لقد كان مشهد إعدام صدام مثيرا للاشمئزاز, فرغم أن ما حدث له جزاء عادل لما اقترفت يداه ولكن الطريقة البدائية السوقية التي تم الإعدام بها كانت همجية بعيدة كل البعد عن أصول الدين والحضارة..
ولقد أثار هذا المشهد الحديث حول ضمانات العدالة في الإسلام, وكيف سبق الإسلام الغرب في هذه الضمانات بمفاوز عجز الغرب حتى بعد هذه السنين الطوال أن يدركه.. وسنسوق بعجالة بقدر ما يسع هذا المقال الصغير أبرز هذه الضمانات على أن يكون لنا في مرة لاحقة عودة للتفصيل في كل جزئية – إن شاء الله -, وسنحصر الحديث حول هذه الضمانات في قواعد ضابطة..
أولها: الناس متساوون أمام القانون..
فلا فرق في ذلك بين سيد ومسود أو بين ملك وبين سوقة أو بين غني وفقير فمن قتل عبده قتلناه, من جدع عبده جدعناه, ومن اخصي عبده أخصيناه كما قال الحديث: ( فكلكم لآدم, وآدم من تراب ، وإن أكرمكم عند الله اتقاكم )..
وقد حفظ التاريخ نماذج عظيمة لتحقيق هذا المبدأ, حتى أن خليفة المسلمين وحاكم دولة الإسلام مترامية الأطراف كان يمثل أمام قاضيه مع اصغر عبد من رعيته من غير المسلمين ليسمع القاضي حجتهما على وجه المساواة ثم يقضي بينهما وكثيرا ما كان يقضي على الأمير لصالح العبد, وحتى إن كان القاضي ليرفض شهادة الوزير لأنه متهم عنده بالكذب في نفاقه للخليفة فلا ميزة للأمير على سوقة فالكل أمام القانون سواء.
ثانيا: شريعة عادلة حاكمة
فلا قيمة لهذه المساواة إلا إذا كان القانون عادلا يسوي في الحقوق والواجبات بين المتقاضين.. فالشريعة عندنا لا تعرف قولهم: المساواة في الظلم عدل.. بل هي مساواة ولكن في العدل.. ففي توازن مدهش يراعي حاجة المجتمع للأمن والاستقرار فيعاقب المذنب ويراعي حاجة المتهم لالتماس المعاذير فيدرأ عنه الحد بالشبهة مراعيا دوافعه وأسباب ارتكابه للجريمة, ورحم الله عمر رضي الله عنه وقد وقف حد السرقة في عام المجاعة وعفا عن غلمان حاطب بن أبي بلتعة في حد سرقة ارتكبوها من الجوع, وأوقع الضمان على سيدهم مراعاة لحالهم.. فلم يبالغ في اعتبار حق المجتمع بدكتاتورية بشعة وإذلال لأفراد المجتمع ولم يبالغ في تدليل الفرد وإعفائه من مسئولية جريمته واتهام المجتمع والظروف, وإنما وفي توازن معجز أعفا أصحاب الأعذار الحقيقية من العقوبة مراعاة لحق الفرد وأوقع العقوبة الرادعة على من ارتكب جريمته بإرادة وعزيمة دون عذر حفظا لحق المجتمع.
ثالثا: ضمان الصدق في الاتهام..
ونعني بها حق المتهم في ألا يؤخذ بالظن أو أن يتهم بما لم يثبت على سبيل القطع: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ), فالناس لهم حرمة ينبغي أن تصان, وكرامة ينبغي أن تعتبر, ففي الحديث : (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث), وفي الحديث: ( وإذا ظننت فلا تحقق ), فالاتهام القائم على الظن لا على الحقائق ينبغي ألا تبالغ في تتبع صاحبه حتى يثبت لنا بيقين صدق هذا الاتهام.
رابعا: ضمانة حسن التحري..
