الثورة ليست مجرد تغيير للنظام السياسى والقواعد الإدارية فقط، ولكن يجب إحداث ثورة اجتماعية وفكرية أيضاً فى مجتمع يعانى من مشكلات عديدة، ناتجة عن تتابع الأنظمة المستبدة منذ ما يقرب منذ 60 عاماً من الحكم.
لو راجعنا تاريخ مصر الحديث، ونظرنا إلى فترة ما قبل 1952 التى كان بها تعدد سياسى وفكرى حقيقى، وكان هناك احترام حقيقى للاختلاف، وتنافس سياسى نظيف وإثراء فكرى كبير، وفى تلك الفترات كان هناك رموز وقامات فى كل المجالات: الثقافية والأدبية والسياسية والعلمية، وكان للأزهر دور وطنى ودينى، وهو المحافظة على الهوية المصرية وحائط الصد أمام أى محاولات للاختراق الثقافى أو الفكرى.
منذ عدة عقود كان من فى السلطة، يعمل على مشروع رئيسى لتدعيم حكمه، وهو مشروع الإخصاء السياسى والفكرى والأخلاقى، استخدم الإعلام والتعليم والأجهزة الأمنية لنشر أفكار وثقافة وسلوك جديد للمصريين، المنفعة الخاصة مقدمة على المنفعة العامة.. اللى نعرفه أحسن من اللى مانعرفوش، لو لقيت ناس بتعبد تور إنزل حش له، أمثلة وثقافة جديدة تم زرعها فى المصريين أدت إلى انتشار الفساد.
نشأت فى السنوات السابقة طبقة من المستفيدين، وطبقة من المنافقين، وطبقه من المطبلين لكل من فى السلطه، أصبح الفساد منتشرا فى كل القطاعات، وأصبح هو أساس التعامل فى المجتمع. من نتائج عملية تدمير الأخلاق والثقافة والنخوة المصرية، كما رأينا أثناء الثورة قطاعات عريضة، تنادى بقتل الثورة، وإبقاء مبارك فى السلطة من أجل الاستقرار، حتى لو كان استقرار الموتى، واستقرار الفاسدين، رأينا لجانا شعبية تساعد فى حماية مصر من اللصوص والفوضى، لتظهر المعدن الحقيقى للمصريين، وتعاونهم فى أوقات الشدة، ورأينا أيضاً من يشارك فى اللجان الشعبية ويمارس نفس السلوك السادى لضباط الشرطة فى كمائن ما قبل الثورة. رأينا من لايزال متمسكاً بنقائه الثورى ونضاله وحماسه الذى استمر مشتعلاً لسنوات طويلة قبل الثورة، وأيضاً هناك من يحاول التسلق والظهور على حساب الآخرين، وهناك من يريد أن يبدأ النضال ويرفض تحكيم العقل، أى نضال ضد أى هدف. لايزال هناك من يرغب فى عبادة أى سلطة والدفاع عن كل من فى الحكم، اللى فى السلطة بيقول على الثوار خونة وعملاء يبقوا خونة وعملاء، مش مهم يعنى إيه عملاء، ومش مهم إن مفيش دليل حقيقى على الاتهام، ومش مهم إن العلاقات الاستراتيجية مع الأمريكان والإسرائيليين بتبقى أصلا مع اللى فى السلطة واللى فى الحكم مش مع الثوار.
كانوا قبل الثورة يقدسون مبارك ويحلفون بديمقراطية الحزب الوطنى، إنه عالورق اسمه ديمقراطى، والآن أصبح مبارك مجرما لأنه خلاص فى السجن، والثورة زى الفل، وطالما دلوقتى أحزاب الأغلبية هى أحزاب دينية، يبقى نربى دقننا وننضم لأحزابهم.
