كتبت منذ أسبوع تقريبا ًمقالا ً حول التسجيلات الصوتية التي أذاعها أحد الصحفيين لبعض الساسة الذين لمعت أسماؤهم إبان ثورة يناير.. وعن بعض دلالات تلك المكالمات .
وفي اعتقادي أن البحث عن الحقيقة والتفتيش عنها ينبغي أن يكون مهمة كل إنسان عاقل في هذه الأيام بالذات .. بغض النظر عن الجهة التي تنطق بالحقيقة أو تعبر عنها .. فأنت حين تبحث عن الحقيقة إنما تبحث عنها لذاتها بغض النظر عمن يحملها أو يسوقها .. ومن الحماقة وقلة الإنصاف أن يقف الإنسان موقف الرفض من الحقيقة لمجرد كونها جاءت على لسان خصمه أو عدوه .
ومن هنا حفل التراث الإسلامي بالحكم والأقوال البليغة التي تحض على البحث عن الحقيقة والتمسك بها أيا كان قائلها .. وعن النهي عن رد الحق والاستنكاف عن قبوله لمجرد كونه جاء ممن يخالفك في الفكر أو الاعتقاد .. ومن ذلك : "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها" .. "اعرف الحق تعرف أهله" .. "اسلك سبيل الحق ولا تستوحش لقلة السالكين " .. "خذوا الحكمة من أفواه المجانين"وهلم جرا ....
أعود إلى متابعتي للتسجيلات الصوتية التي ذكرتها سابقا .. والتي لمست في محتواها في البداية نوعا من الجدية والمصداقية .. وأمورا مثيرة للاهتمام والتأمل وإعادة النظر في تقييم شخصيات بارزة سياسيا على الساحة المصرية كما ذكرت بالتفصيل في المقال السابق .. ومازلت وملايين المتابعين مثلي ينتظرون من البرنامج حتى تكتمل مصداقيته أن يتحفنا بأسرار التسجيلات الصوتية التي تكشف عن أحداث حالكة السواد إبان ثورة يناير تسهم في بيان الحقيقة بكل أبعادها .. مثل ملابسات استشهاد الشباب الطاهر الذي ضحى بروحه خلال الثورة .. والمسئولين عن مذابح مروعة مثل مذبحة ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء .. وغيرها من التسجيلات التي تكشف حقيقة أمور غامضة حتى الآن مثل السماح بسفر المتهمين الأجانب على ذمة قضية التمويل الأجنبي من مطار القاهرة على متن طائرات بلادهم في انتهاك صريح للسيادة المصرية سياسة وقضاء .
بيد أن الحلقات الأخيرة خاصة تلك التي تناولت تسجيلات للشاب/ وائل غنيم لم تكن على ذات المنوال الذي بدأ به البرنامج .. بل خلت في محتواها عما يثير الاهتمام أو يقدح في صاحب المكالمات - فقد تجاوزنا المسائل القانونية وتركناها لأهل الاختصاص - .. وعبثا حاول الصحفي لي عنق المكالمات ليثبت تهم العمالة والخيانة على صاحب المكالمة .. ولكنها في رأيي محاولات غير مقنعة طبقا لما احتوته المكالمات من محتوى يبرئ ساحة صاحبها .. ويثبت بعده عن المشهد السياسي وحزنه من مستوى الأداء السياسي في تلك الفترة التي ربما يتفق معه الجميع على ذلك بما فيهم صاحب البرنامج ذاته .
وبدا للمتابع الموضوعي الذي يبحث عن الحقيقة دون انحياز لأحد أنها محاولات خارج السياق .. فالمشاهد اليوم لم يعد مجرد متلق مستسلم لما يصب في أذنيه من رؤى وأفكار.. وإنما يتابع بعين الناقد .. ويقدر على التمييز بين ما هو حقيقة وما هو محض تزيد وافتراء .
علما بأنني لا أعرف وائل غنيم شخصيا ولم ألتق به مطلقا .. ولا تتجاوز معرفتي به معرفة عموم المصريين .. فضلا عن زيادة متابعة نظرا للاهتمام بالشأن السياسي .. ولكنني كمشاهد غير منحاز من حقي أن أستمع لكلا الطرفين ، ثم أقرر مع أي طرف تكون الحجة أقوى ، والمنطق أكثر قبولا وإقناعا .
ولعل من توافق الأقدار أنه بينما شرعت في كتابة هذا المقال إذ بي أجد بيانا رائعا من صاحب الشأن الشاب / وائل غنيم يرد فيه على تلك التسجيلات .. فرأيت من باب الأمانة والإنصاف أن أقتبس بعضا من فقرات بيانه للقارئ الكريم دون أن أخفي اتفاقي معه في تهافت تلك التسجيلات الموجهة ضده .. تماما كما لم أقلل من شأن سابقتها من التسجيلات التي حملت محتوى جديا .
إن مغزى اهتمامي بخطاب وائل غنيم ليس دفاعا عن شخصه الذي لا أعرفه بقدر ما هو دفاع عن قيمة الشرف في هذا الوطن .. وعن قيمة العدالة وحدود إطلاق التهم حتى لا تصير الوطنية لعبة في يد البعض يمنحها من يشاء ويمنعها عمن يشاء .
