authentication required

 

إن شغلنا الشاغل في هذه الحياة هو البحث عن حلول لمشكلات تعرض لنا، وتتنوع هذه المشكلات ما بين شخصية ومجتمعية وفكرية مجردة...إلخ، وبالقطع، فكلما اتسع نطاق المشكلة أفقيا أو رأسيا كلما تطلب حلها تناولا عميقا يسبر أغوارها، فلا يعود الفرد المعني بها من تلك الأغوار إلا وقد أحكم قبضته على العناصر المكونة لها، أو هكذا يجب عليه أن يفعل. فإذا أبان لنا ذاك الفرد عن تصوره لحل المشكلة، بذكر بعض عناصرها ليغفل عن أخرى هي من لوازم الحل مع ما ذكره، لا يكون هذا الفرد بذلك قد قدم لنا جزءا من الحل أو سار بنا بضع خطوات على الطريق الصحيح، بل يكون قد ألبس علينا الحقيقة، وساقنا إلى مجاهل الشطط. أيحمل طرحنا هذا نوع من المغالاة؟.

إن طبيعة العصر المعقدة، التي يستشعرها حتى الفرد العادي في كل تفاصيل حياته، تستدعي التزام الدقة البالغة في التعامل مع أبسط شؤونه، فضلا عن أكثرها تعقيدا، إضافة إلى أن هذه الطبيعة  تنبئنا على لسان علم الرياضيات  بأن عصرنا ذاك قد تُحدث فيه الحركة الهينة التي لهونها نعجز عن إدراكها إذا ما تمددت في الزمان تغييرات جسيمة(1) ـ وهو ما لم تعرفه عصور ماضية ـ وبذا أصبحت الخطوة المضطربة (ونخص اهتمامنا هنا بتلك المرتبطة بالمجال الفكري موضوع طرحنا) أو المترددة أو تلك التي تنحرف عن موضعها، ولو بضع سنتيمترات، تستتبع انحرافات واسعة، لا يمكن التنبؤ بمداها.

إذن فإجابتنا على السؤال السابق ستكون بلا، وهذه الـ "لا" تقودنا إلى نتيجة تخص طرحنا الذي نزمع عرضه على القارئ الكريم وتتمثل في أن كثيرا ممن يوصفوا بكونهم علماء أو مفكرين ببلدنا هم في حقيقة الأمر مضللون لا أكثر. هم ليسوا حتى بأنصاف ولا أشباه، هم ليسوا بشيء.

وفي هذا المقال، ينصب اهتمامنا على تناول المدرسة الفكرية التي شاع تسميتها بمشروع "الإسلام الحضاري"، والذي من أبرز دعاته ببلدنا المستشار طارق البشري، والدكتور محمد عمارة، والأستاذ فهمي هويدي، والدكتور محمد سليم العوا.

 الملاحظة الأولى التي تبرز لنا من استعراض خطاب هؤلاء الأعلام تتعلق بعناوين هذا الخطاب كما نجدها عند طارق البشري: "بين الإسلام والعروبة"، "الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي"، "الحوار الإسلامي العلماني"، "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"... أو كما نجدها عند فهمي هويدي: "الإسلام والديمقراطية"، "مواطنون لا ذميون"، "خطاب التطرف العلماني في الميزان"... أو كما تتضح عند محمد سليم العوا: "الأقباط والإسلام"، "الحق في التعبير"، "في النظام السياسي للدولة الإسلامية"... أو كما تتجلى عند محمد عمارة: "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام"، "التراث والمستقبل"، "الجامعة الإسلامية والفكرة القومية"، "المواجهة بين الإسلام والعلمانية".

هذه هي أهم القضايا التي احتواها خطاب هؤلاء الأربعة، (الذين يمكن أن نلقبهم بالأربعة الكبار، باعتبارهم أبرز منظري مشروع "الإسلام الحضاري" وأشهرهم ببلدنا)، وإذا ما أدرنا وجوهنا، ورمينا بأبصارنا إلى الماضي، مدى يمتد إلى ما يزيد عن مئة عام، لأبصرنا ذات الإشكاليات مطروحة للنقاش، بذات المضامين، مع اختلافات يسيرة، لا تتلاءم ومرور تلك الفترة الزمنية الطويلة، التي يقف على رأسها السيد جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام محمد عبده، بل وهي هي ـ أو تكاد ـ ذات المداولات والنقاشات الفكرية التي كانت تقوم بين رواد تيارنا الإسلامي ذاك وبين رواد التيار العلماني في ذلك الوقت.

