بين “المرجعية الإسلامية” والمرجعية العلمانية

إن هدفنا من إجراء تلك المقابلة بين “المرجعية الإسلامية” والمرجعية العلمانية لا يتمثل في تبيان مدى أفضلية الأولى على الثانية، وإنما نستهدف الوصول بالمصطلح الأول”المرجعية الإسلامية” إلى درجة من الوضوح تتيح لنا أن نستوعب بشكل كامل ما تدعونا إليه تلك المرجعية، وما الحدود التي ترسمها لكل من ارتضاها مرجعية نهائية له، وكيف يمكن أن يتوافق حولها الجميع؟.


لا نريد أن نسارع بوضع تعريف للمرجعية الإسلامية، إذ قد يكون من الأنسب ادخاره حتى نورد أهم السمات التي تتميز بها مرجعيتنا تلك، وستسهل عملية المقارنة بين “الإسلامية” والعلمانية استكشاف تلك السمات، ولتكن نقطة البداية ـ في تلك المقارنة ـ التمييز بين المنطلقات التي تأسست عليها كلتا المرجعيتين، أو بتعبير أدق الأدوات المعرفية التي تشكلت كلا منهما على أساس منها.


ففي حين تولدت المرجعية العلمانية ـ على اختلاف الايدلوجيات التي تستند إليها ـ بواسطة الحواس أوالعقل كأداتين معرفيتين لا ثالث لهما، نبصر على الجانب المقابل؛ وهو جانب “المرجعية الإسلامية”، هذا الثالث المتمثل في الوحي المنزل من السماء، وهو يستأثر بتشكيل تلك المرجعية،  ليكسبها ذلك ثباتا لا تبدل فيه (ثباتا مطلقا)، مصدره أن واضع قيمها ومبادئها ليس بشريا ـ وإنما هو المولى عز وجل ـ ومن ثم لا حيال لأي فرد أو لأية جماعة أن تتناول تلك المرجعية بالتعديل أو التبديل، بينما نجد المرجعية العلمانية وإن كانت قيمها الرئيسية تتمتع بنوع من الثبات النسبي غير أنه ليس هناك ما يمنع أن يتناولها التغيير.


إضافة إلى ذلك فإن هذه المرجعية، المرجعية العلمانية ـ سواء أكانت جزئية أم شاملة بحسب تقسيم الدكتور المسيري ـ فإما ان “لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية”([1]) (العلمانية الجزئية) أو تكون “المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق”(2) (العلمانية الشاملة)،  ومن ثم فهي في الحالتين لا تضم أي منظومة أخلاقية مطلقة، كذلك فهذه المرجعية لا تحفل بالمعنى، إنما اعتناءها بتحقيق المنفعة فقط، واعتمادها كمرجعية نهائية يجعلنا ندور مع المنفعة أينما وكيفما دارت.

ويقودنا ما ذكرناه إلى استنتاج أنه لا محيص في أن نعتقد في مرجعية مقدسة تكون بمثابة مرجعية نهائية لنا، تحمينا من ذلك المصير الذي رصده وتحدث عنه المفكر الأمريكي “إرفنج كريستول” عندما أشار إلى “البربرية العلمانية”، التي نشأت نتيجة لعجز العقل عن تأسيس نسق أخلاقي، كذلك عجزه عن ابتداع معنى يتبطن الوجدان الإنساني، ويحميه من الشعور بالاغتراب.


“الإسلامية” كمرجعية نهائية يتوافق حولها الجميع

 وإذا ما سلمنا بهذه الضرورة (ضرورة تبني مرجعية مقدسة)  سننتقل إلى نقطة أخرى ذات صلة وثيقة بما أقررناه؛ فإذا كانت المرجعية الإسلامية تزودنا بالنسق الأخلاقي اللازم لحياة سياسة واجتماعية متوزانة، كذلك هي تمدنا بالمعنى، فما الذي يمنع إذن أن تنطلق من تلك القاعدة المستقرة الراسخة كافة الأطياف السياسية إلى فضاء الحياة العامة من بعد؟.

للإجابة عن هذا السؤال يستلزم بداية الإشارة إلى أن “المرجعية الإسلامية” إنما مجالها ـ كما سبق الذكر ـ  هو القواعد العامة، التي وإن كانت حاكمة لعالم التفصيلات بيد أنها لا تنتمي إليه، فهذه المرجعية قد تضم من بين قيمها قيمة كقيمة العدل، غير أنها لا تفرض ـ من أجل تطبيقها ـ توجها بعينه، إذ أنه ـ مثلا ـ فيما يخص المجال الاقتصادي، واستنادا إلى تلك المرجعية، هناك من الفقهاء الذين أدلو بدلوهم في هذا الجانب ارتأوا أن “الحق الوحيد في المال هو الزكاة”([2])، وأن ليس على المسلم إن أداها شئ آخر “إلا ما تطوع به”(2)،(وهو ـ للأسف الشديد ـ التوجه الأشهر في الفقه الإسلامي الذي يتناول هذا الجانب).


