لكتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
تفسير : { أَعُوذُ بالله مِنَ الشيطان الرجيم }:
في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )
وقت قراءة الاستعاذة :
المسألة الأولى :
· اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة ، وعن النخعي أنه بعدها ، وهو قول داود الأصفهاني ، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين ، وهؤلاء قالوا : الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال : ( آمين ) فبعد ذلك يقول : أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال : الله أكبر كبيراً ثلاث مرات ، والحمد لله كثيراً ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه .
· واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط ، وذكر الاستعاذة جزاء ، والجزاء متأخر عن الشرط ، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن ، ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل ، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم ، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب ، لقوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث مهلكات» وذكر منها إعجاب المرء بنفسه؛ فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان ، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة .
· قالوا : ولا يجوز أن يقال : إن المراد من قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ ، كما في قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، لأنه يقال : ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل .
أما جمهور الفقهاء فقالوا : لا شك أن قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت ، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقاً بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه ، ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية ، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان } [ الحج : 52 ] وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب .
وأقول : ههنا قول ثالث : وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر ، وبعدها بمقتضى القرآن ، جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان .
حكم الاستعاذة :
المسألة الثانية : قال عطاء : الاستعاذة واجبة لكل قراءة ، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها ، وقال ابن سيرين : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون : إنها غير واجبة .
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها .
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه : الأول : أنه عليه السلام واظب عليه ، فيكون واجباً لقوله تعالى : { واتبعوه } .
الثاني : أن قوله تعالى : { فاستعذ } أمر ، وهو للوجوب ، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات ، لأنه تعالى قال : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة .
الثالث : أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم ، لأن قوله : { فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] مشعر بذلك ، ودفع شر الشيطان واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة .
الرابع : أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة ، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة .
التعوذ في الصلاة :
المسألة الثالثة : التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين ، وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان ، لنا الآية التي تلوناها ، والخبر الذي رويناه ، وكلاهما يفيد الوجوب ، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب .
هل يسر بالتعوذ أو يجهر :
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم» : روي أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر به ، ثم قال : فإن جهر به جاز ، وإن أسر به أيضاً جاز وقال في «الإملاء» : ويجهر بالتعوذ ، فإن أسر لم يضر ، بين أن الجهر عنده أولى ، وأقول : الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة ، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار ، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر ، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم ، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء ، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية ، والأصل هو العدم .
هل يتعوذ في كل ركعة :
المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله عنه في «الأم» : قيل إنه يتعوذ في كل ركعة ، ثم قال : والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى ، وأقول : له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم ، وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] وكلمة إذا لا تفيد العموم ، ولقائل أن يقول : قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية ، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة ، والله أعلم .
صيغ الاستعاذة :
المسألة السادسة : أنه تعالى قال في سورة النحل : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] وقال في سورة أخرى { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } [ الدخان : 6 ] وفي سورة ثالثة { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 200 ] فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي : واجب أن يقول ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة ، قالوا : لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى : { فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] وموافق أيضاً لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم ، وقال أحمد : الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعاً بين الآيتين ، وقال بعض أصحابنا ، الأولى أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، لأن هذا أيضاً جمع بين الآيتين ، وروى البيهقي في «كتاب السنن» بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثاً وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقال الثوري والأوزاعي : الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ، وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال : قل يا محمد : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] .
وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعاً من الاستغراق في الله ، والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي .
هل التعوذ للقراءة أو للصلاة :
المسألة السابعة : التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة؟ عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة ، وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة ، ويتفرع على هذا الأصل فرعان : الفرع الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا؟ عندهما لا يتعوذ ، لأنه لا يقرأ ، وعنده يتعوذ ، وجه قولهما قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] علق الاستعاذة على القراءة ، ولا قراءة على المقتدي ، فلا يتعوذ ، ووجه قول أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة ، ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة ، الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول : أعوذ بالله ثم يكبر أم لا؟ عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات .
وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا :
السنة في القراءة :
المسألة الثامنة : السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل ، لقوله تعالى : { وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً }
لكتاب : تفسير القرطبي
مصدر الكتاب : موقع يعسوب
لقول في الاستعاذة وفيها اثنتا عشرة مسألة: الأولى - أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " أي إذا أردت أن تقرأ، فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر: وإني لآتيكم لذكرى الذي مضى * من الود واستئناف ما كان في غد أذاد ما يكون في غد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت، كما قال تعالى: " ثم دنى فتدلى " المعنى فتدلى ثم دنى، ومثله: " اقتربت الساعة وانشق القمر " وهو كثير.
