<!--
<!--<!--<!--
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ (*)
(تفسير سورة المائدة بأسلوب بسيط جداً)
1. الربع الأول من سورة المائدة
الآية 1: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾: يعني أوْفوا بالعهود التي أخذها الله عليكم (من الإيمان بشرائع الدين والانقياد لها)، وكذلك أَوْفُوا بِالْعُقُود التي تعاقدتم عليها فيما بينكم (من عقود البيع والشراء وغيرها)، ومِن هنا خرجتْ القاعدة التي تقول: (العقد شريعة المتعاقدين، بشرط ألاَّ يخالف ذلك العقد: كتاب الله، أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم) - فلا تنقضوا تلك العقود، ولا تتركوا واجباً، ولا ترتكبوا معصية، ولا تُحرِّموا حلالاً، ولا تستحلوا حراماً، فقد ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ وهي الإبِل والبقر والغنم ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾: يعني إلا ما بَيَّنه سبحانه لكم مِن تحريم المَيْتة والدم وغير ذلك، وهي المحرمات المذكورة في الآية الآتية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...﴾.
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾: يعني وكذلك حَرَّمَ اللهُ عليكم الصيد وأنتم مُحرِمون بِحَجٍّ أو عُمرة، فلا تستحلوه، وسَلِّموا الأمرَ لله تعالى فيما أحَلَّهُ وحَرَّمه، فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾: يعني فما أراده تعالى: حَكَمَ به حُكماً مُوافقا لِحكمته وعَدْله، مِثل أمْرِهِ لكم بالوفاء بالعقود (لِما في ذلك مِن حصول المصالح لكم، ودفع المَضارّ عنكم).
الآية 2: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾: أي لا تتعدَّوا حدوده ومعالم دينه، فلا تستحلوها بترْك واجب، ولا بفِعل مُحرَّم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة، ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾: يعني ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحُرُم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمُحَرَّم ورجب.
﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾: يعني ولا تستحِلُّوا حُرمة الهَدْي، وهو ما يُهدَى للبيت الحرام من بهيمة الأنعام، ليُذبَح فيه ويُوزَّع على الفقراء، ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ والقلائد جمع قِلادة، وهي ضفائر مِن صوف أو وَبَر، كانوا يضعونها في رقاب الهَدي لتكون علامةً على أن الرجل يريد الحج، ولإظهار أن هذه البهيمة التي يَسُوقها هي هَدْيٌ فيُحترَم، وقد كان ذلك الفِعلُ إظهاراً لشعائر الله، فلا تستحلوا حُرمَتَه.
• أما ما يفعله البعض من تعليق بعض التمائم (كَحِدوة الحصان والكَفّ وغير ذلك)، فيُعلقها في بيته أو سيارته، اعتقاداً منه أنها تنفع أو تضر، أو أنها تجلب الحظ، (وكذلك الإشارة بالكف في وجه مَن يتوقع منه الحسد - اعتقاداً منه أن ذلك يدفع الحسد)، فكل هذا حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرُّقَى - (أي رقى السَحَرة التي لا يُفهَم معناها، أو الرُّقَى المشتملة على الشرك بالله تعالى) - والتمائم والتِوَلَةَ شِرك) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 1632) (والتِوَلَة هي نوع من السِحر يُحَبِّب المرأة إلى زوجها).
- واعلم أن السبب في تحريم هذه التمائم هو تعلق القلب بغير الله تعالى، إذ لا يَملك النفع والضر إلا الله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾، وقال تعالى - مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خير الخلق - لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف بمن دونه؟!، وفي هذا رَدٌّ على كل مَن يعتقد أن بعض الصالحين - أو الأولياء - يملكون لهم ضراً أو نفعاً أو يقربونهم إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
.
﴿وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: يعني ولا تَسْتَحِلُّوا قتال أو أذِيَّة قاصدي البيت الحرام الذين ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾: أي الذين يطلبون من فضل الله ما يُصلِحُ معاشهم (وذلك بالتجارة والمكاسب المباحة في الحج)، ﴿وَرِضْوَانًا﴾: أي ويطلبون رضوان ربهم عليهم (وذلك بأداء الحج والعمرة والصلاة في الحرم وغير ذلك)، فهؤلاء لا تتعرضوا لهم بسوء، ولا تهينوهم، بل أكرِموهم، (واعلم أنه يدخل في هذا الأمر: تأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله تعالى، وجَعْل القاصدين له مطمئنين مستريحين، غير خائفين على أنفسهم ولا على أموالهم).