وفي مقابل هذا الاجتهاد نجد أن هناك من رأى أنه “إذا جاع مسلم فلا مال لأحد”، وهو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)، وهو القائل كذلك “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين”.

ومن أصحاب هذه المدرسة أيضا والتي توافقت على أن للمسلم حقوق أخرى واجبة يؤديها للدولة غير الزكاة أبي ذر الغفاري، وابن عمر، والإمام علي (رضوان الله عليهم)، وفي عصرنا الحديث مولانا جمال الدين الأفغاني، وأصحاب هذا التوجه تتخذ سيرتهم (أقوالهم وأفعالهم) مسارا مباينا لأصحاب الاجتهاد السابق ذكره.


إذن فإن كانت هذه المرجعية قد أقرت مبدأ العدالة، إلا أن ذلك لم يمنع أن يبرز من بين معتنقيها من يقول بالرأي الأول، معتقدا أنه يحقق هذا المبدأ، بينما رأى آخرون ـ ممن استندوا لذات المرجعية ـ أن لا سبيل للعدل إلا بتمثل الرأي الثاني.


وبعد ذكرنا لتلك الملاحظة التي كان من الأهمية بمكان إيرادها ليستقيم حديثنا، (ونستهدف من وراء الإتيان بها إبراز مدى سعة هذه المرجعية، وأنها يمكن أن تضم تحت مظلتها أصحاب الرؤى المختلفة، ليس فقط في المجال الاقتصادي، وإنما في شتى المجالات الأخرى)، فلنرصد أهم العوائق التي تحول دون  توافق الجميع حول المرجعية الإسلامية كمرجعية نهائية.


 إن هناك من بين الجماعات والقوى السياسية التي ترفع اليافطة الإسلامية من يغويهم التلبس بالمقدس؛ فيدفعوا بآرائهم النسبية إلى دائرة المطلق (وهي مساحة محدودة إلى حد كبير)، ليضيقوا واسعا، وتتبدى ـ تلك الدائرة ـ للآخرين كطوق مقيد ينفروا من أن يدخلوا فيه، ويأبوا أن يتنكبوا سبيل تلك المرجعية إذ يبصروها تتحدث بلغة مخاصمة للغة العصر (فهذه الآراء التي تزج بها تلك الجماعات والقوى السياسية إلى دائرة المطلق غالبا ما تكون مستجلبة من كتب التراث، وربما لهذا يحيطونها بهالة القداسة إذ أن التراث يمت بصلة رحم للمقدس، وسوف يدفع تعريفنا للمرجعية الإسلامية هذا العائق، بترسيم حدود واضحة لها).


 وهنا لا يجد البعض غضاضة في أن يتبنى مرجعية نهائية ـ علاوة على أنها لا تثقل كاهله إلا بما الزم به نفسه ـ تعده إن هو طلق الغيبيات والمطلقات بالفردوس الأرضي، وهي المرجعية العلمانية.


وهذه النقطة تفتح لنا بابا لندلف منه إلى العائق الثاني الذي قد يحول بين دعوتنا في أن تكون المرجعية الإسلامية مرجعية نهائية لكافة الأطياف السياسية وبين تلبيتها، ويتمثل في الاعتقاد السائد ـ لدى دعاة العلمانية ـ في الربط الحتمي بين الحداثة والعلمنة، وما من شك أن هذا التلازم  ـ في إطار التجربة الغربية ـ كان ضروريا، فلم يكن ليتلون شفق تلك المجتمعات الغربية بألوان الحداثة الزاهية إن لم تعتملها يد العلمنة؛ إذ أن الكنيسة ـ التي كانت تحتكر التحدث باسم الدين ـ قد سعت لفرض إرادتها ورؤاها(المقدسة) على كثير من جوانب الحياة في الغرب، ومن ثم مثلت تلك الرؤى ـ الغير علمية ـ عائقا أمام النهضة والتنوير والحداثة؛ لذا كان من الضروري إحداث نوع من المفاصلة بين الكنيسة والدولة، وبالتبعية المفاصلة بين الدين والدولة، لتنطلق مسيرة النهضة والتنوير والحداثة من بعدُ.