فكم من شريف ومخلص في هذا الوطن لا تشرف شاشات الفضائيات باستضافته .. وإنما يؤثر العمل في صمت لخدمة هذا الوطن .. فلا أقل من احترام صمته وكف الأذى عنه .
يقول وائل غنيم في بداية رسالته:
"رسالة إلى أقاربي وأصدقائي وكل من احترمني يوما ً استمعت اليوم كغيري لعدد من المكالمات المنسوبة لي على إحدى القنوات الفضائية تدعي علي كلاما بعيد كل البعد عن الحقيقة وتهدف إلى محاولة تشويه سمعتي الشخصية. ولهذا فإنني أتوجه إلى كل مصري ومصرية عرفوني عن قرب أو عبر وسائل الإعلام بالرسالة التالية فيما يخص هذه التسجيلات وما قد يتم نشره لاحقا :
أولا ً: لم أكتب هذه الرسالة إلا تلبية لرغبة أسرتي وبعض أصدقائي المقربين والذين ألحوا علي بالرد على ما يثار من شائعات. وقد كنت منذ الثالث من يوليو ٢٠١٣ اتخذت قرارا بالابتعاد عن المشهد السياسي بعد أكثر من عامين ونصف من المحاولات الحثيثة والمستمرة لدفع مصر إلى المستقبل الذي أتمناه لها كأحد شباب هذا الوطن والذي لم يحركه سوى البحث عن مصلحة مصر وأهلها وحقهم في وطن يحترم حقوقهم وينهض ليكون في مصاف الدول المتقدمة. ولكنني وللأسف وبعد أن باءت كل محاولاتي بالفشل وذهبت تحذيراتي ونصائحي أدراج الرياح لحقن دماء المصريين، اتخذت قرارا بالابتعاد حتى لا أكون طرفا في فتنة يراق فيها الدم المصري وتضيع فيها الحقوق" .
والحقيقة إن القرار الذي اتخذه وائل غنيم بالابتعاد عن المشهد منذ 3 يونيو لم يكن منفردا فيه .. بل شاركه فيه عشرات بل مئات بل آلاف من المهمومين بهذا الوطن .. حاولوا جميعا كبح جماح سفينة الوطن التي قادها الرئيس المنتخب .. ووجهوا النصائح تلو النصائح دونما فائدة .. فكان ما كان .. ودخلت البلاد تلك الدوامة من العنف والإرهاب التي يجد فيها الصوت العاقل نفسه مغردا خارج السرب وسط صيحات الشحن ونداءات التأجيج .
ويقول أيضا:
"أرجو من كل من يشكك في نزاهتي ووطنيتي أن يتوجه بأسئلته إلى الكثير من الشخصيات العامة من التيار الذي يتبعه ، خاصة تلك التي التقيت بها وتحدثت معها محاولا لتقريب وجهات النظر والبحث عن حلول للأزمات ولم لشمل المصريين ورفض للفتنة والتقسيم والاقتتال والعنف والاستئثار بالسلطة .. اسألوا الفريق السيسي واللواء العصار واللواء محمود حجازي واللواء مراد موافي ، واسألوا شيخ الأزهر وبابا الكنيسة والكثير من رموز المؤسستين الدينيتين المصريتين .. واسألوا قيادات الإخوان وشبابهم وقيادات السلفيين وسياسييهم.. واسألوا د/ البرادعي وعمرو موسى ود/ أحمد البرعي ود/ أحمد سعيد ود/ مصطفى حجازي.. واسألوا الكثير من الكتاب والمفكرين والمثقفين والشباب الذين عرفتهم عن قرب بعيدا عن التشويه المتعمد الذي قامت به بعض وسائل الإعلام .
كل هؤلاء جمعني بهم لقاءات واتصالات لم يكن لي أي مصلحة فيها سوى أن أرى وطني يتسع للجميع في دولة ديمقراطية عصرية تضاهي دول العالم المتقدم. كل هؤلاء التقيت بهم على أجندة الحفاظ على الدم المصري وألا نخرق جميعا سفينة الوطن، وكلهم هؤلاء يعلمون أنني لم أكن أسعى يوما للهدم بل للبناء ولم أنوي أبدا الإفساد بل الإصلاح.
وهم يعلمون أنني لم أخرج يوما متاجرا بهذه اللقاءات أو معلنا ما يدور فيها بغرض تحقيق شهرة أو إساءة لأحد" .
وأقول إنه من العجيب جدا صمت هؤلاء جميعا على تشويه هذا الشاب النابه الذي عرفوه عن قرب .. فلم نسمع لأحد منهم كلمة واحدة في الدفاع عنه .
ويقول أيضا :
"كانت جل مواقفي طوال الفترة من 25 يناير حتى اليوم هي مثار جدل لدى الكثيرين بحكم المرحلة التاريخية.. كنت أبحث قدر استطاعتي عن الموضوعية والإنصاف.. وأرفض الاحتقار والتشويه والتعميم والتخوين لخصومي.
