|
|
|
|
ابتلعت الأرض العروس بالجمل الذي كانت تركبه فانفجرت مكانها عين المفتلا وسط مرتفعات صخرية تتوهج بنور اللون الأبيض وكأن طرحة وفستان الزفاف تمددت فوق الهضاب والجبال.. ومازال الشيخ الجذافي يرفع رأسه كلما دفنت, وتحت الدست والمغرفة.. الجبل المقسوم اثنين كأنه إناء وبجانبه غطاؤه يوجد واد للجن وشبح يظهر ويغيب.. في بيئة مثل الواحات البحرية حيث يمتزج إعجاز وعجائب الخلق والطبيعة مع إبهار الجمال مع الابتعاد عن مراكز الحياة وغياب المؤثرات الثقافية وعدم ربط جذور الحضارة القديمة التي تمتلئ بها أرضهم بمقومات التحديث والتطوير والتعليم ليس مدهشا أن يظل الخيال يصنع أساطيره حتي من خلال الخرافات التي يتناقلها شباب الواحات ليس بسخرية, فالاحترام سمة من سمات علاقة الأجيال وإنما كجزء من تراث يستحق الجمع والتحليل, كثير ممن تعلم في القاهرة من أجيال الشباب يختارون العودة للحياة هناك علي صعوبتها ويقودون الدعوة بضرورة حدوث تنمية حقيقية تستنقذ مقومات الغني المهدرة ويقودون الكشف عما تعانيه الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والثقافة والعمل السياسي والوعي الديني والمرأة والعمل الائتماني. وإذا كانت لجنة التنمية البشرية بمجلس الشوري قد قامت بزيارتها الميدانية إلي هناك في إطار إعدادها لتقرير حول وسائل تعظيم المشاركة الشعبية, فما تكشف يعيق كل أمل في حدوث مشاركة حقيقية ما لم تحدث مواجهة صريحة ومسارعة لحل المشكلات, وقد عرضت في الأسبوع الماضي لعينات من معاناتهم مع شح المياه وتهديد الأرض بالبوار وقدم المواتير ونقص الآبار وانخفاض المستويات الجوفية للمياه وربط المقننات المائية علي عام1962 ومشكلاتهم مع افتقاد تنظيم التسويق مما يعيق تصريف النسبة الأكبر من بلحهم وانقراض محاصيل رئيسية علي رأسها المشمش بسبب العطش الشديد, وعلي الرغم من خصوبة الأرض فالواحات محرومة من الزراعات الحقلية ولا توجد مدرسة للزراعة تخرج أجيالا تحدث مناهج الزراعة والمقاومة, ومع ما يمثله مجتمع المناجم من ركيزة أساسية للحياة حيث يوجد أكبر احتياطي لخام الحديد في الشرق الأوسط فمنتج المنجم يخفض لتكدسه بسبب المشكلات التي يعانيها المصنع في حلوان والمدين بـ450 مليون جنيه علاوة علي حاجة آلاته للتحديث والتطوير. وما يقال هناك بالحق وكل علامات الاستفهام أن ما أنفق من مئات الملايين علي المشروع الوهمي لحديد أسوان كان يمكن أن ينقذ المصنع وما يتهدد المنجم وكينونة وسلامة عموم صناعة الحديد والصلب في مصر!! كذلك فالاختناقات في نقل خامات الحديد لتفاقم مشكلات الشركة عطل إنجاز مشروع لتطوير نقل الخامات من المنجم إلي الكسارة كانت تكلفته عند البداية التي لم تكتمل5 ملايين جنيه, بينما وصلت تكلفته الآن إلي65 مليونا!! * من يدري لعل الآثار أحسن حالا.. وعندما تتوجه إلي الواحات البحرية لابد أن تكون متشوقا لرؤية وادي المومياوات, أحدث الاكتشافات الأثرية هناك, وتتوقع أن تكون قد صنعت إحياء للمنطقة لقدر قيمة الحدث الأثري الذي هللت له صحف عالمية, وأن تزور متحف الآثار الذي يقول عنه كتاب المحافظة الواحات أمل المستقبل1997, وقد تم إنشاء متحف للآثار علي مساحة500 كيلومتر بتكلفة500 ألف جنيه بتمويل من هيئة الآثار تحوي الآثار النادرة الفرعونية والرومانية. فما هو حال المتحف؟ وما هي المرحلة التي قطعت حتي الآن للكشف عن10 آلاف مومياء كما قيل؟ وكيف تمت العناية بـ105 من المومياوات التي تم استخراجها؟ ولماذا استخدم القدماء الواحات البحرية كموقع من أشهر مواقعهم للدفن, وما كان يمكن أن يكون حديثا للدنيا يجتمع حوله مؤتمر أثري عالمي يقوده علماء مصر ويكون جزءا من خطة الإعلان عن المقومات العبقرية لهذا الموقع الحضاري والسياحي, والكنز الذي نمتلك ولا نعرف كيف ندير عملية استثمار وطنية لمصلحة المستقبل, علي الرغم من أن كتاب المحافظة أو رؤية القائمين عليها تراها أملا للمستقبل, لكنها المسافات الفلكية بين القول والفعل لقد اكتشف الأثريون منذ بدايات القرن مقابر وكنائس صغيرة وبقايا معبد للإله آمون.. المعبد الذي بناه الإسكندر الأكبر قبل أن يواصل رحلته غربا إلي واحة سيوة, ثم الكشوف الحديثة التي تعود إلي منتصف التسعينيات, والتي تؤكد إدراك الأقدمين إلي الغائب عنا من مقومات عبقرية للمنطقة وأسرارها الصحية وخصوبة أرضها وعافية البيئة وكنوز ثرواتها المعدنية, فإلي جانب أنواع الحديد الثلاثة ـ التي تتوافر فيها ـ بها فوسفات ومنجنيز, وتم اكتشاف بئر بترول أطلق عليها بئر قارون بطاقة إنتاجية تصل إلي35 ألف برميل يوميا عند الكيلو85 بطريق الواحات, ويجري الحفر في ثلاث آبار أخري عند الكيلو110 بالطريق نفسه, بينما التكوين الجيولوجي الرئيسي في الواحة هو الحجر الرملي النوبي, وهي الطبقة الحاملة للمياه والمكونة للخزان الجوفي للصحراء الغربية والذي يتميز بالثبات وبعض الآبار الرومانية هناك تتدفق منذ أكثر من1500 عام, وجميع جبال الواحات البحرية تتخللها حول العيون(268 عينا) مياه كبريتية ومعدنية دافئة وباردة اشتهرت بميزاتها العلاجية. * لا أعرف إذا كان متحف الآثار الذي يشير إليه كتاب المحافظة هو ذلك المبني الأسمنتي الفقير الذي يشبه مباني السجون تنام فيه خمس مومياوات في علب زجاجية أكثر فقرا, بينما المكان يبدو كزنزانة تنتهي جدرانها العالية قرب السقف بفتحات مدرعة بقضبان حديدية, ويبدو أنه لصد الهواء يوضع غطاء من البلاستيك المترب الممزق بينما المومياوات في فتارينها الزجاجية الفقيرة لابد مثلنا لا تصدق ما آلت إليه أحوالها!! أما بقية المومياوات المكتشفة فمازالوا علي حال دفنهم في مقبرتهم المغلقة التي يبدو أن متغيرات بيئية وزلازل قوية أوقعت صخور سقف المقبرة. يحتاج الإنقاذ, وبناء متحف حقيقي في هذا الموقع الأثري النادر, وإحياء مشروع وادي المومياوات إلي نفقات ضخمة تستنقذ هذا الفن وتجعل الإحياء الأثري هناك من ركائز إحياء المنطقة, * وإذا أردت مزيدا من العجائب والمدهشات فعليك أن تذهب إلي منطقة الشيخ سوبي الأثرية بالباويطي( عاصمة الواحات) وبها توجد17 مقبرة صخرية منقوشة وملونة لأفراد ومعبد منقوش وملون, وتحوي المقابر توابيت وقطعا أثرية وتماثيل وأواني فخارية وهناك مقبرة بها366 غرفة اكتشفت وأغلقت حتي لا تسرق.. هذا الكنز الأثري اكتشف عام1994 ومازل علي حاله من يومها والمعارك مشتعلة بين الأهالي من سكان البيوت والأطلال التي تعتلي الكنز الأثري, يطلبون تعويضا عن أماكنهم ومفتش الآثار يقول إن الآثار ستنهب, وهناك بالفعل ثلاثة محاضر سرقة ومحاولات نهب وتخريب, والاتهامات متبادلة والمشهد حزين ومؤسف, فكنوز ووثائق التاريخ تطل من حفرة عميقة, أحضروا سلما خشبيا متهالكا لننزل ونلقي عليها نظرة, استحال الأمر إلا علي شاب مرافق من شباب المحافظة, حمل الكاميرا ونزل ونطقت الصور ببعض ملامح الكنز النائم ينتظر الإنقاذ, بينما كل مخلفات الحياة تصب فوقه, فالواحات مازالت بلا صرف صحي, كيف لم يحسم الأمر بما يعطي كل صاحب حق حقه وبما يحفظ الأثر من مزيد من الإتلاف والتدمير ويضمه إلي مقومات ازدهار الحياة