ولنبدأ من النهاية حيث صبيحة يوم الثلاثاء 25 يناير.. وفي ذات اللحظة التي انطلقت ملايين المصريين للصراخ في وجه نظام عابث طلباً برحيله.. كان الدكتور بطرس غالي يصرخ هو الآخر من داخل مكتبه في شخص آخر علي الجانب الآخر من هاتفه المحمول.. "سيبوا الناس تعبر عن رأيها.. أوعي تنطق بكلمة ضد المتظاهرين.. وأوعي تبقي غبي زي جدك".
كان هذا الشخص هو وزير المالية "المقال" يوسف بطرس غالي، الذي استمع لنصيحة "عمه" المحنك، وأسكت - ولأول مرة - لسانه الطويل عن إيذاء المصريين بعد أن قطعت الثورة يده عنهم للأبد.
"غالي" يمثل باقتدار حجم الصلف الذي يميز عصر مبارك في التعامل مع المصريين.. فهو مبالغ في ولائه لسياسات واشنطن والليبراليين الجدد المالية والنقدية، ومبالغ أيضاً في احتقار المصريين إلي أبعد حد.. حتي إنه لا يتورع ذات يوم عن سب الدين لهذا الشعب، وتوعد من يفلت منهم من سياط سياسته وإجراءاته بأنه "هيطلع دين أبوه" علي مرأي ومسمع من نواب الشعب والرئيس أيضاً.
"غالي" هو الوجه الوحيد الذي تبقي من تلاميذ رئيس الوزراء الراحل "عاطف صدقي" ومدرسته في رفع المؤشر.. من نمو إلي عملة.. بغض النظر عن خفض رقاب المصريين الفقراء تحت ذل الحاجة والعوز إرضاء لسادة صندوق النقد والبنك الدوليين.
كانت خطواته الأولي لوزارات عهد مبارك عام 93 وزيراً للتعاون الدولي، مع بدايات تسريع إجراءات الخصخصة والبيع من أجل البيع.. وسرعان ما تحول إلي وزير دولة للشئون الاقتصادية فوزير للاقتصاد والتجارة الخارجية، ثم وزير للمالية في حكومة نكبة مصر، وتفي بها حكومة نظيف الأول التي حملت علي أكتاف نجل الرئيس عدداً من رجال الأعمال الذين أداروا أعتي العمليات المنظمة لنهب مصر.
هذا التصعيد المتواصل كان يشير بوضوح لمدي التوافق الذي تمتع به "غالي" مع عقل مبارك ونجله لتنفيذ سياسة إذلال المصريين حتي النفس الأخير، طالما كانت حصيلة الضرائب والجباية قادرة علي ملء عين الرئيس وعائلته وحاشيته أيضاً.
لم يعبأ "غالي" في سبيل ذلك باختراع أقسي وسائل الجباية بل واستدعاء وسائل أخري من عصور الإمبراطوريات الاستعمارية، لفرضها علي المصريين، كان آخرها إصراره علي فرض ضريبة علي الجدران التي تعد المأوي الأخير للمصريين من مصير محتوم هو التشرد. فكان طبيعياً أن تحرص حرم الرئيس علي مجاملة الوزير الأثير إلي قلب آل مبارك بإصدار سلسلة علي نفقة الدولة عن تاريخ عائلة الوزير باسم مكتبة الإسكندرية العريقة قبل عدة أشهر.
»العجز«.. هي الكلمة القريبة إلي قلب »غالي« ولسانه عجز في الموازنة.. وعجز في الحيلة.. حيلة الخروج بمصر من أزمات مالية متوالية ودون اثارة سخط الطبقات الفقيرة أو زيادة فقرها. لتشهد مصر في عهده مميزات واستثناءات لرجال الأعمال جعلتهم تقريباً فوق البشر وخارج مظلة القانون، فقد قسم الوزير رجال الأعمال إلي فئات، فئة رجال أعمال »غلابة« ورجال أعمال »علي رأسهم ريشة« أو »سوبر رجل أعمال« بعد أن منحهم حصانة أكبر من حصانة أعضاء مجلس الشعب التي تمنح للأعضاء تحت قبة البرلمان.
في عام 2000 وعندما كان »غالي« يشغل منصب وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية أصدر عدة قرارات كارثية منها القرار رقم 29 لسنة 2000 والذي يمنح المستوردين والمصدرين شهادة حماية أو "ممنوع الاقتراب أو التصوير" بالإضافة إلي القرارات رقم "30، 163، 339، 442" لسنة 2000 وهي القرارات التي صدرت جميعها لصالح رجال الأعمال المميزين، حيث تكتفي بالفحص الظاهري ومطابقة البيانات المدونة علي بضائعهم المستوردة طبقاً لما هو ثابت لمستنداتهم مما يحقق من آليات الرقابة علي الواردات.