 وتحت وطأة التدافع الفكري بين التيارين، اندفع رواد مشروع "الإسلام الحضاري" إلى "شرعنة" (من الشريعة) القيم التي يدعو إليها رواد التيار العلماني، وإبراز أن لا تعارض بينها وبين ما يدعو إليه الإسلام، ولا ندعي أنهم أتوا ذلك تكلفا بل لم يعدوا الحق، لكن هذه العلاقة المتشابكة - والتي استمرت إلى يومنا هذا- قد أثرت تأثيرا سالبا على اتجاه تطور هذا المشروع، وألزمته بمسار ووجهة بعينها لا يعدوها، وصرفت أصحابه عن تتبع مكامن العلل في الوجدان والعقل الإسلامي.

وكان مؤدى ذلك أيضا حالة من الاستقرار بل الركود الفكري خيمت على أصحاب هذه المدرسة، ليتقاعسوا عن التقدم نحو مسالك وعرة، أو لنقل نحو "ثقوب تاريخية" رغم جاذبيتها (أي كونها أكثر إثارة من الناحية الفكرية، وأكثر إنتاجية من الناحية الثقافية)، لكن الانجذاب نحوها بما يستتبعه من ممارسة للنقد الذاتي الصارم ربما دفعهم للاعتقاد أنه كان ليوهن  قدرتهم على المواجهة الفكرية المحتدمة مع القطب الآخر (العلماني)، وحتما كان ليؤجج نيران صراع آخر مع القوى المحافظة داخل ذات الدائرة؛ الدائرة الإسلامية.

وبذا دارت جهودهم في ذات الدائرة المفرغة: الإسلام والعلمانية، الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، الأصالة والمعاصرة، حقوق "الأقلية" وحقوق "الأغلبية"، أو بتعبير آخر الإسلام والديمقراطية... مدى يزيد على القرن من الزمان، حتى لتكاد الروائح النتنة تتصاعد من كتابات أصحاب هذه المدرسة المعاصرين، لتضيق صدورنا، بهذه العملية الاجترارية !.

وإذا كنا نستطيع أن نلتمس العذر للرواد الأول لهذا التيار الذين حاولوا على عجل أن يستعيدوا التوازن لأمتهم ـ إثر هجوم شامل لا يعرف الهوادة من قبل الغرب الإمبريالي ـ عبر "شرعنة" قيم الحداثة، ودمجها في المنظومة الثقافية الإسلامية، (وبخاصة وأن الرائدين الأفغاني وعبده قد ضمهما النضال ضد قوى الاستعمار وقوى الاستبداد الداخلي ضمة لم يستطيعا الفكاك منها)، لكن ورثة هذه المدرسة الذين أتيحت لهم فرصة المراجعة ومعالجة ما أصاب الوجدان والعقل الإسلامي من تشوهات خطيرة لم يتقدموا خطوة واحدة على هذا المسار، واندفعت أقلامهم مرغية مزبدة عن ذات الموضوعات التي تناولها الرواد ومن لف لفهم في زمانهم لتضيف إليها الحواشي ويفصلوا ما جاء مجملا بها (وهذا مما يدعو للسخرية فقد دأب أرباب ذلك المشروع على نقد علماء عصور الانحطاط بأنهم لم يقدموا إضافات حقيقية، واكتفوا بإضافة الحواشي على المتون!).

أهو الجبن الفكري وطلب السلامة؟. نعم ربما كان هو ذاك، فالعمل الحفري المعرفي يلزمه شجاعة فائقة (فضلا عن القدرة) من المؤكد أنها لا تتوافر لتلك العقول "السكولاستيكية"(2).

وعلى هذا لم يتقدم ذلك المشروع خطوات ذا قيمة على أي مسار، فلا هو خطى خطوات ملموسة تجاه الهدف الأسمى له (النهضة)، ولا هو استطاع أن يحقق الجماهيرية التي أفرزها الخطاب الإسلامي المتشدد (لا شك أن أحد أهم أسباب  ازدهار هذا الخطاب انعدام فكر نقدي حول التراث الديني)، ولا هو ساهم في علاج التشوهات التي ألمت بالعقل والوجدان الإسلامي! (ما الذي حققه؟!!).