هناك, يهمس أحد مسئولي الآثار وسط الاتهامات المتبادلة بين الأهالي والمحليات والآثار وغيرهم بأن هناك بمنطقة ما بالواحة مقبرة أسفل منزل قديم بها حجرة دفن كاملة لم تنهب بعد ولابد أن يقود كشفها إلي ما يقود إليه كل كشف من قراءة وتفسير حلقة من حلقات التاريخ, والآثار في الحفرة تطل علينا ولا تصدق بيروقراطية أو تخلف أو إهمال أو تواطؤ بعض أحفادهم من الكبار والصغار!! ومازال فيض المناطق الأثرية أو بقايا من مجد تراثي هائل, فهناك6 مقابر فرعونية ملونة في منطقة يوسف سليم, وفي منطقة الفروج مقبرة ضخمة لدفن الطائر أبيس, سلالته البيضاء الرائعة تحلق في جماعات قريبا من العيون ومرتفعات الجبال, وتبدو شديدة الألفة والائتناس بالسكان والزوار تتبختر مزهوة وسط الطراز الخاص لبيوت الواحة بالطوب اللبن, البيوت كأنها جزء من نحت التاريخ ومن نبت الطبيعة تصنع مع النخيل والعيون نسقا عمرانيا واحدا. للأسف بدأت بعض البنايات الأسمنتية كالوحوش تزحف وتهدد هذا النسق الخاص, ولجأ بعض أبناء الواحات إلي جلب أحجار من المنيا لتطوير بيوتهم بينما ابتكرت المحافظة أسلوبا غريبا ارتأته الحل الأمثل لإبقاء بيوت الواحة علي طرازها الفطري الذي يفضله السائح فقامت بطلاء أبنية الأسمنت والحجارة بالطين اللبن!! ياسادة الحل كان في تطوير خامات البيئة, فحق الناس أن تتطلع إلي تطوير حياتها وعلينا أن نأخذ بيدها لتعرف كيف تجد الحلول في مزيج من منجزات العلوم الحديثة ومعطيات الحضارة ومقومات البيئة والتجارب ماثلة ومدهشة لمن يريد أن يستفيد منها, إنهم في السعودية يحيون بيوت الطين في معمار وبخامات بيئية متطورة,وعلماؤنا يثبتون قدرة هذه الخامات علي التفاعل والامتداد وتقديم الحلول النابعة من البيئة وبتكلفة اقتصادية للشباب في الوقت الذي تحفظ لهم روح وأصالة حضارتهم إن الإعجاب بخصوصية طابع الواحة وبيوتها كان وراء حكاية من الحكايات التي يتناقلها أبناء الواحة, وتقول إنه في أثناء زيارة أحد السائحين تمني أن يقيم في بيت من بيوت الواحة فاستضافه أحد أبنائها طوال فترة إقامته, وبعد عودته إلي بلاده أهدي في وصيته جميع ما يملك إلي ذلك المضيف الذي استضافه وإلي تلك الأيام التي لا ينساها التي عاشها في أحد بيوت الواحة * هذه المرة الحكايات حقيقية وليست خرافات تماما مثل حكايات الشباب التي امتلأت بها رسائلهم التي حملتها معي إلي القاهرة, وكيف يعانون قسوة البطالة وسط كل هذا الغني الذي كان بحسن استثمار وإدارة يستطيع أن يحول أرضهم إلي خلية حياة وعمل وإبداع وفنون وآبار وسياحة وعلاج وزراعة وصناعة في المتاح بلا حدود من إمكانات وفيما مازالت تدخر. * لقد حملت اللجنة دعوة إلي الرئيس مبارك من جميع أبناء الواحات البحرية, إنهم يحلمون بزيارة منه إلي هناك.. يثقون أنها ستكون الخطوة الأولي والصحيحة علي طريق الإنقاذ, فمن يدري ربما يهديهم وضع واستقلالية مدينة الأقصر لفك الاشتباك بينهم وبين تعدد جهات التبعية, ويوفر لكنوزهم الهائلة استقلالية الإدارة. * ولعلها تكون أول زيارة بعد زيارة لبنان, ذلك الشهاب المضيء الذي انطلق وسط إظلام السماء العربية بإمكانية التوحد والتواصل في مواجهة وحش وسرطان العدوان والبلطجة الإسرائيلية وتحدي الشرعية وكل ما كانت الزيارة ترجمة عنه جعل الأمة تلتقط نفسا عميقا تنتظر وتأمل الاستكمال.. ولاشك أن حسن استثمار ثروات الوطن والأمة من أهم استراتيجيات المواجهة ونثق أن هدر وإهمال وتبديد هذه الكنوز لا يدخل في إطار مخططات التدمير والإضعاف!! |
|
|
|
|
|
ساحة النقاش