فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة

النص في عين كاتبه قرآن

فراس حج محمد

في هذا الجزء من "تأمل تجربة الكتابة"، يحضرني خلال حوار مع الكاتبة والشاعرة مادونا عسكر على هامش نص المثل الشعبي الفلسطيني القائل: "القرد في عين أمه غزال"، أحاول صياغة مثل مشابه خاص بعالم الكتابة، ليكون "النص في عين كاتبه قرآن".

في حقيقة الأمر يبرز هذا المثل المستحدث مع كل مناقشة كاتب، شاعرا كان أو روائيا، لتكتشف أنه فعلا "النص في عين كاتبه قرآن". ماذا يعني ذلك؟ أنتبه أولا إلى عملية المقابلة بين المثل الأصلي والمثل المستحدث، وعملية التقليد الواضحة فيه، واستبدال كلمة محل أخرى دون إحداث خلل في إيقاع المثل أو ما يدل عليه. ولكن إشارته أصبحت مختلفة، فإذا كان المثل يشير إلى علاقة عاطفية بين القرد وأمه، تبدو العلاقة بين الكاتب ونصه علاقة أبعد من عاطفية، هي بالتأكيد عاطفية أيضا، ولكن لا تقف عند حدود تلك العلاقة.

الأم القردة ترى ابنها القرد غزالا، هي تراه في الحقيقة قردا مثلها، ولذلك فهي تراه وترى نفسها وكل أبناء جنسها من القرود أفضل من الغزال وفصائل الغزلان جميعا. عنصرية شوفينية بين الحيوانات كذلك. فكرة تبدو سطحية، ولكننا نحن الذين نرى ذلك عندما أطلقنا المثل. لا يهم ذلك الآن، ومن المهم أن نرى على هدي من هذا التفسير علاقة النص بكاتبه.

عندما نشرت المثل المستحدث على الفيسبوك، يكتب الصديق أحمد مسلم هذا التعليق الكاشف عن تلك المعضلة التي يعاني منها الكتّاب جميعا: "بالتأكيد، لأن عين الإنسان قاصرة، ومشكلة الإنسان بشكل عام ليس الكاتب وحده، فالجميع يظن أنه يملك الحقيقة المطلقة، وقال أهل الأمثال فيما معناه: ''إن الله عندما وزع الأرزاق لم يقبل أحد برزقه، وعندما وزع العقول قبل الجميع بعقله، لذلك نرى أن من غاب عقله لا يمكن أن يعترف بأنه مجنون، هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية أن هناك محاولات للسمو وأحيانا للتأله".

وعلى هدي من تعليق الصديق أحمد فإن الكاتب يستبسل، دائما أو في أغلب الأحيان، في الدفاع عن نصه، ويراه "قرآنا"، أي أنه نص مقدس كامل لا تشوبه العيوب، ولا يحق لأحد الانتقاص منه ومن قدره، وعلى القارئ أن يحترم هذا النص.

في الحوار الذي أشرت إليه أعلاه، كنت أدافع عن نص كتبته، ملخص رأي الشاعرة مادونا عسكر أن النص لا يشبهني، بمعنى أنه غريب عني وعن لغتي وليس فيه إحساسي، إنه طعن في شرف النص وانتسابه لي، فتحليل ((DNA لمركبات النص جعل الكاتبة مادونا ترى الغربة والغرابة في النص. إذن هو لا ينتمي للغتي، وهو دخيل، وهذا مقتل شديد للنص، فهو ابن غير شرعي لكاتبه.

هذا هو النص أعرضه وأستكمل الحديث عن عبقرية الكاتب الذي يرى نصه "قرآنا" لا يمسّ ولا ينقد ولا ينقض، هذا النص الذي داخلني معه الزهو عندما نشرته وعرضته للقراء:

يثيرني في النّساء صدورهنّ المكوّرةْ

وجوههنّ المدوّرةْ

شعورهنّ الشّبيهة بيت شعرٍ غزليّ

قافيةً مشفّرةْ

وجسم تزقزقُ في كتفيه العصافيرْ

وتنقر الرّيح قامته بشهوةٍ معطّرةْ

بياضهنّ الشفيفُ النّظيفْ

سمرتهنّ اللّينة المسكرةْ

وتشدّني رائحة النّدّ فيكِ

يسردني على مهلٍ عليكِ

ضوء الفجرِ

وحيُ اللهْ

جملة الإيقاعِ في سطر طويل المدّ كالنّخلةْ

واضحة مطهّرةْ

أخذت في تحليل النص، وأصبحت ناقد نفسي، ومستخرج ما في النص من جماليات. طريقة سيئة في الدفاع عن نص غير شرعي. وأخذت أحلل النص بنيويا، فرأيت أنه قائم على فكرتين متضاتين، تتسم الأولى بالمباشرة والحسية وعدم الثبات، وتتحدث عن جماعة، في حين أن القسم الثاني يتحدث عن مفرد فيه صفات روحية، وهو نص غير مباشر، وهو ثابت كوحي الله، عند هذه النقطة من النص تعبر الكاتبة عن أنها شعرت بنوع من النفور. بطبيعة الحال لم تقتنع الناقدة مادونا بتفسيري للنص أو تبرير جمالياته المنقوصة، ولكن بقي النص "قرآناً" في عين كاتبه، سبحانه الذي يرى أبعد مما يرى القارئ، وإن كان هذا القارئ ناقدا حصيفا وشاعرا معتبرا كالشاعرة والناقدة مادونا عسكر. فركبت رأسي كما يقول التعبير الشعبي، وأصررت على نشر النص.

يتعرض النص مرة أخرى لضربة من نوع آخر، وجاءت هذه الضربة القاتلة من الصديق مشهور البطران ، الكاتب والروائي ذي الحساسية المرهفة تجاه الأفكار والشعر، ويعزز موقفه السابق الذي كتبه فيما يخص شعر الغزل في قراءة سابقة لديوان "ما يشبه الرثاء". كتب مشهور التعليق الآتي: "لِمَ لا يثيرك عقلها، ذكاؤها، مهاراتها، طريقتها في إعداد القهوة؟ لماذا تصر أن تذهب في كل مرة إلى الجسد؟ هل جربت أن تكتب عن ظلال الجسد؟ إثاره؟ لا تكتب عن الحب. اكتب بحب".

الجملة الأخيرة كانت كأنها حقنة في العضل، "لا تكتب عن الحب، اكتب بحب". إذن فالنص ليس قرآنا وعليّ أن أقتنع، فها هما رسولان من رسل الأدب يقولان ذلك، علي أن أقتنع أن النص ذو مشاكل كثيرة، لم يفلح في الصمود واستحقاق الشرعية الجمالية، لذلك قمت بحجب النص عن القراء. ولأنني أحب النص لأنني كاتبه اعتمادا على المثل الأصلي "القرد في عين أمه غزال" ما زلت أرى النص القرد غزالا في عين كاتبه/ أمه. كأنه ابن مشوّه لا تستطيع أن تقتله ما دامت أنفاس الحياة تتردّد فيه.

هذه حالة، ومن المؤكد هناك حالات عند الشعراء والكتاب، وقد مررت بهذا الموقف عندما انتقدت شاعرا عراقيا، نشر أبياتا على حسابه في تويتير وأخذ يدافع بشراسة عن نصه، شاكرا لي محاولتي في النقد، تلك المحاولة التي لم تكن موفقة كما قال، ما جعلني أستعين برأي شاعر آخر ليرى رأيه في الأبيات، فكان جوابه لطيفا لبقا؛ ولم يقل في حق ذلك "القرآن" شيئا، ولكنه شدد على أننا بالفعل لا نكتب قرآنا، ونحتاج دائما للتصويب والمراجعة والمناقشة.

بقيت مسألة مهمة وأشارت إليها الكاتبة مادونا عسكر، وأنا في معمعة الدفاع عن النص، أن المعنى في نفسك. هنا لا بد من الانتصار للنقد، فحقيقة أن "المعنى في بطن الشاعر" مقولة بائسة لا معنى لها، وتدل على أن النص فشل في تقديم رؤيته، ولم تصل فكرته ولا رسالته للقارئ، أو أن القارئ فشل في التلقي، وربما تصادف وجود نص فاشل مع قارئ فاشل هنا مع هذا النص، ولذلك يجب أن يحمل النص مفاتيحه، وألا يكون طلسما أو طوطما سحريا يعجز القارئ عن فهمه بطريقة ما.

أشكر أصدقائي جميعا، هؤلاء الأصدقاء الذين يوجهون سهام النقد، فيصيبون النصوص في مقتل، لأنها تستحق تلك السهام القاتلة، ولولا هاتيكم السهام من حرّاس الجماليات الفنية لزاد الفتق واتسع على الراقع، وأنا أحمدُ لأصدقائي الكتّاب صراحتهم في تنبيهي إلى بشرية نصي الذي لن يكون يوما ما في نظري "قرآنا" لا يُنقد أو يُنقض أو يُنقص من قدره. فكلنا نصيب المعنى أو نخطئه وإن بقيت نصوصنا نحبها محبة الأم لابنها القرد التي تغاضت عن عيوبه وأصرت على أن تراه "غزالا" في جماله وخفة دمه.

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 159 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

725,742

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.