ولنخطو الآن خطوة جديدة  فنكشف عن أحد تلك "الثقوب التاريخية"، التي ندعي أن الإعراض عن استكشافها، واستعراض أحشائها ـ بأدوات تقدمها لنا المناهج العلمية الحديثة ـ قد أبقى على التشوهات التي لحقت بالعقل والوجدان الإسلامي قائمة، وليحول ذلك بين تجسد قيم الدين الحق (الصالح لكل زمان ومكان كما ندعي ونؤمن) في الأمة، أنتمادى فنقر ـ مستعيرين تعبير أحد المفكرين الغربيين في وصفه للتاريخ المسيحي ـ أن تاريخ الإسلام ـ نتيجة لتمكن هذه التشوهات من جسد الأمة ـ لم يكن سوى سلسلة خيانات متكررة للإسلام؟! (الوحيد الذي كانت لديه الجرأة الفكرية ليصل إلى تلك النتيجة، دون أن يتعرض لأسبابها، هو المغفور له سيد قطب). ولعل أبرز هذه "الثقوب التاريخية" بل في المقدمة منها، تلك الوقائع التاريخية المسماة ب"الفتنة الكبرى".

لنشر بداية وقبل أن ينجذب القلم تجاه هذا "الثقب التاريخي" ـ  مكتفين بتسليط ضوء خافت على غوره العميق ـ  أن دعوتنا ـ في لفت الانتباه إلى ضرورة التنقيب بتلك الفترة الزمنية ـ لا تتشابه وتلك الدعاوي التي تبرز بين الحين والآخر منادية بإعادة قراءة التاريخ الإسلامي. لا، بل هي أكبر وأوسع نطاقا من تلكم بكثير، هي أشبه بدعوة لاختيار موطن ايكولوجي جديد يجنب الأجيال القادمة تلك الصورة التي يمكن تمثيلها بالحالة المعروفة باسم "القتامة الصناعية"(3)، وقد صبغت سلاسل جيلية إسلامية كاملة.

يقدم لنا واحد من أهم منظري التاريخ الغربي المعاصر إدوارد هـ.كار فرضية تشير إلى أن "القول بأحداث أو وقائع تاريخية مستقلة عن سياق تفسيري أو حبكة مفترضة هو مغالطة شديدة الادعاء"، وتسلط هذه المقولة الضوء على إشكالية المعرفة التاريخية، لتحثنا على ضرورة التناول النقدي للتاريخ، أو بتعبير أدق، التناول النقدي لـ"الحبكة" التاريخية، وهو أمر نراه ضرورة لا غناء عنها في تناول الحقبة التي نحن بصدد التعرض لها ـ أو غيرها بطبيعة الحال ـ فهذه الفترة ـ الفارقة والثرية بالأحداث ـ مازلت فاعلة بدرجة كبيرة إلى وقتنا الحاضر، وربما لن يسمح مقامنا هنا سوى بمس جانب هام من جوانب هذه الفاعلية مسا رفيقا، يتعلق بالفرضية التي نُعنى بطرحها على القارئ الكريم، وتقول بأن "الحبكة" التاريخية التي رفع راياتها مفكرو أهل السنة المعتمدين عن تلك الفترة الزمنية المحورية كانت تقضي بانطفاء نجم الإسلام المشع (لكن نوره ـ مع ذلك ـ سار بين الأفلاك لم يعره  زوال)، وبتعبير آخر لقد هوت مطرقتهم التاريخية فوق العديد من القيم المطلقة التي ثبتت أوتادها التجربة النبوية وكذلك تجربة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، لتؤثر هذا الفعل الغاشم على أن تمس التبجيل والتعظيم الواقع بين جنباتها لصحابة رسولنا الكريم. وبعبارة ثالثة ـ وموجزة ـ انتصروا للمرجعية التاريخية (لصحابة الرسول) على حساب المرجعية المفارقة.

