشاعر؟ أظن أن من انشغل بدرويش إنسانا في التنقيب عن حياته الشخصية ليس ناقدا أدبيا بأي حال من الأحوال حتى وهو يحلل النصوص ليستخرج منها تفصيل حياة درويش ويعيد تركيب الصورة. لأنها بكل تأكيد ستصبح صورة مشوهة وغير كاملة.
لعله من نافلة القول تأكيد أن النقد معنيٌّ بجماليات النصّ، وليس معنيا بأي وجه من الوجوه النقدية بالكشف عن الأسرار، فليس من المعقول أن يتحول الناقد إلى محقق سري أو علني، ولذلك ما يكتبه الأصدقاء عن الأدباء له أهمية كبيرة، لأنه يأتي للناقد دون تتبع تفاصيل حياة الشخص من النصوص، ليعيد ترتيب أجزائها وتركيبها متجاهلا أحيانا الزمن الكتابي لتلك النصوص، وخاصة إذا لم يؤرخ الكاتب نفسه لنصوصه. تأتي هذه التفاصيل بالطريقة الطبيعية ومن مصادرها المنطقية، ولذلك سيكون لها ميزتها الخاصة في حياة الشاعر الشخصية، وليس حياته النصية.
في حوار جانبي مع الكاتب الفلسطيني إبراهيم جوهر حول نرجسية درويش، بعد أن طرح جوهر على صفحته في الفيسبوك هذه المسألة (9 آب 2019): {محمود درويش في قوله: "نرسيس لو كان أذكى قليلا لكسر مرآته...". سأدّعي هنا بأنّ "نرسيس" كان قناعا للشاعر... وهو يؤكّد نرسيسيّته}. بالنسبة لي لم أجد أن قول درويش له علاقة بالنرجسية كما فسر ذلك جوهر، فكتبت ردا على ذلك: "لا أدري لماذا تسيطر عليك يا صديقي فكرة نرجسية درويش. حتى أشعاره ليس فيها ذلك التغني بالأنا، بل تجده في الشعر حائرا شاكا يبحث عن يقين لا يجده؛ مثلا قصيدة "هو هادئ وأنا كذلك" وقصيدة "هي لا تحبك أنت"، وغيرهما من القصائد التي يبدو فيها درويش مهزوما أمام المرأة المعشوقة. أما الجملة التي أوردتها فلا تعني النرجسية أو النرسيسية بقدر ما تعني الاحتجاج على فعل نرسيس الذي كان أسير صورته في مرآة الماء، ولو كان ذكيا لما أصبح أسير صورة وينسى أنه صاحب الأصل، فالأصل معه ويحمله ومتحقق فيه شخصيا، فلماذا الافتتان بالصورة، فإذاً كان يرى درويش أن نرسيس غبي ونسي نفسه، وهذه الفكرة هي الأساس وليست الدلالة النرجسية". ثم تتوالى الردود بيننا وأنا متشبث برأيي، وفي كل مرة أدعم رأيي بموقف شعري أو أدبي أو حوار ثقافي عامّ.