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾: يعني وإذا حَلَلْتم من إحرامكم، فإنه يُباحُ لكم الصيد، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ﴾: يعني ولا يَحمِلَنَّكم بُغْض قوم - بسبب: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وذلك عندما منعوكم من أداء العمرة (عام الحُدَيْبِيَة)، فلا يَحمِلَنَّكم بُغضُهم على ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ عليهم بغير ما أذِنَ الله لكم (وهو قتالهم إن قاتلوكم، وترْكهم إن تركوكم)، ﴿وَتَعَاوَنُوا﴾ فيما بينكم ﴿عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾: أي على فِعْل الخير وتقوى الله، ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ﴾ وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾: وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، (وعلى هذا فيجب على العبد أن يَكُفَّ نفسه عن إعانة غيره على أي معصيةٍ أو ظُلم)، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: أي عقابه شديد لا يُطاق ولا يُحتمَل.
الآية 3: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ وهو الحيوان الذي تفارقه الحياة بدون ذبْح شرعي، ويُستثنَى من ذلك مَيْتة الجَراد والسمك، فإنهما حلال (كما ثبتَ ذلك في السُنَّة)، ولَعَلَّ الحكمة من تحريم المَيْتة: هو احتقان الدم في جوفها ولحمها، مما يتسبب في إضرار مَن يأكلُ منها، ﴿وَالدَّمُ﴾: يعني وحُرِّمَ عليكم شُرب الدم، ويُستَثنى من الدم: (الكبد والطحال) فإنّ أكْلهما حلال، كما ثبت ذلك في السُنَّة.
- واعلم أن المقصود بالدم المُحَرَّم هنا هو الدم المسفوح (أي السائل المُراق)، كما ذَكَر تعالى ذلك في آيةٍ أخرى فقال: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، (وأما الدم غير المُراق، وهو الذي يختلط باللحم أو الذي يكون في المخ والعروق وما شابَه: فإنه لا شيءَ فيه).
﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾: يعني وكذلك حُرِّمَ عليكم لحم الخنزير، فلا تغتروا بمَن يَستحلونه (افتراءً على الله)، بل هو مُحَرَّم مِن جُملة الخبائث، ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾: يعني وكذلك حُرِّمَ عليكم كل ما ذُكِرَ عليه - عند الذبح - غيرُ اسمِ الله تعالى، ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ وهي التي حُبِسَ نَفَسُها حتى ماتت (كأن تموت غريقة، أو تُخنَق بحبل، سواء بقصد أو بدون قصد)، ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ وهي التي ضُربَت بعصا أو حجر حتى ماتت، أو التي هُدِمَ عليها شيءٌ، ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ وهي التي سَقطت من مكان عالٍ، أو سَقطت في بئر فماتت، ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ وهي التي ضَرَبَتْها أخرى بقرْنِها فماتت، ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾: يعني وحَرَّم الله عليكم البهيمة التي أكلها السبع (كالأسد والنمر والذئب، ونحو ذلك)، فإنها إذا ماتت - بسبب افتراس السبع لها - ثم أدركتم منها جزءاً لم يأكله السبع، فإن هذا الجزء لا يَحِلّ لكم أكْله.
• وأما قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾: يعني واستثنى - سبحانه - من هذه المُحرَّمات: أن تدركوا ذبْح البهيمة (قبل موتها بأحد الأسباب المميتة، كالخنق والسقوط وغير ذلك)، فحينئذ يَحِلّ لكم أكْلها، بشرط أن تدركوا ذبْحها والروح مستقرة فيها.
• وأما إذا كانت البهيمة تغرق، ولم يتمكن من الوصول إلى رقبتها حتى يذبحها: فعليه أن يُسَمِّي اللهَ تعالى، ثم يَطعنها - طعنة واحدة - في جسدها بسِكِّين أو بشيءٍ حاد، بشرط أن تتسبب تلك الطعنة في أن ينزف الدم منها، واعلم أن هذه حالة استثنائية في التذكية (للضرورة)، لأن البهيمة ستموت حَتماً بالغرق، وليس هناك إمكانية من الوصول إلى رقبتها، إذَنْ فالانتفاع بها - عن طريق التذكية - أوْلَى من أن تموت هباءً.