الثانية - هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة.
واختلفوا فيه في الصلاة.
حكى النقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة.
وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان.
الثالثة - أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه
لفظ كتاب الله تعالى.
وروى عن ابن مسعود أنه قال: قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " يابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم ".
الرابعة - روى أبو داود وابن ماجة ف يسننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو (1): لا أدري أي صلاة هي ؟ فقال: " الله اكبر كبيرا الله أكبر كبيرا - ثلاثا - الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا - ثلاثا - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثا - أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه ".
قال عمرو همزه المؤتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر.
وقال ابن ماجة، المؤتة يعني الجنون.
والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه.
والكبر: التيه.
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل گبر ثم يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول: - لا إله إلا الله - ثلاثا ثم يقول: - الله أكبر كبيرا - ثلاثا - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "، ثم يقرأ.
وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم (2) رحمه الله أن الاستعاذة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هم السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم، قال ابن عطية: " وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى، كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد، ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقوا: إنه لا يجوز ".
الخامسة - قال المهدوي: أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة " الحمد " إلا حمزة فإنه أسرها..روى السدي (2) عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتحون القراءة
بالبسملة.
وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض، فإذا نسيه
القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ، ثم ابتدأ من أوله.
وبعضهم يقول: يستعسذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه، وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق، وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر.
السادسة - حكى الزهراوي قال: نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض.
قال غيره: كانت فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم تأسينا به.
السابعة - روى عن أبى هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة، وقاله داود.
قال أبو بكر بن العربي: " انتهى العى بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ".
وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة، وهذا نص وفإن الفائدة في لاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة ؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر، ليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا، وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة، كما قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته (1) ".
قال ابن العربي: " ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الظيطان الرجيم (2) " قال: ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر، فإن كان هذا
كما قال بعض الناس: إن الاستعاذة بعد القراءة كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولاتشبه أصل مالك ولافهمه، فالله أعلم بسر هذه الرواية ".
الثامنة - في فضل التعوذ.
روى مسلم عن سليمان بن صرد قال: آستتب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فقام إلى الرجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قال
__________
(1) آية 52 سورة الحج.
(2) آية 98 سورة النحل.
(*)
سول الله صلى الله عليه وسلم آنفا ؟ قال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فقال له الرجل: أمجنونا تراني ! أخرجه البخاري أيضا.
وروى مسلم أيضا عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، إن الشيطان قد حلا بينى وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك شيطان يقال له خنزب (1) فإذا أحسسته فتعوذ منه واتفل عن يسارك ثلاثا " قال: ففعلت فأذهبه الله عني.
وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال: " يأرص ربي وربك الله إعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد.
وروت خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شئ حتى يرتحل ".
وأخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح.
ومايتعوذ منه كثيرا ثابت في الأخبار، والله المستعان.
التاسعة - معنى الاستعاذة في كلام العرب، الستجارة والتحيز إلى الشئ على، معنى
الامتناع به من المكروه، يقال: عذت بفلان واستعذت به، أي لجأت إليه.
وهو عياذي، أي ملجئ.
وأعذت غيرى به وعوذته بمعنى.
ويقال: عوذ بالله منك، أي أعوذ بالله منك، قال الراجز: قالت وفيها حيدة وذعر * عوذ بربي منكم وحجر والعرب تقول عند الأمر [ تنكره (2) ]: حجرا له (بالضم) أي دفعا، وهو استعاذة من الأمر.
والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى.
وأصل أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت.
__________
(1) قوله: يقال له خنزب.
في نهايه ابن الأثير: " قال أبو عمرو: وهو لقب له، والخنزب (بالفتح): قطعة لحم منتنة ويروى بالكسر والضم ".
(2) الزيادة عن لسان العرب مادة (حجر).
(*)
لعاشرة - الشيطان واتحد الشياطين، على التكسير والنون أصلية، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير.
وشطنت داره أي بعدت، قال الشاعر (1): نأت بسعاد عنك نوى شطون * فبانت والفؤاد بها رهين وبئر شطون أي بعيدة القعر.