وكان وزير المالية السابق بطل فضيحة من العيار الثقيل كشفها النائب السابق محمد العمدة في مجلس الشعب، حيث قدم »العمدة« ما يفيد علاج الوزير علي نفقة الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية بخمسة قرارات في عام 2008 بأرقام »932، 1872، 1907، 2061، 9293« لسنة 2008، وذلك بمستشفي جونز هوبكنز الأمريكية بمبالغ مالية تتراوح بين خمسة آلاف دولار وعشرين ألف دولار.. كما أصدر رئيس الحكومة خمسة قرارات أخري عام 2009 بأرقام »34، 678، 964، 1119، 3180« لسنة 2009 لعلاج وزير المالية بأمريكا وفرنسا بالإضافة إلي مصاريف السفر بالدرجة الأولي بالطائرة ومصاريف بدل السفر للوزير والمرافق له عن كل ليلة تقضي خارج دور العلاج بالرغم من أن الوزير مؤمن عليه بشركة الشرق للتأمين التي تتكفل بعلاجه بالكامل، وبالتالي فإن تحميل علاج الوزير علي نفقة الدولة بهذه المبالغ الضخمة مخالفة واضحة للقانون ويدخل في إطار الاستيلاء علي المال العام.
ولم يكتف »غالي« بكل هذه التجاوزات بل ضرب بتعليمات البنك المركزي عرض الحائط، وتجاوز مجلس الدولة ومنح حق تحصيل 107 مليارات جنيه حصيلة الضرائب والجمارك لبنك باركليز الأجنبي متجاوزاً البنوك الوطنية ومخالفاً للقانون والقواعد، وانتقد الجهاز المركزي للمحاسبات تصرفات وزارة المالية وكشف عن أن بنك باركليز احتفظ ببعض الأموال التي حصلها لمدة وصلت إلي 57 يوماً بدون أن يوردها إلي البنك المركزي وهو ما أثار العديد من الأسئلة والاستفهامات لتجاوز القانون، واتجاهه إلي بنك أجنبي من دون الرجوع إلي البنك المركزي أو استفتاء مجلس الدولة.
وبلغ إجمالي الضرائب علي الدخل التي حصلها غالي في عام 2005 - 2006 حوالي 54.9 مليار وفي 2006 - 2007 حوالي 66.2 مليار وفي 2007 - 2008 حوالي 76.3 مليار، أما الضرائب علي المبيعات فقد بلغت 27.6 مليار في 2006 و30.9 مليار في 2007 و93.7 مليار في 2008 وبلغت حصيلة الجمارك 9.7 مليار و9.9 مليار و41.40 مليار خلال السنوات نفسها أي أن أجمالي المتحصلات التي تم إعطاء باركليز حق تحصيلها بلغ في 2006 حوالي 92.2 مليار وفي 2007 حوالي 107 مليارات.
ورصد تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات في نوفمبر 2008 عن وجود 7.876 مليون جنيه متأخرات لم يتم توريدها للبنك المركزي ولم تقم المصلحة بتحصيل مقابل تأخير عنها بالمخالفة لأحكام المادة 17 من القانون 127 لسنة 81 بشأن المحاسبة الحكومية ولائحته التنفيذية.
في تقرير آخر للجهاز المركزي للمحاسبات عام 2008 ذكر أن الديون المستحقة للحكومة لدي رجال الأعمال والشركات الخاصة بلغت 99.8 مليار جنيه منها 66 مليار جنيه ضرائب مستحقة تقاعست وزارة المالية عن تحصيلها، ويقول وزير المالية: إن منها 59.8 مليار جنيه مبالغ متنازع عليها أمام القضاء رغم أن القانون الجديد للضرائب نص علي إلغاء جميع التراكمات السابقة أمام القضاء، وهي إحدي نقاط القانون القوية، كما أشار التقرير إلي أن 60٪ من حصيلة الديون المستحقة لمصلحة الضرائب لدي القطاع الخاص تخص مأمورية ضرائب واحدة هي مأمورية رجال الأعمال والشركات الصناعية الكبري كمصانع الحديد والأسمنت والسيراميك التي تحصل علي دعم الطاقة.
في ديسمبر 2009 شهد اجتماع لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب مواجهات ساخنة وألفاظ خارجة، حيث أجاب غالي عن سؤال وجهه إليه أحمد عز رئيس لجنة الخطة عن رأيه بشأن هدم عمارات عزبة الهجانة المخالفة من ناحية المكسب والخسارة، فقال: أري تعويض الذين اشتروا هذه العقارات المخالفة بعد إزالتها ثم نلاحق الملاك و»نجري وراء اللي خالف ونطلع دين اللي خلفوه«.
ساحة النقاش