لطائف تفسيرية
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
فإن الكتاب العزيز قد احتوى من الجمال غايته، ومن البلاغة منتهاها، واكتست ألفاظُه حريرَ المعاني، وطُرِّزت بذهب الفصاحة، ولجينِ البيان، بل إنه هو الذي زادها جمالاً وحُسْناً، وجعلها أروع وأسْنى؛ فهو معجزة لغوية علمية معرفية شاملة، منه استفاد العرب الفصحاء، وبه دُهش البُلغاء، ومنه ارتوى العلماء؛ إذ فيه من كل شيء مستحسَنُه، ومن كل قطفٍ أحسَنُه، وقد فاق البيان، وسبق البديع، واحتلَّ علياء اللغة، متشابه وغير متشابه، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإن ليعلو ولا يُعلى {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت:42).
ومن روضته الفيحاء، وبستانه المخضر؛ نقتطف بعض ما تروق بسماعه الآذان، وتتطلع إلى مثله النفوس من لطائف التفسير التي لا تكاد ترى لكل أحد إلا بأحد شيئين: علم عميق، أو تأمل دقيق، أو بكليهما، وكل القرآن لطيف جذاب، يأسر الألباب، ولكنا نجتني ما نأى عن يدي المجتني، وبَعُدَ عن نظر المارِّ الدني، مما حقق تخريجَه علماءُ التفسير، ودقق في استنباطه أئمة التأويل، فمن ذلك:
· قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(فاطر: 32) تكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل:
- التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفاً كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}(الحشر:20).
- وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل، ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره.
- وقيل: قدَّم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه، واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته.
- وقيل: قدَّم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخَّر السابق لئلا يُعجب بعمله.
- وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنهم: قدَّم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية، ثم ثنى بالمقتصدين؛ لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
- وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء، لأن الاصطفاء يوجب الإرث، لا الإرث يوجب الاصطفاء، ولذلك قيل في الحكمة: صحح النسبة ثم ادع في الميراث.
- وقيل: أخَّر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، كما قدَّم الصوامع والبيع في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}(الحج:40) على المساجد لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله.
- وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدَّموا الأدنى كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأعراف:167)1.
· قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}(التكاثر:2) يذكر كثير من المفسرين أنها دالة على الموت والدفن، وأن المعنى حتى دفنتم في القبور، وهو حقٌ، إضافة إلى ذلك أن فيها دلالة على البعث بعد الموت حيث "دل قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أن البرزخ دارٌ المقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية لأن الله سماهم زائرين ولم يسمِّهم مقيمين، فدلَّ ذلك على البعث والجزاء بالأعمال2.
وعن ميمون بن مهران قال: كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز، فقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فلبث هنيهة، فقال: يا ميمون ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله، قال أبو محمد: يعني أن يرجع إلى منزله إلى جنة أو نار، وهكذا ذُكر أن بعضَ الأعراب سمع رجلاً يتلو هذه الآية: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فقال: بُعثَ اليوم ورَب الكعبة، أي: إن الزائر سيرحل من مقامه ذلك إلى غيره3.
· قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} الإشارة في قوله تعالى "كذلك" إلى الهيئة التي ناموا عليها أي: "كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم؛ أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان"4.
· قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً}(الكهف:21) الذين غلبوا على أمرهم.. ما دينهم؟
حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم.
والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)) يحذِّر ما فعلو5.
· في قوله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} لمَ أُتي باسم الرحمن دون سائر الأسماء؟
قال العلامة السعدي: إنما ذلك للإخبار بأنه في ذلك اليوم العظيم سيرون من رحمته ما لا يخطر على الظنون، ولا حسب به الحاسبون كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} ونحو ذلك، مما يذكر اسمه الرحمن في هذ6، ومن الحال التي هم فيها لا يبعد كونهم يئسوا من كل شيء إلا من رحمة الله فذكر الاسم لأجل ذلك.
· قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}(البقرة:11) وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}(البقرة:13) في تقديم النهي عن الفساد على الأمر بالإيمان، قيل: لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فالتخلية مقدمة على التحلية.
· قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}: أجمع المفسرون على أن المراد بـ"الأتقى" أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وزعم الشيعة أنما هو علي رضي الله عنه، ولا يمكن حملها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه قال في صفة هذا الأتقى: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى} وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخذه من أبيه، وكان يطعمه ويسقيه، ويكسوه، ويربيه، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه نعمة دنيوية، بل كان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الآية دليل على أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على سائر الأمة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} والأكرم هو الأفضل؛ فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل، فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو؟ فقيل: هو الأتقى، وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله، فثبت أن الأتقى المذكور هاهنا لا بد وأن يكون أفضل الخلق عند الله، فنقول: لا بد وأن يكون المراد به أبا بكر رضي الله عنه لما تقدم7.
· قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(الإسراء:1)، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(الجمعة:1)، وقوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الحديد:1)، وقوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الحشر:1)، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التغابن:1) بُدئ في القرآن بالمصدر في الإسراء قيل: لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد والحشر والصف؛ لأنه أسبق الزمانين، ثم بالمستقبل في الجمعة والتغابن، ثم بالأمر في الأعلى استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها، ففيه تعليم عباده استمرار وجود التسبيح منهم في جميع الأزمنة والأوقات8، وهذه مسألة اختلف البصريون والكوفيون فيها هل المصدر الأصل أم الماضي، والأول: قول البصريين، والثاني: قول الكوفيين، وهذه اللفتة في الترتيب القرآني متوافقة مع قول البصريين، ولكن ليست دليلاً صريحاً أن الترتيب جاء وفق الاشتقاق.
· استدل الإمام ابن القيم بقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك:13-14) على خلق الله لأفعال العباد، فقال: "وذات الصدور كلمة لما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات والإرادات والحب والبغض أي صاحبة الصدور، فإنها لما كانت فيها قائمة بها نسبت إليها نسبة الصحبة والملازمة، وقد اختلف في إعراب "من خلق" هو النصب أو الرفع، فإن كان مرفوعاً فهو استدلال على علمه بذلك لخلقه له، والتقدير ما تضمنته الصدور، وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه، وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة، فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته، وعلمه ومشيئته، وإن كان منصوباً فالمعنى ألا يعلم مخلوقه، وذكر لفظة مَنْ تغليباً ليتناول العلم العاقل، وصفاته على التقديرين، فالآية دالة على خلق ما في الصدور كما هي على علمه سبحانه به، وأيضا فإنه سبحانه خلقه لما في الصدور دليلاً على علمه بها فقال: ألا يعلم من خلق أي كيف يخفى عليه ما في الصدور وهو الذي خلقه، فلو كان ذلك غير مخلوق له لبطل الاستدلال به على العلم، فخلقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به، فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم فلم يبق ما يدل على علمه بما ينطوي عليه الصدر إذا كان غير خالق لذلك، وهذا من أعظم الكفر برب العالمين، وجحد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وعلم بالضرورة أنهم ألقوه إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد لا شريك له9.
· وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(إبراهيم:37)، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً}(الحديد:27) ،وقوله حكاية عن زكريا عليه السلام أنه قال عن ولده: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}(مريم:6) وقال في الطرف الآخر: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}(المائدة:13)، وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}(الإسراء:46) وهذه الأكنة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعاً ولا عقلاً، والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنة والوقر فهو موجب ومقتضاه، فمن فسر الأكنة والوقر به فقد فسرهما بموجبهما ومقتضاهما، وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم، وهي مجعولة لله سبحانه كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم، والله جاعله، فهو الجاعل للذوات وصفاتها، وأفعالها وإراداتها، واعتقاداتها، فذلك كله مجعول مخلوق له، وإن كان العبد فاعلاً له باختياره وإرادته فإن قيل: هذا كله معارض بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ}(المائدة:103) والبحيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجعل العباد لها؛ فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجعله، قيل: لا تعارض بحمد الله بين نصوص الكتاب بوجهٍ ما، والجعل ههنا جعلٌ شرعيٌ أمريٌ لا كونيٌ قدريٌ، فإن الجعل في كتاب الله ينقسم إلى هذه النوعين كما ينقسم إليهما الأمر، والإذن، والقضاء، والكتابة، والتحريم10.
· قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الزمر:22) ذكر ابن هشام معانيَ من معاني "مِنْ" في مثل هذه الآية، وقال: "أو هي للتعليل أي: من أجل ذكر الله؛ لأنه إذا ذُكر قستْ قلوبهم11، ويؤيد هذا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}(فصلت:44) فـ"ضمير {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} يتبادر أنه عائد إلى الذِّكر أو الكتاب كما عاد ضمير {هو} {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى} والإِسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمًى من الإِسناد المجازي؛ لأن عنادهم في قبوله كان سبباً لضلالهم، فكان القرآن سَبَبَ سببٍ كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}(التوبة:125)"12.