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾: يعني وحَرَّم الله عليكم الذبائح التي ذُبِحَت على الأصنام والأحجار المنصوبة (التي تمثل إلهاً أو غير ذلك مما يُعبَد من دون الله تعالى)، ومِثلها ما يُذبَح على قبور الأولياء والصالحين، ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ أي: وحَرَّم اللهُ عليكم الاستقسام بالأزلام، (ومعنى الاستقسام: طلب معرفة ما يُقسَم للخَلق ويُقدَّر)، والأزلام هي ثلاثة قِداح - أي: ثلاثة آنية - متساوية في الحجم، كانت تستعمَل في الجاهلية، مكتوب على أحدها "افعل" وعلى الثاني "لا تفعل" والثالث لا توجد عليه كتابة، فإذا هَمَّ أحدهم بأمرٍ ما: أدار تلك الآنية على جوانبها، ثم اختار أحدها، فإذا خرج المكتوب عليه "افعل": مَضَى في أمره، وإن ظهر المكتوب عليه "لا تفعل": لم يَمضِ، وإن ظهر الثالث (الذي لا شيء عليه): أعاد الاختيار، حتى يخرج أحد القدَحَيْن فيعمل به، فحَرَّم اللهُ ذلك عليهم، وعَوَّضَهم عنه بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم.
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي المُحرَّمات المذكورة - إذا ارتُكِبَت - فإنها ﴿فِسْقٌ﴾: يعني خروج عن أمر الله وطاعته إلى طاعة الشيطان.
﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾: يعني الآن انقطع طمع الكفار من أن ترتدوا عن دينكم إلى الشِرك (وذلك بعد أن نصَرْتُكم عليهم، وأظهرتُ دينكم)، واليوم المُشار إليه هو يوم عرفة، إذ أتَمَّ اللهُ دينه، ونصرَ عبده ورسوله، وانخذل أهلُ الشِرك انخذالاً بليغاً، بعد ما كانوا حريصين على رَدّ المؤمنين عن دينهم، فصاروا يخشون المؤمنين، ولهذا قال: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾: أي فلا تخشوا المشركين، واخشَوا اللهَ الذي نصركم عليهم، وَرَدَّ كَيدهم في نحورهم، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾: أي دِين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام الشريعة، ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ فالزموه، ولا تفارقوه.
• واعلم أن هذه الجملة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ قد فضحَتْ كُلّ مَن يَدَّعي كذباً أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمَرَهُ أن يفعل كذا وكذا، فإن لم يفعل، فسوف يحدث له كذا وكذا، فنقول له: (اتقِ اللهَ ولا تفتري الكذب، فإن الله تعالى قد أخبر أن الدِين قد كَمُل، ولن يُضافَ إليه شيءٌ آخر).
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ﴾: يعني فمن ألجَأتْهُ الضرورة - وهو في مجاعة شديدة - إلى أكْل شيءٍ من المُحَرّمات المذكورة في الآية، وكانَ ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ﴾: أي غير متعمد لارتكاب إثم، وغيرَ طالبٍ للمُحَرّم (لِلذّةٍ أو غير ذلك)، ولا مُتجاوز - في أكلِهِ - ما يَسُدّ حاجته ويرفع اضطراره: فله تناوله، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ له، ﴿رَحِيمٌ﴾ به، حيث رَخَّصَ له في أكل تلك المُحرمات عند الضرورة حتى لا يموت.
الآية 4: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾: يعني يسألك أصحابك: ماذا أُحِلَّ لهم أَكْلُه؟ ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾: يعني الحلال الطيب من الطعام والشراب (وهو كل ما لم يُذكَر تحريمه(، ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾: يعني وكذلك أُحِلَّ لكم الصيدَ الذي تصطاده لكم الحيوانات (ذوات المخالب والأنياب) التي دَرَّبتموها على الصيد (كالكلاب والفهود والصقور ونحو ذلك مما يُعَلَّم)، بشرط أن تكونوا قد أرسلتموها للصيد، أما إذا اصطادته بنفسها - دونَ إرسالكم لها - فلا تأكلوها، (واعلم أن المُكَلِّب: هو مُعَلِّم الكلاب، ومُدَرِّبها على الصيد، ويُقال للصائد: مُكَلِّب، وعلى هذا فإنَّ قوله تعالى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ يكون بمعنى: صائدين).