لقد امتطى بعض رواة "الفتنة" صهوة تلك العاصفة العاتية، لتهب على أبناء الأمة الإسلامية، وتقذف بهم إلى سبيل لم تمهده قيمهم التي ورثوها، وهنا مضوا يتخبطون على غير هدى، فالدين الذي تبدى أول ما تبدى كثورة اجتماعية، تعصف بكل مظاهر الظلم الواقعة على المستضعفين والفقراء، ليطوي نفوسهم، وينطلق بها إلى أعال لم يخبروها يوما، فيسلموا له القياد، ويهبوا في سبيله الحيوات، هذا الدين تنكر لنسلهم، حتى "شاع لدى المتأخرين من أهل الفقه: أن لا حق في المال سوى الزكاة، وأصبح هذا كالقضية المسلمة عند كثير من المشتغلين بالعلم الديني"(4)،(والواقع أن هذا كان الاتجاه الأشهر والسائد على طول التاريخ الإسلامي رغم عظم القامات التي تبنت الرأي المخالف لذلك فمن الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي ذر وابن عمر وغيرهم، ومن التابعين مجاهد بن جبر، وطاووس بن كيسان...، وفقهاء أمثال الشعبي وابن حزم...، ومن الرموز الإسلامية في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي). وليذل أهله على مدار قرون مديدة، تحت وطأة حكم أن لا يجوز الخروج عن الحاكم، وإن طغا وإن فسد....وإن جلد ظهرك وأخذ مالك...، وهو هو الدين الذي رفع رسوله الكريم ـ في زمن كسرى وقيصر ـ راية الشورى خفاقة سامقة، ونادى خليفته الأول في الناس أن قوموني إذا رأيتم مني اعوجاجا، وحمد خليفته الثاني ربه أن كان بين رعيته من إذا اعوج هو عن الطريق المستقيم قومه بسيفه !. وإن كان ذلك كذلك، فلتنحدر جماهير المسلمين عليلة نحو مطارح لقمة العيش التي تتساقط من موائد أغنيائهم، ولتغلي مراجلهم ـ دوما ـ بسفاسف الأشياء، وتوافه الأمور!، وليُقبر كل صوت ثائر حاول أن يتملص من كهوف الصمت ليتردد دوي صوته في الوديان الفسيحة !

إذن فالآفات التي حملتها "الحبكة" التاريخية السنية الرسمية (بما احتوته من انتقاء وحذف وتنظيم وتعظيم أحداث صغيرة وتصغير أخرى عظيمة) لوقائع "الفتنة" قد أصابت اللاوعي الجمعي لدى الأمة بأمراض جد خطيرة، إذ خلخلت البناء القيمي الإسلامي، وأرست قيم الاستبداد داخل هذا اللاوعي بالموازاة مع إرسائها في واقع الأمة الحياتي، ووطأت كذلك لنظام رأسمالي بغيض أضحى ك"القضية المسلمة عند كثير من المشتغلين بالعلم الديني" ، لتطبق أجفانها ـ بعد ذلك ـ في خشوع وورع وتتمتم قائلة: تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا!!.

وهاهنا يحسن بنا شيء من التفصيل نسوقه للقارئ: إن الرهبة التي شلت أقلام مؤرخو "الحبكة" السنية الرسمية لوقائع الفتنة عن الإدانة الصريحة لأفعال عثمان (رضي الله عنه)(5)  بل واجتهدت في تبريرها (ولاشك أن في هذا انتصارا للتوجهات المشار إليها سلفا، والتي تعمقت في عهد معاوية، لتواصل "الحبكة" الرسمية نصرتها لها)، ولم تدن كذلك الصحابة الذين حرضوا عليه( بل ربما لم تعترف بذلك)، ولم تدن أيضا أولئك الذين اعتزلوا وتركوه يلاقي مصيره، لكنها أدانت بقسوة شديدة الخارجين على عثمان (من غير الصحابة)، ولم تلمح في خروجهم سوى أنه مؤامرة نسج خيوطها ابن سبأ، الذي رأى البعض أنه ليس سوى خرافة مبتذلة روج لها مؤرخو "الحبكة" الرسمية لسد ثغرات روايتهم، أو أن كاهله ـ إن كان له وجود ـ قد أثقل بما لا يقدر مثله أن يصمد له.   

المدهش بعد ذلك أن تلك "الحبكة" وإن كانت أوغلت في إدانة الخارجين على عثمان، فقد تباطأت بل انصرفت عن إدانة الصحابة الخارجين على الإمام علي، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص  الذين خرجوا عليه بزعم الثأر لنفس واحدة ليزهق في حربمهما ضد الإمام سبعون ألف نفس!!، وبعد أن يستتب الأمر لمعاوية يتناسى هذا الثأر، ثم يورث الحكم لابنه بعد ذلك بحد السيف!!.