في الحقيقة، كان دفاعي ناقصا نوعا ما إذ اعتمدت على شعر درويش، أنا ذلك الشخص الذي لا أعرفه ولم ألتق به، ولكن إبراهيم جوهر الذي التقى الشاعر وجالسه، أجابني بما يعرفه هو شخصيا: "أنا مصرّ على التّأويل الذي تدعمه وقائع وشهادات... أحيل المهتمين إلى ما كتبه د. فاروق مواسي، وما كتبته الروائية ليلى الأطرش التي كانت أجرت لقاء متلفزا مع الشاعر... وأنا لي تجربة حين عاد إلى رام الله والتقيناه بصحبة ياسر عبد ربه ومجموعة من المهتمين... وقتها سألته ستة أسئلة وهو أجاب باختصار شديد، وبعد السؤال الثالث قال ياسر عبد ربه: والله هذا الأخ (أنا) يصلح للعمل في المخابرات...!! أمّا حين ألقى محمد (حلمي) الرّيشة قصيدة "أنتِ وأنا والأبيض السيّئ الذكر" فكانت لغة الجسد والتعقيب تشي بما أذهب إليه". لم يفسر جوهر جملته الأخيرة؛ فكيف كانت لغة جسد درويش؟ وبم عقّب على القصيدة بعد ذلك؟
لقد جعلني هذا الموقف أغيّر رأيي. فثمة حياتان للشاعر المشهور، واحدة له ولحبيبته ولأصدقائه المقربين، وأخرى للعامة والأمسيات والوسط الثقافي والإعلامي، فلو أراد أحد الدارسين دراسة الجانب الشخصي من حياة الشعراء المشاهير، فلا يذهب إلى الأشعار والمنشورات والمقابلات الصحفية. هذا الجانب الشخصيّ من حياة أولئك المشاهر لا يجيب عليه إلا الأصدقاء، ومن تعاملوا معهم في الحياة، وموظفو الفنادق التي سكنوها، وبوابو العمارات التي كانت شققهم فيها، وجيرانهم، وسائقوهم ومرافقوهم، ومن حضر أمسياتهم الشعرية، وكيف كانوا يتعاملون مع الجمهور عندما كان يريد أحدهم محادثتهم، وكذلك الصحفيون الذين كانوا يدخلون في حوارات معهم وكيف كانوا يتصرفون في الجانب الإنساني البحت غير المكتوب في المقابلة الصحفية أو قبل بث الحلقات المتلفزة، واستطلاع آراء مضيفاتِ الطيران اللواتي عرفنهم في رحلاتهم الجوية، ربما كانوا متحرّشين وسيّئين، ونادلو المطاعم التي كانوا يأكلون فيها، والمقاهي التي كانوا يرتادونها، وعشيقاتهم ونساؤهم، مع أنه لا ثقة كبيرة هنا، لأنهم مع عشيقاتهم سيكونون مختلفين عن زوجاتهم إن كانوا متزوجين. ربما سيكون لهم وجه ثالث هنا خاص جدا ولا يمكن العثور على تفاصيله إلا من هذه العشيقة فقط. ستكون المهمة صعبة جدا، إن لم تكن مستحيلة، فأي امرأة عربية عشقت شاعرا ستصرح بذلك لأي دارس من الدارسين وتقدم المعلومات؟ فلا شيء يستحق المخاطرة ربما، ما دام هذا الشاعر الرمز مرّ في سريرها يوما ما ومنحها بعض متعة وبعض وقت وملامح سطر بعيد الدلالة في قصيدة بعيدة التأويل.
كل ذلك مصادر مهمة غير خادعة إن أردنا التعرف على المخفيّ من حياة درويش وغيره من المشاهير، لكن النصوص التي تركوها فهي خادعة وجدا، لأن الشعراء في نصوصهم غيرهم في الحياة. وثمة ما يستدعي أن نقول أكثر بناء على ذلك لتكون النتائج أكثر واقعية. سليم بركات قال جزءا من الحقيقة المخفية عن درويش، وربما شجّع آخرين ليفعلوا فعله. ننتظر لعلنا نرى من هو أجرأ من سليم بركات، ويعلن عن خفايا الشاعر المستورة. ولكن، ما فائدة كل تلك الأسرار؟ ربما لم تفلح النظريات والمذاهب النقدية في الإجابة على هذا السؤال مهما حاولت ربطه بالشعر والشاعر. ويبقى الفضول سيد المواقف كلها، ونفرح فرحا طفوليا أو مراهقا إذا ما عرفنا سرا لأحد الناس، فما بالكم إن كان هذا السر متعلقا بشاعرٍ مثل محمود درويش؟ سنكون أشدّ فرحا ونحن نخضّه ونلوكه في الأحاديث الخاصة والعامة. وسيظل وقتاً طويلاً دون أن يسكت عنه الناس، عامتهم وخاصتهم على السواء، ليكبر السرّ، وينتشر انتشار النار في الهشيم، وها هي النار لم تكفّ ألسنتها عن الاندلاع على الرغم من مرور اثنتي عشرة سنة على رحيل درويش، هذا الشاعر الموصوف حقا بأنه "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، كأنه لم يغادرنا إلى تلك الأبدية المطلقة.