- وهذه الحيوانات ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ طلبَ الصيد ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ إذ هو سبحانه الذي سَخَّرها للإنسان ابتداءً، وهو الذي عَلَّمَه ما لم يكن يعلم، ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾: يعني فكلوا مما أمْسَكَتْ لكم هذه الحيوانات - من الصيد - فهو حلالٌ طيب، (حتى وإن أتى بالصيد ميتاً بسبب الصراع معه، أما إذا أتى به حياً: فمِن كمال التذكية أن تذبحوه)، ولكنْ بشرط: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾: أي واذكروا اسم الله عند إرسال هذه الحيوانات للصيد، كأنْ يقول مَثلاً: )بسم الله هاته)، وكذلك إذا صاد الإنسان صيداً بسلاحٍ ما: فعليه أن يذكر اسم الله عليه قبل إطلاق السلاح عليه (حتى وإن مات بسبب أثر السلاح قبل أن يذبحه، فهو حلالٌ طيب)، وأما قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ففيه وعيدٌ لمن لم يتق الله في أكْل ما حُرِّمَ أكْلُهُ من المَيْتة وأنواعها، ومِن أكْل صيدٍ صادَه حيوان غير مُدَرَّب من الجوارح، فليتق عقوبة الله في ذلك فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
الآية 5: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ يعني: وَفِي هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين: أحَلّ لكم ما سألتم عنه، وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ (وهو جميع الطيبات من الطعام والشراب)، ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾: يعني وذبائحُ اليهود والنصارى حلالٌ لكم (إن ذبحوها حَسبَ شرعهم)، وذبائحكم حلالٌ لهم، ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾: يعني وأَحَلَّ لكم نكاح الحرائر العفيفات من المؤمنات، ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: أي وكذلك أَحَلَّ لكم نكاحَ الحرائر العفيفات من اليهود والنصارى، هذا إذا أمِنتم من التأثر بدينهنّ، وكذلك ﴿إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ﴾: يعني إذا أعطيتموهُنَّ مُهورهن، وكنتم طالبين بهذا الزواج التعفف عن الحرام، وكنتم ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾: يعني غير مرتكبين للزنى جَهراً، ﴿وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾: يعني ولا مُتخِذي عشيقات سراً، ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾: يعني ومن يجحد شرائع الإيمان: ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ ﴿وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
الآية 6: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأنتم على غير طهارة: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ - والمِرْفَق: هو المِفْصَل الذي بين الذراع والعَضُد، وهو ما يُطلِق عليه بعض الناس لفظ: (الكُوع)، والصحيح أنَّ اسمه المِرفَق - ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾: يعني وامسحوا رؤوسكم، ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾: أي واغسلوا أرجلكم مع الكعبين (والكعبان: هم العظمان البارزان عند مُلتقى الساق بكف القدم)، ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾: يعني وإن أصابتكم جَنابة: فتطهروا منها بالاغتسال قبل الصلاة، ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾: يعني أو قضى أحدكم حاجته، ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾: يعني أو جامَعتم زوجاتكم ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ للوضوء أو الغُسل: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾: أي فاضربوا بأيديكم وَجْهَ الأرض الطاهرة ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ وذلك بأن يَنوي العبدُ التيَمُمَ بقلبه ويُسمِّي، ثم يَضرب الترابَ بيدَيْه ضربة واحدة فقط، ثم يَنفخ في يدَيْه، ثم يَمسَح بِهما وجهَهُ وكفَّيه فقط، وهذه الصفة سواء كان التيَمُم نيابةً عن الوضوء، أو كان نيابةً عن الغُسل.
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾: يعني ما يريد الله - في أمر الطهارة - أن يُضَيِّق عليكم، ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾: يعني بل أباح التيمم توْسِعَةً عليكم، ورحمةً بكم، إذ جَعَله بديلاً للماء في الطهارة، ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾: يعني فكانت رخصة التيمُّم من تمام النعم التي تستوجب شُكْر المُنعِم بطاعته فيما أمر وفيما نهى.
• واعلم أنه يَجُوز التيَمُم أيضاً لمَن بهِ جُرْح أو مرض (مثل مرض الجُدَري)، وَوَجَدَ مَشقَّة من الوضوء (أو الغُسل) بالماء (وذلك بزيادة المرض، أو تأخُّر الشِّفاء)، (وكذلك إذا كان الماء شديدَ البُرودة وعَجَزَ عن تسخينِه، وغلبَ على ظَنِه حُصُول ضَرَر باستعماله وهو بارد)، (وكذلك مَن كان الماء قريبًا منه إلاَّ أنه يَخاف ضَيَاعَ متاعه، أو فوْتَ رفقتِه، أو حالَ بينه وبَيْن الماء عَدُوٌّ ظالِم، أو نار، أو أيُّ خوف كان في القَصْد إليه مَشَقَّة، فهذا يتيمم أيضاً لأنه يَصعُب عليه الوصول إلى الماء)، (وكذلك لو كان الماء بِمَجْمَع الفُسَّاق وتخافُ المرأةُ على نفسها منهم)، (وكذلك مَن كان مريضًا لا يقدر على الحركة ولا يجد مَن يُناولُهُ الماء)، فكل هؤلاء يَجُوز لهم التيَمُم، (واعلم أيضاً أنه يَنقُض التيَمُمَ جميعُ نواقض الوضوء، ويُزَاد عليها وجود الماء لمَن فقدَهُ، أو قدَرَ على استعماله لمَن عَجَزَ عنه).