والشطن: الحبل، سمى به لبعد طرفيه وامتداده.
ووصف أعرابي فرسا [ لا يحفى (2) ] فقال: كأنه شيطان في أشطان.
وسمى الشيطان شيطانا لبعده عن الحق وتمره، وذلك أن كل عات متمرد من الجين والإنس والدواب شيطان، قال جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزل * وهن يهوينني إذ كنت شيطانا وقيل: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك (3)، فلنون زائدة.
وشاط إذا احترق.
وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنصحه.
واشتاط الرجل إذا احتد غضبا.
وناقة مشياط التي يطير فيها السمن.
واشتاط إذا هلك، قال الأعشى: قد نضخب العير من مكنون فائله (4) * وقد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك.
ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول: تشيطن فلان أذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بين إنه تفعيل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ويرد عليهم أيضا بيت أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكاه (5) * ورماه في السجن والأغلال فهذا شاطن من شطن لاشك فيه.
الحادية عشر - الرجيم أي المبعد من الخير المهان.
وأصل الرجم الرمي باحجارة، وقد رجمته أرجمه، فهو رجيم ومرجوم.
والرجم: القتل واللعن والطرد والشتم، وقد قيل هذا كله ف يقوله تعالى: " لئن تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ".
وقول أبي إبراهيم: " لئن لم تنته لأرجمنك ".
وسيأتي (6) إن شاء اله تعالى.
__________
(1) هو النابغة الذبياني، كما في لسان العرب مادة (شطن).
(2) الزيادة عن لسان العرب مادة (شطن).
(3) في الأصول: " إذا بطل " والتصويب عن اللسان.
(4) الفائل: عرق في الفخذين يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين.
(5) عكاه في الحديد والوثاق إذا اشده.
(6) راجع ج 1 ص 111 وج 13 ص 121.
أضواء البيان
الشنقيطي، محمد الأمين (1325 - 1393هـ، 1907 - 1973م).
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
أظهر القولين في هذه الآية الكريمة : أن الكلام على حذف الإرادة . اي فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله . . الآية . وليس المراد أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان كما يفهم من ظاهر الآية ، وذهب إليه بعض أهل العلم . والدليل على ما ذكرنا تكرر حذف الإرادة في القرآن وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها . كقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] الآية ، اي أردتم القيا م إليها كما هو ظاهر . وقوله : { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان } [ المجادلة : 9 ] الآية . اي إذا أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم . لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله ، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح .
وظاهر هذه الآية الكريمة : أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة . لأن صيغة افعل للوجوب كما تقرر في الأصول .
وقال كثير من أهل العلم : إن الأمر في الآية للندب والاستحباب ، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة ، وظاهر الآية أيضاً : الأمر بالاستعاذة عن القراءة في الصلاة لعموم الآية . والعلم عند الله تعالى .
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله ، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولَّنه ، والذين هو به مشركون .
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] ، وقوله { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ] ، وقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ الإسراء : 65 ] ، وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } [ سبأ : 21 ] الآية ، وقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] .
واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآيات .
فقال أكثر أهل العمل : هو الحجة ، أي ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان .
وقال بعضهم : ليس له سلطان عليهم . أي تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه . وقد قدمنا هذا . والمراد ب ، { الَّذين يتولونه } الذين يطيعونه الذين يطعيونه فيوالونه بالطاعة .
وأظهر الأقوال في قوله : { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله . ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الطفر والمعاصي . كما يدل عليه قوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يس : 60 ] ، وقوله عن إبراهيم : { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان } [ مريم : 44 ] إلى غير ذلك من الآيات . وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له عل أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة ، بغير موجب يستوجب ذلك .
تنبيه
فإن قيل : اثبت الله للشيطان سلطاناً على أوليائه في آيات . كقوله هنا { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 100 ] الآية ، وقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] فالاستثناء يدل على أن له سلطاناً على من اتبعه من الغاوين : مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر . كقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ سبأ : 20-21 ] الآية .
وقوله تعالى حاطياً عنه مقرراً له : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] .
فالجواب هو : أن اسلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :
الأول - أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة . فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها ، غير أَنه دعاهم فاجابوه بلا حجة ولا برهان . وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .
الثاني - أن الله لم يجعل له عليهم سلطاناً ابتداء البتة ولكنهم هم الذين سلَّطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة . لأن الله يقول : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] . وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم .
ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله . وقد بينا ها في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) .
0000000
ساحة النقاش