التوقعات المرئية والمستقبل
د. زياد موسى عبد المعطي
التنبؤ والتوقع علم وخبرة، تحتاج إليه الدول والمجتمعات والأفراد لتحقيق الأهداف والتقدم، لا أقصد بذلك المنجمين ومن يضربون الودع أو الدجالين أو غير ذلك ممن يدعون العلم بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، بل أقصد التنبؤ والتوقع المبني على العلم والخبرة، فالتنبؤ ضروري للحياة وللتقدم والازدهار.
ففي العلم المعطيات تؤدي إلى النتائج، ومن المعروف أن من زرع حصد، ومن جد وجد، من يجتهد مثلاً في عمله في الغالب يكون حليفه التوفيق والنجاح والتقدم، ومن يجتهد الزراعة في زراعته ومتابعة محصوله في الغالب يجني محصولاً وفيراً عمن يهمل ولا يجتهد مثله.
ومثلاً يتوقع المدرسون الطلبة الذين يتفوقون ويحصلون على أعلى الدرجات من خلال ما يلاحظونه في الحصص والدروس، ويتوقع المعلمون المستقبل المشرق لهؤلاء الطلبة، وكثيراً ما ينجح توقع المعلمين المبني على واقع ذكاء واجتهاد الطلبة وعلى الخبرات الشخصية للمعلمين في التعاملات السابقة مع الطلبة، وعلى تاريخ المتوفقين السابقين.
وعلى مستوى الدول يحتاج المواطنون لمعرفة أحوال الطقس التي تقوم على معرفة علمية لاتخاذ اللازم في حالة هبوب الرياح، أو سقوط الأمطار، أو ارتفاع الأمواج مع المتعاملين مع السفن، والشبورة الجوية للمسافرين عبر الطرق البرية، وغير ذلك. ومن المهم أن تتخذ الدول التدابير اللازمة لمواجهة التغيرات المناخية المتوقعة في الأعوام القادمة سواء أكان ذلك يتمثل في أمطار غزيرة عن المعتاد أو سيول تدمر المدن والقرى، أو قلة وندرة في الأمطار والجفاف، يجب على الدول أن تعد نفسها لمواجهة المخاطر المتوقعة نتيجة لهذه التغيرات.
بل إن علماء التاريخ والسياسة يستطيعون توقع مستقبل الدول من خلال الواقع الحالي وتاريخ الدول والحضارات، فمثلاً كتب احد المؤرخين كتاباً قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بحوالي عشر سنوات توقع فيه انهيار الاتحاد السوفيتي من خلال معرفته بتاريخ القوى العظمى فيما سماه دورة القوى العظمى عبر التاريخ، حيث تكبر نفوذ بعض الدول ويتوسع نفوذها، ويتقدم اقتصادها، ويكثر أعداءها، فتهتم بالتسليح، وتدخل في صراعات عسكرية، فيحدث استنزاف لطاقتها، ويضمحل اقتصادها، وتتراجع قوتها، وتتفكك القوة العظمى وتتفكك إمبراطورية هذه القوة العظمى، وهذا ما حدث مع الاتحاد السوفيتي السابق، وحدث من قبله مع الإمبراطورية البريطانية والفرنسية في القرون القلية السابقة، وحدث مع الإمبراطورية العثمانية في القرون التي قبلها، وحدث مع الإمبراطورية الرومانية والفارسية قبل ظهور الإسلام، وهذ رؤية لعلماء التاريخ في دورات القوى العظمى، فكل قوة عظمى لها فترات ازدهار، وفترة اضمحلال، وفترة انهيار.
ومن التاريخ يتوقع أن الدول التي تهتم بالتعليم والتنمية البشرية، وتنمية قدرات مواطنيها تتقدم وتزدهر، فمن أهم الأسباب التي تؤدي إلى تقدم الدول الاهتمام بالتعليم والصحة وتنمية قدرات المواطنين، وكذلك الاهتمام بالبحث العلمي، وإرساء قواعد العدل، وقواعد الحرية، ففي التاريخ معطيات للحضارة والتقدم، وهناك أشياء مشتركة تقوم بها الدول التي ترغب في التقدم، فمن أخذ بهذه الأسباب يتوقع له التقدم، والدول التي تسير في اتجاه مخالف ومعاكس فمن المنطقي ألا تكون متقدمة.