وقد وقر بذلك في اللاوعي الجمعي لدى الأمة أن القيم الإسلامية ليست مطلقة، وأنها  قبل أن تشد قوسها تفتح عيناها العمياوان ـ أو هكذا يفترض أن يكونا ـ لتبصر من تصيب!. وقد قطعت تلك "الحبكة" ـ ولا نقول الأحداث ذاتها ـ  الشرايين التي تغذي قيم الشورى ومرجعية الأمة أو على الأقل أوهنتها، ولتشدد وثاق الأمة إثر ذلك، وتقدمها قربانا إلى حكامها الطغاة ومحيطهم من فقهاء السلطان والأغنياء العتاة، ليسيسها الأولون على القتات من فضلات الأخيرين وصدقاتهم، هذا إن تفضلوا وتصدقوا، (ولعل التنظيمات الإسلامية بمجتمعنا أصدق دليل على ما ألم بالعقل والوجدان الإسلامي من تشوهات عميقة، فمن تميع للقيم وتوقف عند حد الإقرار الشكلي لها، إلى ميكافيلية تتسلط بقوة على ممارساتهم السياسية، إلى توجه رأسمالي بغيض يحكم رؤاهم الاقتصادية، إلى تغليب ـ في الشأن العام ـ سفاسف الأمور على عظائمها)!.

لنستعيد دعوانا التي قدمنا بها مقالنا، ومؤداها أن الإقدام على تفسير مشكلة علمية أو فكرية يتطلب بداية أن نصل إلى أبعد نقطة تعوزها المعالجة الجادة لموضوع البحث أو المشكلة، كذلك يُشترط إحكام عرض حزمة العناصر التي تتشكل منها المشكلة موضوع البحث، وإلا نجم عن عدم مراعاة ذلك اضطرابات (فكرية) جسيمة (كما أوضحنا أعلاه). ولاشك أن المشروع المزعوم لم تلامس قدماه تلك المساحات التي كان حتما عليه أن يتقدم إليها، وإن تقدم أحد حملته نحو أي منها نرقبه يدور حولها، ولعله يلامس أطرافها، ثم يبتعد آخرا. فلا وجود لحفريات نقدية ـ ضمن هذا المشروع ـ  تنصب على ما أسميناه ب"الثقوب التاريخية" (وقد المحنا ـ على عجل ـ وبإيجاز شديد لنموذج لها، وأشرنا سريعا إلى الآثار المترتبة على خلوه منها) إنما قوامه عملية اجترارية تتسبب في شلل عقلي مؤلم للقارئ، وليورث مرور الزمان بذلك حلوقنا علقما يهرسها، ومرارة تسد منافذ أنفاسنا.

نحن أمام أناس يدعون أنهم أرباب مدرسة للإصلاح والتجديد، لكن الواقع ـ كما بيناه ـ يهزأ بادعائهم ذاك، فمبلغ جهدهم لا يعدو كونه "شرعنة" أو "أسلمة" لقيم الحداثة، أي عملية طلاء سطحية، لا تتضمن معالجة حقيقية لموانع تطور القيم التي بذرها الإسلام في مرحلة جد مبكرة ـ وكانت لتثمر رؤية قيمية أصيلة متكاملة تغنينا عن سواها ـ وهذه المعالجة كانت لتستتبع ـ بطبيعة الحال ـ ترسيخ القيم المبتغاة داخل اللاوعي الجمعي لدى الأمة ـ كذا الوعي ـ رسوخا صلبا متينا، وبذا تتقدم الأمة تقدما واثق الخطى مطمئنا لبناء صرح النهضة.

أما وإن ذلك لم يتخذ سبيله إلى الواقع ـ إضافة إلى ما ذكرنا أعلاه ـ فليستحق هؤلاء بهذا توصفينا السالف ذكره بأنهم مضللون لا أكثر. هم ليسوا حتى بأنصاف ولا أشباه، هم ليسوا بشئ.

وإن لهب الحقيقة ليتعالى مشمئزا من هذه العقول المائعة (القديمة والمعاصرة) التي زيفت الوعي الإسلامي، وإن ينبوعها ليأبى أن يروي عطش تلك العقول المدنس إليه، ولعل عواصفها التي هبت على بلدنا مع ثورة مباركة تجرف في هبوبها كل سموم تكون قد نفثتها تلك العقول المائعة في أجواء أمتنا لتصفو قيمنا ومثلنا، فتشرئب إليها النفوس والأفئدة بالتعظيم الواجب والمحبة الخالصة والطاعة الصادقة.

(1)   هي نظرية تعرف باسم" تأثير الفراشة "، تفيد بأن  أي فعل وإن بدا بسيطا هينا في الظاهر فإن له تأثير، وقد يتطور هذا التأثير تطوراً هائلاً غير متوقع، حيث أن "رفرفة جناح فراشة في البرزيل قد تفجر عاصفة في تكساس"، وقد أطلق الباحث الأمريكي "فيليب ميريليس" هذه التسمية "تأثير الفراشة" لتوصيف تلك الحالة، معتمدا في إطلاق نظريته هذه على أبحاث عالم الرياضيات والأرصاد الجوية "إدوارد لورينز".