الآية 7: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ من التيسير فيما شَرَعه لكم، ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾: يعني واذكروا عهده الذي أخذه سبحانه عليكم، والمراد به هنا: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، إذ بها وجب الالتزام بجميع التكاليف الشرعية، وأما قوله: ﴿إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ فقد قالها الصحابة - بلسان الحال - عندما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وقد قالها كل مسلم - بلسان الحال أيضاً - لمَّا شَهِدَ للهِ بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
الآية 8: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾: يعني قوموا بحق الله تعالى (مُخلِصين له، طالبينَ ثوابَه)، ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾: يعني وكونوا شُهداء بالعدل، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ﴾: يعني ولا يَحمِلَنَّكم بُغْضُ قومٍ ﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ بينهم في الحُكم، بل ﴿اعْدِلُوا﴾ بين الأعداء والأحباب على درجةٍ سواء، فذلك العدل ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾: يعني أقرب لخشية الله تعالى، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
الآية 9، والآية 10: ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ تعالى - وَوَعْدُهُ الحق - بأنَّ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم، ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ في الجنة، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ أي يُلازِمونَ النارَ ولا يَخرجون منها.
الآية 11: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ مِن الأمنِ، وإلقاءِ الرعب في قلوب أعدائكم، واذكروا ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾: أي أرادوا أن يبطشوا بكم، فصرفهم الله عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوا.
• ولَمَّا أمرهم تعالى بذِكر النعمة: أمرهم بالخوف من المُنعِم أن يُبدل نعمته بنِقمةٍ إن عَصَوه، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ واحذروا أن تخالفوا أمْرَهُ فيُسلط عليكم أعداءكم، وغير ذلك من أنواع عقوباته، ثم أمرهم سبحانه بما يستعينون به على عدوهم، وعلى جميع أمورهم، فقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: أي فتوكلوا - أيها المؤمنون - عليه وحده في أموركم الدينية والدنيوية، وثِقوا بعَونه ونَصره.
*********************
2. الربع الثاني من سورة المائدة
الآية 12: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: أي أخذ عليهم العهد المؤكَّد بأن يُخلِصوا العبادة له وحده، ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾: يعني وأمَرَ اللهُ موسى عليه السلام أن يجعل عليهم اثنَي عشر عريفاً (رئيساً) بعدد فروعهم (حيث كان بنو إسرائيل اثني عشر قبيلة)، وذلك ليأخذوا عليهم العهد بالسمع والطاعة (لله ولرسوله ولكتابه)، ويَحُثوهم على القيام بما أُمِرُوا به، (واعلم أن النقيب هو مَن يُنَقِب عن أمور القوم ومصالحهم ليرعاها لهم، فيبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم)، ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ لبني إسرائيل: ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾ بحفظي ونصري وإعانتي ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) (وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾: أي وصدَّقتم رسلي فيما أخبروكم به، ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾: يعني ونصرتم هؤلاء الرسل، ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾: يعني وأنفقتم في سبيلي، طالبينَ ثوابي: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ العهد ﴿مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾: يعني فقد خرج عن طريق الحق إلى طريق الضلال.
الآية 13: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾: يعني فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكَّدة: طردناهم من رحمتنا، ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾: أي غليظة، فلا يَنْفُذ إليها خير، ولا تَلينُ أمام المعجزات الباهرات، بل جَعَلتهم يتجرأون على حدود الله تعالى، فكانوا ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾: يعني يبدلون كلام الله (الذي أنزله على موسى، وهو التوراة)، ويفسرونه على غير وجهه الصحيح، وذلك بما يتناسب مع أهوائهم ومقاصدهم السيئة، فإن عجَزوا عن التحريف: تركوا ما لا يتفق مع أهوائهم، فلم يُظهروه للناس، ﴿وَنَسُوا حَظًّا﴾: يعني وتركوا نصيبًا ﴿مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ فلم يعملوا به، ﴿وَلَا تَزَالُ﴾ - أيها الرسول -﴿تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾: يعني تجد من اليهود خيانةً وغَدرًا، فهُم على مِنهاج أسلافهم ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾: يعني فاعفُ عن سوء معاملتهم لك، ﴿وَاصْفَحْ﴾ عنهم، فلا تتعرض لهم بمكروه، وبذلك تكون قد أحسنتَ إليهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين يُحسِنون إلى مَن أساء إليهم (بالعفو والصفح عنهم).