التنبؤ في مجال الزراعة على جانب كبير من الأهمية، فمثلاً علماء الزراعة والمتخصصين في مجالات الزراعة المختلفة، يستطيعون تحديد الآفات المتوقع أن تصيب النباتات، ويقدمون التوصيات للوقاية من هذه الآفات قبل حدوثها، ويقدمون التوصيات لأفضل مواعيد الزراعة لتفادي الإصابة ببعض الآفات، واختيار أنسب الأوقات لنشاط النباتات لإعطاء أفضل إنتاجية، وفي مجال الإنتاج الحيواني والخدمة البيطرية يعطي العاملون في مجال الطب البيطري جرعات وقائية من الإصابة ببعض الأمراض التي تصيب الحيوانات، ويقدمون التوصيات باستخدام أنسب الأعلاف للحيوانات المختلفة المناسبة لأفضل إنتاجية.
وفي مجال الاستثمار نجد أنه من الضروري لأصحاب رؤوس الأموال إجراء دراسات جدوى قبل القيام بعمل مشروع جديد، وذلك لمعرفة فرص واحتمالات نجاح المشروع وتفادي فشل المشاريع وخسارة الأموال، فمثلاً في حالة انتاج منتج جديد يجب دراسة السوق لمعرفة المنافسين الذين ينتجون نفس السلعة وأسعار المنافسين لاختيار سعر المنتج لكي يستطيع المنافسة، وتوقع نصيب المنتج الجديد من السوق، وتوقع نمو حجم المبيعات، وكيفية التسويق للمنتج، وعمل الدعاية اللازمة، وغير ذلك من الدراسات.
التنبؤ يستخدم في مجال الطب، فمنذ زمن يتم تطعيم الأطفال للوقاية من الكثير من الأمراض مثل شلل الأطفال، والحصبة وغيرها، ويمكن التنبؤ بالأمراض التي قد تصيب بعض الأشخاص من خلال التاريخ المرضي للشخص وأفراد عائلته مثل مرض الضغط والسكري، ويمكن توقع الأمراض المحتملة بفحص حديثي الولادة لمعرفة الأمراض المحتملة لتلافي حدوثها مستقبلاً قدر الإمكان، ويعمل علماء في مجال الطب ومجالات أخرى على تطوير أنظمة لتوقع الأمراض المحتملة عبر اختبارات للجينات البشرية لتفادي الإصابة بالأمراض الوراثية.
وتمنحنا التقنيات الحديثة وسائل تساهم في معرفة وتوقع بعض الثروات الموجودة تحت التربة مثل تقنية الاستشعار عن بعد التي تساعد في استكشاف الموارد ورصدها مثل المياه، والمعادن، والغطاء النباتي، والتربة، وما تحت التربة من ثروات معدنية وبترول وغاز طبيعي وغير ذلك، وهذه التقنية تساعد على معرفة التغيرات التي تطرأ على هذه الموارد، خاصة التغيرات ذات التأثير السلبي، مثل الفيضانات، وتآكل الشواطئ، والتصحر، والتلوث، والجفاف، كما تعطي مؤشرات تساعد في التخطيط العمراني.
وفي مجال التخطيط للدول أرى أنه من الضروري أن يتم الاستعانة بذوي العلم والخبرة والكفاءة في المجالات المختلفة الذين يستطيعون وضع الخطط لمستقبل أفضل لأوطانهم بناء على معرفتهم بواقع وإمكانات بلدانهم والواقع العالمي، وضع أولويات لنهضة دولهم، فاختيار أصحاب العلم والخبرة والكفاءة ضروري للتخطيط والتنفيذ لكي نتوقع مستقبل أفض للأوطان.
وفي مجال المنافسات الرياضية يدرس المدربون المنافسون وطرقهم المختلفة أثناء المباريات وذلك ليتوقع أداء المنافسين أمام فرقهم، وحتى يستطيع المدربون وضع خطط تمكنهم من الفوز على منافسيهم، ووضع خطط وخطط بديلة حسب سير المباريات، والمدرب الناجح لابد أن يكون لديه حسن توقع وتنبؤ بما سوف يحدث في المباريات بناء على معرفته بفريقه وبمعرفته بمنافسيه.
وخلاصة الأمر أنه يجب علينا اتخاذ أسلوب علمي في حياتنا للتخطيط لمستقبل أفضل من خلال معرفتنا بالواقع والتاريخ، وبالعلم والأسلوبي العلمي والاجتهاد والتوكل على الله نتوقع مستقبل أفضل إن شاء الله.