(2)   مصطلح لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير "بيير بورديو" يصف به العقل التكراري الاجتراري.

(3)   "القتامة الصناعية": حالة تصف اختلال جيني أدى إلى تطوير سلالات داكنة من الفراشات نتيجة تكيفها مع التلوث الصناعي (في إنجلترا).

(4)  فقه الزكاة، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الجزء الثاني، ص963

(5)   فمن توليته شقيقه من أمه الوليد بن عقبة عاملا على الكوفة بدلا عن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)، وهو من وصفه القرآن بصفة فاسق، أي في النسق القرآني الرجل الذي لا يوثق بكلامه ( أنساب الأشراف،ج5،ص30،البلاذري، دار المعارف)، وتبع هذا التعيين بعام الحاق عبدالله بن أبي سرح، ابن عم عثمان وشقيقه بالرضاعة بولاية مصر ـ بديلا عن عمرو بن العاص ـ وهو الذي أهدر النبي دمه إثر إدعاءه قدرة على الإتيان بآيات محكمات على غرار آيات القرآن الكريم، وعين ـ كذلك ـ أمويا آخرا، ابن خاله عبد الله بن عامر على البصرة بدلا من أبي موسى الأشعري. وعفا عن الحكم بن أبي العاص الذي كان الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول الله صلى الله عليه وآله في الجاهلية ، وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام ، وروي انه بعد إسلامه وقدومه المدينة، اعتاد أن يهزأ بالرسول، واطلع على رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم وهو في بعض حجر نسائه فعرفه وخرج إليه بعنزة وقال : من عذيري من هذا الوزغة اللعين ، ثم قال : لا يساكنني ولا ولده فغربهم جميعا إلى الطائف، ومن هنا كان نفيه إلى الطائف، ورفض أبو بكر ولا عمر طلب ردهم إلى الدينة (أنساب الأشراف،ج5، ص27)، وأوغل عثمان (رضي الله عنه) في سياسة محاباة أقاربه من بني أمية، فوهب ابن عمه عبدالله بن أبي سرح خمس غنائم أفريقية ثم عاد واستردها منه بعد غضبة الصحابة، ومنح صدقات قضاعة لعمه الحكم"، إضافة إلى اعتماده سياسة الاقتراض من بيت المال، وهو الأمر الذي أدى إلى تراكم ثروات طائلة لدى الكثيرين.  هذه السياسات وغيرها هي التي أضرمت نيران غضب لدى كثير من الصحابة، فكان الصحابيان محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر (وهما من الصحابة الذين اشتركوا في حصار عثمان، ومنهم كذلك ابن عديس، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم)   عام  خروجهما مع عبد الله بن سعد  بغزوة الصواري يظهران عيب عثمان وما غير وما خالف به أبا بكر وعمر، وأن دم عثمان حلال. ويقولان استعمل عبد الله بن سعد؛ رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما وأدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله واستعمل سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر.(تاريخ الطبري، ج4، ص291، دار المعارف)، وكان عمرو بن العاص يقول: والله إن كنت لألقي الراعي فأحرضه عليه (على عثمان)، كذلك أم المؤمنين عائشة، التي ذهبت إلى أبعد من هذا فخرجت على الناس قابضة على شعر النبي ونعليه، معلنة لهم، أن سنة نبيهم قد تركت بعدهم)، وكانت تنادي في الناس:"اقتلوا نعثلا فقد كفر"(تاريخ الطبري، ج4، ص495)، وكان الصحابي عمار بن ياسر من أبرز المعترضين على سياسة عثمان، فجرى القبض عليه والتنكيل به بشدة(أنساب الأشراف،ج5،ص48)، كما لم يكن من أصحاب النبي (ص) أشد عليه من طلحة (الأنساب، الجزء الخامس، ص81) أما علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) فلم يألو جهدا في مراجعة عثمان (رضي الله عنه)، المرة تلو المرة، وكان أن دخل عليه بعد اجتمع الناس عنده واشتكوا له، فقال: الناس ورائي، وقد كلموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على شئ لا تعرفه.....وإني أحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركهم شيعا، فلا يبصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيه موجا.....". (تاريخ الطبري،ج4، ص337)، وكانت آخراها، أن دخل عليه  مغضبا، قائلا له: أما رضيت من مروان ولا رضى عنك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به.... وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك".(تاريخ الطبري،ج4، ص362)

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 386 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

305,308