الآية 14: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾: يعني وكذلك الذين ادَّعَوا أنهم أتباع المسيح عيسى - وهم ليسوا كذلك - أخذنا عليهم العهد المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يَتبعوا رسولهم وينصروه، ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ فلم يعملوا به، وبدَّلوا دينهم كما صنع اليهود ﴿فَأَغْرَيْنَا﴾: يعني فألقينا ﴿بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾: أي فجعلناهم يُعادي بعضهم بعضًا ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ يوم القيامة، وسيعاقبهم على صَنيعهم.
الآية 15: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ من اليهود والنصارى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ عن الناس مما في التوراة والإنجيل، ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾: يعني وهناك أشياء - مما كنتم تخفونها من الكتاب - لا يَذكر عنها شيئاً، ولا يلومكم على إخفاءها، لأن الحكمة تتطلب ألاَّ يفعل ذلك)، ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ وهو القرآن الكريم.
•واعلم أن حرف الواو الذي بين كلمة: (نُورٌ)، وبين كلمة: (كِتَابٌ مُبِينٌ)، تسمى (عطف بيان)، يعني عطف توضيح، لتبين أن هذا النور هو الكتاب المبين الواضح، وليس معناها أن (النور)، شيئٌ، و (الْكِتَابِ المبين) شيئٌ آخر، فكأنّ المعنى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ، وهو هذا الكتاب المبين).
الآية 16: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾: يعني يهدي اللهُ بهذا القرآن مَن اتَّبَع رضا ربه تعالى (ففعل ما يُرضيه، واجتنبَ ما يُغضِبه)، ليوصلهم إلى طريق السلامة والسعادة ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾: أي بإذن ربهم، ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: يعني ويوفقهم إلى الثبات على دِينه القويم الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.
الآية 17: ﴿لَقَدْ كَفَرَ﴾ النصارى ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ﴿قُلْ﴾ لهم - أيها الرسول- : ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ يعني: لو كان المسيح إلهًا كما تدَّعون، لقَدرَ أن يدفع قضاء الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أُمِّه ومَن في الأرض جميعًا، وقد ماتت أم عيسى فلم يَدفع عنها الموت، فكذلك لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه، فهذا دليلٌ على أنه بشر كسائر بني آدم، ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: وجميع الموجودات في السماوات والأرض ملكٌ لله تعالى وحده ﴿يخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
الآية 18: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ ﴿قُلْ﴾ لهم - أيها الرسول -: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾؟ أي: فلِمَ عَذّب أسلافكم بذنوبهم، فمَسَخهم قِردةً وخنازير وغير ذلك مما هو ثابتٌ في كتبكم وفي تاريخكم؟ فلو كنتم أحبابه ما عَذبكم، فأحبابُ الله تعالى حقاً هم أهل طاعته، وقل لهم أيضاً: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾: يعني بل أنتم خلقٌ مثلُ سائر بني آدم، تجري عليكم أحكام العدل والفضل، فنِسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق، وعبدٌ إلى مالك، فمَن آمَنَ منكم وعمل صالحا: غفرَ له وأكرمه، ومَن كفر منكم وعمل سُوءا: عَذبه وأهانه، كما هي سُنَّته في سائر عباده، إذ هو سبحانه ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده إذا أتوا بأسباب المغفرة، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده إذا أتوا بأسباب العذاب، ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾، فأيُّ شيءٍ خَصَّكم بهذه الفضيلة، وأنتم مِن جُملة مملوكات الله تعالى الذين يرجعون إليه في الدار الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم؟
الآية 19: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ الحق والهدى ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾: يعني بعد مُدَّة من الزمن بين إرساله وإرسال عيسى ابن مريم؛ ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾: يعني لِئَلاَّ تقولوا: ﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ فإنه لا عُذرَ لكم الآن بعد إرساله إليكم، ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ﴾ من الله ﴿بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو سبحانه قديرٌ على عقاب العاصي، وعلى إثاب</st
ساحة النقاش