كتبت الكثير من قناعاتي وأخفيت بعضها.. ولكنني لم أكتب يوما ما يخالف قناعاتي وضميري.
وكنت لا أتردد عن الاعتذار عن أي خطأ أقع فيه، وبالمقابل وجدت من الكثيرين تزويرا للحقائق واتهامات لا طائل لها وفبركة لأحاديث وتصريحات لم أدلي بها وترجمات خاطئة لكلام قلته.
وضعني كل هذا تحت الكثير من الضغط النفسي والعصبي وعرض أسرتي للكثير من الأذى، ولم أكتب يوما عن ذلك لقناعة أن هذا قدري الذي لم أختره.
خامسا: لم أحقق أي مكاسب من ثورة يناير ولم أتاجر أبدا بدوري الذي لم يتعدى واجبا شخصيا ومسؤولية وطنية ساقني القدر إليها دون تخطيط مني. وحرصت بعد الثورة ألا أخرج في وسائل الإعلام إلا فيما ندر، فعدد مرات ظهوري الإعلامي لي طوال عامين ونصف من الثورة لم تزد عن أصابع اليد.
ولم أسع طوال تلك الفترة للبحث عن منصب أو مصلحة شخصية أحصل عليها بشكل مباشر أو غير مباشر.
وعندما عرضت دار نشر أن أكتب كتابا يوثق لتجربتي في الثورة، أعلنت بوضوح عن قيمة التعاقد عبر الإنترنت وفي وسائل الإعلام وأن مليما واحدا من هذه الأموال لن يدخل في جوف ابن من أبنائي في الوقت الذي دفع فيه الكثير من أبناء الوطن حياتهم ثمنا لما سأكتب عنه.
ووضعت العائد المادي من الكتاب كاملا لدعم أعمال الخير وعلاج المصابين ومساعدة أسر الشهداء دون أن أتاجر بذلك أمام شاشات التلفاز أو الجرائد لأنه واجب وليس منحة أو منة مني.
بل حتى وظيفتي الأساسية تركتها لمدة عامين ونصف للمساهمة في إنشاء مؤسسة أهلية لتطوير التعليم في مصر وكذلك لمحاولة الخروج بالبلاد من تلك المرحلة الانتقالية الصعبة في تاريخنا الحديث.
سادسا : طوال ثلاثة سنوات، كتبت كثيرا عن أن الهدف الأسمى الذي أتمناه هو أن تُعلي مصر من شأن القانون وأن يطبق القانون على الجميع بغض النظر عن مراكزهم ومواقعهم ومواقفهم من السلطة.
ولذلك فإنني أطالب من لديه أي أدلة لمخالفات قانونية قمت بها أن يتوجه بها إلى النائب العام للتحقيق معي فيما ينسب بهذه الاتهامات.
وبالرغم من أنني اليوم خارج مصر - بعد أن اتخذت قراري بالابتعاد حيث أن مصر اليوم لا ترحب بمن هم مثلي- وفي نظر البعض أصبحت بعيدا عن يد جهات التحقيق، إلا أنني وفي حالة تحويلي لأي جهة قضائية مصرية بشكل رسمي فلن أتردد يوما واحدا في العودة إلى مصر بمحض إرادتي ودون أي ضغوط من أحد لإثبات نزاهتي وبراءتي ضد كل من يحاول تشويه سمعتي أمام أسرتي وأصدقائي وكل من وثق فيّ يوما ما في حالة طلب أي جهة تحقيق مصرية رسمية مني المثول أمامها.
مثلي يُفَضّل أن يكون سجينا مظلوما رافعا رأسه مدافعا عن وطنيته ونزاهته عن أن يعيش هاربا ذليلا مطأطئ الرأس حتى لو كان بريئا".
انتهت تقريبا كلمات وائل غنيم وهي تعبر عن نفسها أكثر بكثير من تعليقي عليها ..
ولكني أقول: عذرا وائل غنيم لك ولأمثالك .. فيبدو أن بلادنا اليوم تضيق بالمخلصين من أبنائها ممن يبنون في صمت .. ولكنها تتسع وتتسع شاشاتها للتافهين في أي مجال و للثرثارين من الساسة الفارغين من أي عمل نافع يخدم الوطن .. تكفيك تلك الرسائل التي حفلت بها كلماتك .. فمثلك لو أراد أن يتاجر بدوره في الثورة لجنى مليارات ولأقيمت له في كل عاصمة مؤتمر .
وأختم كلماتي بهذه الحكمة:
إن الحصول على الحقيقة أشبه ما يكون بلعبة البازل (buzzles ) .. لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة .. وبقدر ما وهبك الله من عقل وحكمة يمكنك أن تستخلص من كل طرف ما لديه من صواب .. وتستجمع قطع البازل بجوار بعضها قطعة قطعة لتكتمل أمام ناظريك الصورة الكاملة .. وكم ستكون خسارتك لو تخندقت في أحد المعسكرات .. وأغلقت سمعك وبصرك عن كل ما سواه .. فحينها أبشرك بأنك لن تبلغ الحقيقة مهما فعلت.