ونعني به استخدام الوسائل الشرعية في التحري, وذلك أن محضر التحري- الذي تقوم على إعداده في أيامنا هذه أجهزة الشرطة – هو أول خطوات التحقيق.. وقد شدد الإسلام على ضرورة الضبط الشرعي في جمع المعلومات, فلا تجسس ولا تعذيب ولا تهديد ولا إغراء, فقد تصور أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه دارا لضبط جريمة حد شرب الخمر فواجهه المتهم بمخالفة ذلك للشرع فلم يستطع أمير المؤمنين أن يوقع العقوبة بمجرم ضبط بطريقة غير شرعية واضطر لإعفائه من العقوبة – بعد أنتاب من جريمته - ليعلم الأجيال من بعده أن التجسس لا يجوز أن يكون جزءا من ضبط الجريمة وأن الخل في وسيلة جمع التحريات مبطل للاتهام.
خامسا: ضمانة الحقوق..
وهنا يرتفع الإسلام كعادته إلى القمة التي لم تعرفها الإنسانية إلا في الإسلام رغم الضجيج المثار حول قوانين حقوق الإنسان التي لا نعرفها إلا على الورق في أرقى دول العالم ورغم ما يثار حول الضمانات المثبتة في القوانين.. فكرامة الإنسان – في عرف الإسلام – لها اعتبار عظيم والمجتمع ليس في خصومة مع أبنائه يسعى للإيقاع بهم وإلقاء التهمة على رؤوسهم.. وليس المحقق عدوا يسعى لاستدراج المتهم .. والقاضي أن يخطئ في البراءة خيرا من أن يخطئ في العقوبة ولئن أفلت عشرات المجرمين خير من أن توقع العقوبة على برئ.. انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يجيئه الرجل مقرا بجريمة الزنا وهو يفتح له باب الإفلات: ( لعلك قبلت, لعلك باشرت, لعلك فأخذت ), والرجل مصر على اعترافه فيقول له: (أتعرف ما الزنا؟!), والرجل يعرف ما الزنا فلم يجد إلا أن يقيم عليه الحد بعد أن استنفذ كل وسائل وفرص حمايته في التحقيق, واللص يجئ له ومعه المتاع المسروقة فيقول له مرتين أو ثلاث: ما أخالك سرقت, والرجل يقول له: بلى, فيقيم عليه الحد.وكل القضاة الذين تربوا في مدارس النبوة يشعرون وهم يحققون مع المتهم بنفس المشاعر المحايدة ويراعون هذه الضمانات حفظا لقيمة العدالة.
سادسا: ضمانة التنفيذ..
بعد كل هذه الضمانات وقد ثبتت الجريمة الواقعة على المجرم دون إكراه أو تدليس وبعقوبة عادلة وقضاء مكبل بالضمانات حماية للمتهم ولحقه في كل صور الدفاع والدفع للتهمة كان لابد من تنفيذ العقوبة وهنا يظهر الأنموذج العالي الراقي في العدالة, فالعقوبة ليست انتقاما يتشفى به القضاة والمحققون من المجرم وإنما هي عقوبة اضطر إليها المجتمع في حق ابن من أبنائه لا يستقيم أمره بعد ذلك أو أمر المجتمع إلا بتنفيذها.. لذا فقد أحيط التنفيذ بضمانات لتحقيق هذا المعنى: ( فلا قود إلا بالسيف ), لأنه أسرع في إزهاق الروح: ( ولا نعذب بعذاب النار ), ( وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ), حتى لا يتعذب المقتول, ( وإذا ضرب أحدكم أخاه فليتجنب الوجه ), لأنه مجمع المحاسن فلا يشان المضروب ويشوه وجهه (وليكن ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين), ليكون الضرب لا خفيفا فلا يردع ولا شديدا فيؤذي المضروب وإنما يكفيه الألم الرادع غير المهلك.. هذه نماذج من ضمانة التنفيذ التي تراعي حق الفرد وحق المجتمع..