لست محبطاً ولا متشائماً، ولكنى متفائل، ومتأكد إن الثورة تحتاج لوقت طويل لتغيير النظام السياسى، وتفكيك النظام القديم، وشبكات النفاق والفساد والمصالح، ومتفائل إنه فى يوم من الأيام سوف تنتهى أخلاقيات وسلوك الأنظمة المستبدة، وستعود الثقافة، ثقافة الحوار، وثقافة الاختلاف، والثقافة بكل معانيها، وتفضيل المصلحة العامة للبلد على مجرد أكل لقمة عيش، ستعود النخوة مرة أخرى، ورفض الظلم والحرب على الفساد. ستعود مصر مرة أخرى لمكانتها، وستعود مصر هى مصنع المبدعين والعباقرة فى العالم كله، وسنرى المنافسة من أجل الإبداع ونهضة الوطن. نحتاج لثورة فكرية واجتماعية ونفسية وثقافية بالتوازى مع التغيير السياسى، وهذا يحتاج لمجهود ضخم من الباحثين والعلماء والدعاة والشيوخ والأطباء النفسيين والمحللين والكتاب والحركات السياسية والأحزاب. نحتاج لثورة شاملة....................وهل العصيان المدنى هو الحل ؟
سقط مبارك وكسر الشعب المصرى حاجز كل خوف وأزال كل الخطوط الحمراء أمام حرية الرأى، ولكن لم تحقق الثورة مبادئها ولم تُرسِ قواعدها على الأرض حتى الآن، فالقوى الثورية اختلفت بعد تآلف والشباب تشتتوا بعد توحد، والشعب بدأ يفقد الثقة فى أعظم ثورة أذهلت العالم بسلميتها وطهارتها.. والاستقطاب سيطر على المشهد السياسى بعد سيطرة تيار بعينه اقتنص أغلبية مقاعد مجلسى الشعب والشورى، فكان الصراع بين الميدان وبين البرلمان. لم يُقتص حتى الآن لدم الشهداء الأبرار، مازال الفساد المستشرى فى أوصال المجتمع يزداد ويزداد، الفوضى المنظمة والممنهجة تسيطر على الموقف، فيلعب أصحاب الثورة المضادة بكل أريحية لإسعاد نزلاء طرة، وغير هذا كثير، هو نتيجة طبيعية للجرى وراء مصالح حزبية وسياسية وذاتية على حساب الثورة وباسمها ولا علاقة لكل هذا بالثورة، وأسوأ ما فى هذا المشهد هو غياب التوحد الثورى والفشل فى إنشاء تنظيم ثورى أو جماعة ثورية تعبر عن الثورة.
والغريب فى الأمر أن الجميع بدون استثناء يتحدثون عن الثورة ويجاملون الثوار ويمالئون الميدان ويتمسحون فى الشهداء ويعملون لمصالحهم الخاصة الضيقة، حتى بعض الثوار قد أخذهم الكبر والاستعلاء، وقد ساعدهم فى ذلك تلك الجوقة من مطبلاتية الثورة الذين أخذوا من الفضائيات مقراً ثابتاً لهم فهم دائماً عينهم على بوصلة الصوت الأعلى، وفى ظل ذلك المشهد كانت تلك الدعوة للعصيان المدنى فى يوم السبت 11/2/2012 وهو ذكرى إسقاط مبارك، وهنا فلا أحد يختلف مع الحق كل الحق فى التظاهر والاعتصام والإضراب والعصيان المدنى، وقد استغرقتنا أدوات التظاهر والاعتصام فقد أتت بنتائج عظيمة فى أوقات وقد أنتجت مواقف سلبية مرات كثيرة، حيث إننا قد أسرفنا فى التظاهر والاعتصام حتى اقتربنا من ضياع تأثيرهما السياسى، وقد تم استغلال ذلك فى الترويج بربط عدم الاستقرار وتفاقم المشكلة الاقتصادية بتلك التظاهرات فتجاوب مع ذلك قطاع كبير من الأغلبية الصامتة التى تنتظر ثمار الثورة.
فهل ونحن فى تلك الظروف الاقتصادية التى تضعنا على حافة الهاوية ونحن فى غياب أمن وأمان، ونحن فى حالة تشرذم و تفتت وتنافر، وفى ظل سيطرة تيارات سياسية على البرلمان وعلى الشارع باسم الدين وهم غير موافقين على هذا العصيان، ونحن مع أغلبية صامتة لا تعى ما هو العصيان وما هى حدوده وما حجم مخاطره عليها، هل فى ظل كل ذلك يمكن أن ينجح العصيان؟، وإذا كان العصيان يعنى زعامة وطنية تاريخية فأين غاندى أو مارتن لوثر كنج أو مانديلا أو سعد زغلول حتى ندعو لهذا العصيان؟ الثورة ليست حقل تجارب أو ممارسات تتصور البطولة وتتخيل الزعامة، الثورة ليست حركة على طول الخط، ولكن مع الحركة تنظيم وحوار وتوافق ثم توحد، الثورة الحقيقية تحقيقها يحتاج إلى تراكم، فتبداء بثقافة الثورة حتى تصل إلى كل مواطن وليس إلى النخبة التى فقدت مصداقيتها مع كل مواطن، الثوار هم من ينزلون إلى الشارع ويحسون بمعاناة المواطن فيكتسبون مصداقيته لا يظلون فى الميدان ويصدرون البيانات تأكيداً للعزلة والانفصال، تسليم السلطة بعد شهور قليلة، فالأهم هو استغلال تلك الشهور فى إعادة الملحمة الثورية لتحقيق الثورة أو للتظاهر والإضراب والعصيان المدنى هذا لو لم تسلم السلطة فى يونيو 2012
ساحة النقاش