في تأمّل تجربة الكتابة
الارتجال يقتل الرجال أيها المثقفون!
فراس حج محمد
بثت إذاعة صوت فلسطين الساعة الثامنة والربع مساء الأحد 23/6/2019 حلقة جديدة من برنامج "آخر كلام" الذي يعده ويقدمه الإعلامي والشاعر أحمد زكارنة للحديث عن المهرجان العالمي للشعر الذي انطلقت أمسياته يوم الجمعة الموافق 21/6/2019 في العديد من مدن فلسطين، وكان زكارنة أحد المشاركين بالأمسية التي احتضنها متحف محمود درويش، وانطلقت الساعة السادسة مساء بالتزامن مع الفعاليات الأخرى في المدن الفلسطينية والجولان السوري المحتل.
واستضاف الإعلامي زكارنة لغرض الحديث عن "المبادرة الشعرية" كل من د. صبحي عبيد عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب وأستاذ الأدب العربي في جامعة بيرزيت، والشاعرة فاطمة نزال منسقة المبادرة للمهرجان العالمي للشعر التي انعقدت أمسياتها في فلسطين من شمالها إلى جنوبها، وعبّر فيها أكثر من 150 شاعرا عن همومهم الوطنية والذاتية. وكذلك استضافت الحلقة الشاعرة نداء يونس بصفتها شاعرة مشاركة في أمسية رام الله.
كانت مدة اللقاء ما يقارب خمسين دقيقة استهلك معظمها الناقد صبحي عبيد في إعادة محفوظه من الشعر الفلسطيني، واسترسل كثيرا في ذلك وحضرت المبادرة الشعرية العالمية في مداخلات بسيطة وغير عميقة، ولم يول معد البرنامج ومقدمه من خلال أسئلته المبادرة الاهتمام اللازم، وكان يهرب إلى الأسئلة العامة التي أضاعت هدف اللقاء المعلن عنه في بداية الحلقة.
لم يكن لمنسقة المبادرة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية فاطمة نزال سوى مداخلة قصيرة عامة، لم يتضح فيها طبيعة المبادرة وفلسفتها الإنسانية وما معنى أن تكون فلسطين التاريخية ومعها الجولان المحتل مشاركة مع أكثر من مئة وستين دولة حول العالم. ولم تعط الفرصة للرد على تلك الهجمة على المهرجان والمنظمين والشعراء المشاركين، إذ كان هذا دورها في توضيح فلسفة المبادرة، وثبت أن هناك خلطا فظيعا متعمدا أو غير متعمد عند رواد الفيسبوك بين التطبيع والمشاركة الدولية، كأننا كلما شاركنا بحدث عالمي يجب أن نقدم تصريحا مشفوعا بالقسم أننا لسنا مطبعين، وأننا مستقلون لا نعمل بتوجيه من فلان أو علّان. كان من الأولى من المنسقة توضيح كل تلك الإشكاليات، لا أن تذهب إلى لقاء تكون فيه مجرد ضيف هامشي، وكأن لسان حالها يقول: يكفيني شرف المشاركة في برنامج "آخر كلام"، وآخر همي ما يجب أن يقال.
لقد أسهب الدكتور صبحي عبيد في مداخلته الأولى في التعريف بالأدب الفلسطيني، الشعر تحديدا، وأقحم الكثير من القصائد، وأخذ يسرد علينا، نحن المستمعين، القصيدة تلو القصيدة مترنما بها يملؤه النشاط، كأنه في أمسية شعرية خاصة به، دون أدنى اعتبار للضيفتين الموجودتين أو مقدم الحلقة. في هذه النقطة بالذات لم يكن الناقد ناقدا، بل كان على أحسن الأقوال والأحوال مؤرخا أدبيا محدودا.
لقد تمددت شخصيته الأكاديمية في هذا اللقاء، وكان مستحوذا على الجو العام في مداخلاته الأخرى، وظهرت ذاتيته المفرطة، كعادة من تشبع بالأنا ليلغي وجود الحاضرين، كأنه يحاضر في طلبته في الجامعة في قاعة الدرس الجامعي. عليه أن يقول ويقول، وعلى الجميع أن يستمع، ويؤمّن على كلامه. لقد استطاع فرض شخصيته لدرجة أنك وأنت المستمع من خلال الأثير تسمع همهمات الضيفتين، وهما تعربان عن إعجابهما بما قدمه الناقد الحافظ صبحي عبيد. مما قزم دور مقدم الحلقة، ودور الضيفتين.
وأما بالنسبة للموضوع الأساسي للحلقة وما يتصل بالمهرجان العالمي للشعر فقد غابت كثير من القضايا التي كان من الأولى توجيه الحديث إليها، فلم يتطرق الناقد ولا المقدم إلى الشعراء المشاركين بالأمسيات الشعرية أو على الأقل المشاركين بأمسية محمود درويش، ولم يشر إلى ذلك التنوع في قصائد الشعراء وتجاربهم الأدبية الراسخة، لقد بدا الشعراء كأنهم وقود الفعاليات لا أكثر ليتمحور الحديث حول ناقد حافظ وشاعرة مشاركة! ولم يتم التطرق للموضوعات المطروحة سوى موضوع الحب، حيث ركزت نداء يونس على الحديث عن تجربتها الشخصية بكثير من الاستعراض والمثاقفة الاستعراضية وعلاقتها بأحد الكتاب الفرنسيين، وأعادت إلقاء قصيدتها التي ألقتها في أمسية المبادرة، بناء على أنها تلقت ردود فعل جيدة على القصيدة.
وكنوع من التأثر اللحظي الخارج عن سياق الحلقة والحديث، أقحمت الشاعرة فاطمة نزال نصا ليس له علاقة بموضوع المبادرة، إذ لم تكن مشاركة كشاعرة، وإنما اكتفت بالتنسيق العام وإدارة الحدث من خلال مجموعة منسقين في المحافظات والمدن الفلسطينية والاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين. وهذا بحد ذاته جهد مقدر عاليا، واستطاعت بفترة قياسية إنجاز مهمة عظيمة ربما تعجز عنها وزارة كوزارة الثقافة. ولكن، ليس ضروريا عندما يلقي أحد الضيوف قصيدة داخلة في صلب الحدث أن أقحم نفسي بفجاجة لألقي قصيدة كوني شاعرا. إنه نوع من اصطياد الفرص التي لم تكن سانحة أو مواتية.
فشل يسجله الإعلامي أحمد زكارنة في إدارته لحلقة "آخر كلام"، حلقة كانت مخصصة لمناقشة حدث عالمي (المهرجان العالمي للشعر). ليبدو الارتجال سيد الموقف. وكما قالوا الارتجال يقتل الرجال، لقد أمات زكارنة الحلقة وضيع الضيوف، وقزّم دور الشعر والشعراء، ولم يخرج المستمع بفكرة واضحة عن المبادرة التي تنظم بهذا الشكل في فلسطين، لتكون فلسطين شاعرة للحب والحرية والسلام، ولكن على طريقة شعرائها الذين أهملهم زكارنة ولم يحفل بهم، ولم يولهم الناقد صبحي عبيد ولا المنسقة العامة فاطمة نزال أي اهتمام.
إن هذا بلا شك سيؤثر في استجابة الشعراء في المرات القادمة إن دعوا إلى مثل هذه النشاطات، فلم يكن الشعراء في يوم من الأيام جوقة من الكومبارس لإظهار بطولة من أراد التمظهر على حسابهم، ويصعد على أكتافهم المثقلة بالمهمات الكبيرة، ولا على رؤوسهم ونفوسهم المشبعة بالأحلام الوردية.