لقد بلغنا العدالة من بداية الجريمة وحتى تنفيذ العقوبة ولكننا لم نبلغ قمة الإسلام العظيم بعد,, فلا زال في الإسلام مراق لم تصلها البشرية بتشريعاتها بل لعلها لم تخطر ببالهم.. فالمجرم قد يرتكب الجريمة في لحظة ضعف أو لنزوة قد تكون غلبت عليه أو لأي سبب آخر, وقد أوقع المجتمع عليه عقوبة فلابد هنا أن يفتح له باب التوبة والعودة إلى الاندماج في المجتمع مرة أخرى وإن يسهل عليه أن يمحو آثار تلك الجريمة في نفسه وبينه وبين عناصر المجتمع ليعود فيه فردا صالحا, فالمجرم بجريمته هذه لم يخرج من دائرة الإسلام ولعله في إسلامه خير من كثير ممن لم تنكشف جرائمهم من المسلمين, لذا فلا ينبغي أن ينبذ ويعزل في المجتمع, ولا ينبغي أن يعيد جريمته ويحرم من حقوقه الأخرى داخل المجتمع ويذكر بجريمته حيث حل..
بل ينبغي أن نتذكر مقولة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يزجر بعضا ممن عير أحدهم وقد أقيم عليه حد شرب الخمر: ( لا تعينوا الشيطان على أخيكم ), وفي حديث السارق يناديه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحد ليقول له: ( قل أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ), فيرددها وراءه ثم يدعو له بالتوبة.. فالإسلام حريص على أبنائه الطائعين والعصاة ولا يحب أن يفقد احدهم وإنما يأخذ بأيدي الجميع إلى الجنة..
بقيت قمة جديدة أرقى من سابقتها ذروة فوق الذروة لم نتناولها في الحديث وأحسب أنها لم تكن لتحطر ببال مشرعي البشر وهي حق المجرم بعد توقيع عقوبة الموت عليه.. وهل للبشر حق بعد الموت؟!, وهل للمجرم بعد موته عند المجتمع شيء؟, نعم.. حق ألا يذكر إلا بالخير وأن ينسى المجتمع جريمته.. فالإنسان مكرم في الإسلام حتى بعد موته, بل حتى ولو مات مجرما في عقوبة تناسب ما أجرم في حق المجتمع وقد وقعت عليه العقوبة فمات وقد تطهر من ذنبه بالعقوبة فمن حقه بعد ذلك أن تذكره بالخير وتنسى تلك الجريمة.
هي بالقطع آفاق عالية تغلفها الرحمة وتكريم الإنسان.. انظروا إليه صلى الله عليه وسلم بعد ان رجم ماعزا في جريمة الزنا ومات سمع بعض صحابته يتناولونه بالذم والعيب فاستوقفهم صلى الله عليه وسلم أمام جيفة قذرة وأمرهم أن يأكلوا منها فلما استغربوا منه هذا الأمر قال لهم: لا.. فما قلتما من عرض أخيكم أنفا أشر من أكل هذا..
هذا الزاني المرجوم يصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أخ لنا ويزجر الصحابة أن ينالوه إلا بالخير.. وانظروا إليه – بأبي هو وأمي- يقول في المرأة الزانية التي رجمت: ( لقد تابت توبة لو وزعت على أهل الدنيا لوسعتهم ), أو كما قال.
كل هذا في بساطة ويسر قبل أن يتفلسف دعاة حقوق الناس بأكثر من عشرة قرون قضوها في صراعات ودماء وأشلاء لكي يدركوا بعضا من هذه الحقوق ويرقصوا من حولها وكأنهم حازوا ذروة الإنسانية بينما لازالت هذه الحقوق عاجزة عن تحقيق كرامة الإنسان بوصفه إنسانا وعاجزة عن إدراك تلكك القمم التي نزلت من السماء.
والآن ومع مشاهدتنا لمشاهد المحاكمة الهزلية التي أدين فيها صدام وعصابته ومشاهد الإعلام المقززة التي نشرت على شاشات الإعلام. وبعد مشاهدتنا لكلا المجرمين الأمريكان والحكومة العراقية وهم يتبادلون الاتهام حول هذا المشهد ونشره - وإن كنا بالطبع نعلم أن صدام وعصابته صنعوا الآلاف من مثل هذه المشاهد بل وأبشع منها - نقول لكم جميعا أين أنتم من ضمانات الإسلام العظيمة لتحقيق العدالة وإرساء قيم حقوق الإنسان.