· قوله تعالى: {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}(هود:87) فإنه يتبادر إلى الذهن عطف "أن نفعل" على "أن نترك" وذلك باطل؛ لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون، وإنما هو عطف على "ما" فهو معمول للترك، والمعنى: أن نترك أن نفعل...، نعم، من قرأ "تفعل وتشاء" بالتاء لا بالنون فالعطف على أن نترك13.
· قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}(الأنعام:151) وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}(الإسراء:31)؛ لأن التقدير في الآية: من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم، وهنالك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإياكم14.
· قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(الرعد:43) في معنى الآية أنه كفى بالله شهيداً بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الكفار، وكذلك يشهد أهل الكتاب؛ فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ورد أنها نزلت في عبد الله بن سلام، وقد قرئ {ومِنْ عندِه عُلِمَ الكتاب} وعليها فالمعنى أن الله شهيد لأن عنده العلم، ومِن عندِه العلم15.
· قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى}(النساء:36)، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى}(البقرة:83) لمَ أعاد الباء في حق المسلمين، ولمْ يعدْه في حق أهل الكتاب؟ قال صاحب المنار: "قال بعض المفسرين: النكتة في ذلك أن الوصية بذي القربى مؤكدة في هذه الأمة زيادة عن تأكيدها في بني إسرائيل؛ لأن إعادة الجار للتأكيد، وعندي أنه يمكن أن تكون إعادة الجار لإفادة التنويع، فإن الإحسان بالوالدين غير الإحسان بالأقربين، إذ يجب للوالدين من الرعاية والتكريم والخضوع ما لا يجب لغيرهما، ومتى ارتقت الشرائع بارتقاء الأمة حسن فيها مثل هذا التحديد والتدقيق في الحدود والواجبات لاستعداد الأمة لها"16.
· قوله تعالى: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى}(الليل:3) باعتبار "ما" موصولة سيكون القسم بالخالق نفسه، وباعتبار كونها مصدرية سيكون القسم بالصفة "قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى، فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل، وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى، فـ"ما" مصدرية"17، وكذلك القول في قوله تعالى: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}(الشمس:5-7).
· قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ}(يونس:2)، جاءت متناسبة مع ما قبلها في آواخر سورة التوبة، قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(التوبة:124)، "وذَكَر تكذيب المنافقين ثم قال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة:128) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن ديدن الضالين واحد، ومتابعيهم ومشركيهم؛ في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول"18، فالعجب من كون الرسول جاءهم من أنفسهم.
· ومن المناسبات في القرآن الكريم مجيء سورة الضحى بعد سورة الليل حيث وهما كذلك؛ فالضحى يكون بعد الليل، وكذلك أتت سورة الشرح بتعداد النعم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيب قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(الضحى:11).
وكثيرة هي اللطائف والمعاني الرائقة التي حواها القرآن الكريم، قصرتْ عنها همم العالمين، ووقفت دونها عبارات المتكلمين، وحار فيها أدباء العرب المتقدمين والمتأخرين، نفعنا الله بما فيها من الآيات والذكر الحكيم، وعلَّمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسينا، والحمد لله رب العالمين.
1 الأقوال كلها مذكورة في تفسير القرطبي ( 14/349 ) تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة - ط. الثانية (1384هـ-1964م).
2 تفسير السعدي (1/933) تحقيق عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1420هـ-2000م).
3 تفسير ابن كثير (8/474) تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط. الثانية (1420هـ- 1999م).
4 تفسير ابن كثير (5/147).
5 تفسير ابن كثير (5/147).
6 تفسير السعدي (1/697).
7 مفاتيح الغيب ( 31/185 ) للرازي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط. الأولى (1421هـ-2000م) بتصرف يسير.
8 تفسير روح البيان (9/344) لإسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي، دار إحياء التراث العربي.
9 شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1/55) لابن القيم، تحقيق: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي، دار الفكر - بيروت، (1398هـ-1978م).
10 شفاء العليل (1/56).
11 مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (1/423) لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، تحقيق: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر - بيروت، ط. السادسة (1985م).
12 التحرير والتنوير ( 13/135 ) بتصرف.
13 مغني اللبيب (1/686).
14 غرائب القرآن ورغائب الفرقان (3/188) لنظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان (1416هـ-1996م)، ط. الأولى، تحقيق الشيخ زكريا عميران.
15 انظر في هذا تفسير ابن كثير (2/634)، وفتح القدير للشوكاني (3/130).
16 تفسير المنار لمحمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: 1354هـ) (5/74) الهيئة المصرية العامة للكتاب (1990م).
17 تفسير القرطبي (80/20).
18 تفسير البحر المحيط (5/125).
ساحة النقاش