أحب الكتابة دوما في حضرة التفاؤل، فصحبته تسعدني، وتغمر نفسي سرورا وحماسة، لكن استدعاؤه ـ في أغلب الأحيان ـ ما يكون أمرا عزيزا، لذا أجدني مضطرا إلى الكتابة ـ في أوقات كثيرة ـ وأنا وحيدٌ فاتر الهمة، غير أني لا أنفك أحاول تخطي تلك الحالة متعكزا على مقولة قرأتها مؤخرا لأحد الفلاسفة، إذ يقول بأن "التشاؤم هو علامة الضعف والانحطاط، والتفاؤل هو علامة السطحية في التفكير وقصر النظر"، فما حاجتي ـ إذن ـ لذاك التفاؤل الذي هو سطحيةٌ وقصرٌ في النظر؟!. هكذا حاولت إقناع نفسي، لعلها تقتنع وتُقبِلُ على فعل هو أحب الأفعال إليّ؛ فعل الكتابة، وها أنا في غيبة التفاؤل ـ وقد طاوعتني تلك النفس العنيدة ـ أكتب متسائلا:
أمن ضرورة الحياة السياسية هذه الينابيع المسمومة؟! وما هي؟ إنها الالتواء والخداع، والنفاق والرياء، والتمركز الطفلي حول الذات . . .
كان ظني أن هذه الينابيع سيجف كثير منها بعد ثورة عظيمة زكت نفوس كثيرين من أمراضها، وسقت قلوبنا الطهر، وأبصرنا عبرها عظمة قدرة المولى عز وجل فتدفقت كالجداول أشواقنا للتغيير؛ لتغيير أحوالنا التي ألفناها وما ألفتها الفضيلة، ليتم الله نعمته علينا من بعدُ ليستحيل التغيير المأمول إلى حقيقة واقعة. أو هكذا ظننت.
لكن بعض الظن سذاجة.
فما أن أجازت الثورة حزبا من بين ما أجازته من الأحزاب، حتى تلبد صفاء أديم وجه أحد قياداته بالغيوم، ليمطر أعضاء حزبه بأحاديث باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، ويرعد في وجوههم بتصرفات صادمة يندى لها جبين كل حيي. ويبرق بألاعيب تشبه ألاعيب الحواة، أو هكذا يظن، وما ينخدع بها إلا البله والمعاتيه.
وحزب آخر حملت قياداته فوق رأسها لوح شريعتها، ومضت تبشر بها، وما انتفع حزبها من ذلك شيئا، إذ أن المسطور عليه ليس ـ كما يظن مرتادي ذلك الحزب ـ فكرة أو رؤية أرادوا هم إذاعتها في الناس، وإنما كتب عليه كلمة واحدة أنا ثم أنا ثم أنا ثم أنا . . . ..
وآخرون ينتمون إلى تيار سياسي ثالث ما فتأوا يتجشأون الفضيلة في وجوه الناس، وإذا ما خلوا إلى بعضهم البعض قالوا إنما نحن مستهزئون، والشعب الثائر يستهزئ بهم، إذ أن الرغبة المضطرمة في نفوسهم إلى القوة والسيطرة قد نهشت تلك الأقنعة التي أحكموا وضعها على وجههم القبيحة، ولا تلبث أن تسقط لتستبين أمام أعين الناظرين جميعا.
وآخرون. . . .وآخرون. . . . .
ما حديثي الغاضب ذاك بحديث تنفيسي أطلقه على ورقة لتهدئ نفسي وتثوب إلى حالتها الطبيعية، إنما أتطلع عبره إلى تحذير الوافدين الجدد إلى تلك الساحة؛ الساحة السياسية، أولئك الذين أحدثوا في بلدهم حدثا قلما كان له نظيره في تاريخنا الموغل في القدم، ولهؤلاء أقول:
ـ ليكن انغماسكم في تلك الساحة متشحا بالحذر والحيطة، ولتتلفعوا بسوء الظن، فإن كان بعض الظن إثم ـ كما يقال ـ فالبعض الآخر من حسن الفطن.
ـ لتحافظوا على نقاءكم الثوري، ولتبحثوا عن أشباهكم. لتلتصقوا ببعضكم البعض فتُعجِزون تلك الأنوات المتوحشة التي تمخر عُباب ذلك العالم، عالم السياسة، باحثة عن خدم وتُبَّع.
ـ ولتكن تلك الوجوه الباسمة لإخوانكم الذين هم عند ربهم أحياء يرقبون ماثلة أمام أعينكم دوما.
ـ وحذاري أن تجزعوا من تلك التشوهات الخُلُقية التي ضربت أطنابها في نفوس مثل تلك النخبة، وترهبكم سطوتهم فتفروا فزعين. لا تكونوا كفاتلي الحبال يحبكوا الخيوط لينسحبوا من بعدُ إلى الوراء.
وليعذرني القارئ إن غلف بعض حديثي الاقتضاب، وغشيه الرمز، وسكنه الغموض، فما استهدف التشهير، وإنما قصدت التنبيه، إذ في ظل هذا الجو المسموم فلسوف تتهرأ كل عاطفة نبيلة، وتذبل كل حماسة، وتسود عقيدة الأنا.
وأقول نهايةً أنه رغم ما سُقته من نماذج ووقائع قد تضفي شئ من الكآبة على القارئ الكريم، إلا أنني متفاؤل بعد أن أنهى الوافدون الجدد ـ على الساحة السياسية ـ احتكار سياسيو العصر البائد لها، متفاؤل وأنا أبصر من بين النخبة ـ وإن كانوا قلة ـ من جعل من خبراته وعلمه ربوة يعتليها الشباب ليشرفوا على المستقبل(د.معتز بالله عبد الفتاح نموذجا)، متفاؤل رغم أنف فيلسوفي صاحب المقولة السابقة الذكر أعلاه.
محمد السيد الطناوي
عضو مؤسس بحزب الوسط
[email protected]
ساحة النقاش