 لكن هذه الضرورة التي نشأت وترعرعت في الغرب، لا مجال لاستنساخها في بلادنا، لأن مبررات فرضها هناك لا تتوافر داخل بيئاتنا العربية الإسلامية، (وهي مسألة أسهب في تناولها العديد من الكتاب والمفكرين الإسلاميين، فلا حاجة بنا إلى التكرار) ومن ثم تكلف استجلابها والإصرار عليه عوضا عن أنه لن ينجم عنه إلا مزيدا من التباعد بين النخبة التي تصر على ذلك وبين الجماهير ــ فهو محاولة غير علمية أيضا.

 

 تعريف “المرجعية الإسلامية”

وإذا كان ذلك كذلك، فيبقي أن نشير إلى ما المقصود بهذا المصطلح “المرجعية الإسلامية”؟ ( إذ رغم تداوله كثيرا في ساحاتنا الفكرية والسياسية غير أنه مازال يكتنفه الغموض وعدم التحديد).


من خلال ما سبق ذكره نستطيع أن نثبت لمرجعيتنا تلك السمات التي ذكرناها فيما سبق أعلاه، وهي كونها قواعد عامة، وكذلك سمة الثبات المطلق الذي تتمتع به مبادئها وقيمها، فلننطلق بعد ذلك لوضع تعريفا لها، يرسم حدودها بدقة، ويقيها شر إدخال ما ليس منها عليها (وهو ما دأبت على القيام به بعض القوى التي تنتمي إليها ).


إذن يمكن أن نعرف هذه المرجعية بأنها “الأصول العامة المطلقة، والتي تحتوي علي مضامين أخلاقية، وفلسفية، وتشريعية، مصدرها الدين الإسلامي ( وتشاركه في كثير منها الأديان السماوية الأخرى)، وهذه الأصول العامة المطلقة تحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة (عبر تجنب ما قد يتعارض تعارضا قطعيا مع ما تدعو إليه) كل فعل يقوم به معتنقيها، وتُعني تلك المرجعية بالدرجة الأولى بتحقيق مصالح الناس”.


 والمرجعية الإسلامية ـ كما قدمناها في التعريف السابق ـ لا تقف حائلا بين أي تيار أو جماعة وبين أن تبدع أو تتبنى ما عنى لها من فكر، أو فلسفة، أو تشريع تتحقق به مصالح الناس، بما لا يتعارض مع المطلق، (وهي مساحة محدودة إلى حد بعيد)، بل ربما إن جمود وتمسك هذه الجماعة أو تلك  بأي فكرة، أو فلسفة، أو تشريع، يتصادم والمصلحة العامة، وفي ذات الوقت لا يتعارض مع المطلق ـ تعارضا قطعيا ـ يفقد هذه الجماعة شرطا هاما من شروط إسلاميتها.


وإسلامية أي جماعة أو حزب إنما تتوقف بدرجة أكبر ـ وفق التعريف المقدم ـ على مدى قدرته في خدمة مصالح الناس، فالجماعة أو الحزب الذي تتحقق بسياساته المصلحة العامة هو الأكثر إسلامية من جميع القوى الأخرى.

والمرجعية الإسلامية وفق هذا التعريف أشبه  بشمس مشرقة لا تأبى أن ترسل بأشعتها إلى كل من تطلع إليها، متمنعة فقط عن أولئك الذين اتخذوا حجبا كثيفة، أو حجرات مغلقة تعصمهم نورها الوضاء (وهم الذين تتغذى أفكارهم  من رؤى تتعارض تعارضا قطعيا مع الأصول العامة المطلقة التي قعدتها المرجعية الإسلامية).


وختاما نشير إلى إن تلك الدعوة لا تصبو فقط لتقليص مدى الشُقة القائمة بين النخبة ـ في بلدنا ـ وجماهيريها، بل هي ـ كذلك ـ تستهدف تأسيس قاعدة ارتكاز تستند إليها النهضة المرجوة لبلادنا، إذ أن للنهضة وجها ثقافيا، لا تستبين ملامحه إلا عبر الشعور بالتمايز عن الآخر، ويغذي هذا الشعور ـ بالطبع ـ مدى وعي الجماهير بشخصيتها التاريخية، والتي يقف الإسلام في القلب منها لا يزاحمه في ذلك أي مكون آخر من مكونات تلك الشخصية.


محمد السيد الطناوي

[email protected]


[1] الدكتور عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، الجزء الأول، الطبعة الثانية، ص220

2 المصدر السابق، ص220

[2] د.يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، الجزء الثاني، مؤسسة الرسالة، ص963

2 المصدر السابق، ص963

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 441 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

292,425