جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قضية رقم 6 لسنة 9 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت 18 مارس 1995الموافق 17 شوال 1415ه.
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : فاروق عبدالرحيم غنيم وعبدالرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور ومحمد عبدالقادر عبدالله
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 6 لسنة 9 قضائية"دستورية"
المقامة من
- السيدة / أسماء أحمد على
ونانسى وابراهيم وأيمن ومحيا ونهال وأحمد رجائى على زيتون
ضد
- السيد / رئيس الجمهورية
- السيد / رئيس مجلس الوزراء
- السيد / أحمد نبيل إبراهيم مصطفى
- السيد / حسن إبراهيم محمود
" الإجراءات "
بتاريخ 7 فبراير سنة 1987، أودع المدعون قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالبين الحكم بعدم دستورية نص المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها، أصلياً: عدم قبول الدعوى واحتياطياً: رفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة بجلسة 6 يناير سنة 1990 إعادة ملف الدعوى إلى هيئة المفوضين بناء على طلبها لإعداد تقرير تكميلى. وإذ أودعت هيئة المفوضين تقريرها التكميلى،عادت المحكمة إلى نظرها وقررت إصدار الحكم فيها بجلسةاليوم.
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل فى أنه بتاريخ الأول من مارس سنة 1969 استأجر المدعى عليه الثالث من المدعين شقة يملكونها بالعقار رقم 27 شارع الدكتور محمد مندور بمدينة نصر القاهرة لاستعمالها سكناً خاصاً. وإذ فوجئوا بتركه لها وتنازله عنها للمدعى عليه الرابع، فقد أقاموا ضدهما الدعوى رقم 2463 لسنة 1984 إيجارات شمال القاهرة، بطلب الحكم بإخلائهما من الشقة وتسليمها إليهم خالية. فأقام المدعى عليه الرابع دعوى فرعية طلب فيها إلزام المدعين بتحرير عقد إيجار له عن هذه الشقة، إستناداً إلى المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، بمقولة: أنه شقيق لزوجة مستأجرها الأصلى وأقام معه بها منذ سنة 1975. وإذ دفع المدعون أثناء نظر النزاع الموضوعى بعدم دستورية نص المادة (29) المشار إليها، وصرحت لهم محكمة الموضوع باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فقد أقاموا الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر تنص على أنه "مع عدم الإخلال بحكم المادة (8) من هذا القانون، لاينتهى عقد إيجار المسكن بوفاة المستأجر أو تركه العين، إذا بقى فيها زوجته أو أولاده أو أى من والديه الذين كانوا يقيمون معه حتى الوفاة أو الترك. وفيما عدا هؤلاء من أقارب المستأجر نسباً أو مصاهرة حتى الدرجة الثالثة، يشترط لاستمرار عقد الإيجار، إقامتهم فى المسكن مدة سنة على الأقل سابقة على وفاة المستأجر أو تركه العين، أو مدة شغله للمسكن أيتهما أقل. فإذا كانت العين مؤجرة لمزاولة نشاط تجارى أوصناعى أو مهنى أو حرفى فلا ينتهى العقد بوفاة المستأجر أو تركه العين، ويستمر لصالح ورثته وشركائه فى استعمال العين بحسب الأحوال. وفى جميع الأحوال يلتزم المؤجر بتحرير عقد إيجار لمن لهم الحق فى الاستمرار فى شغل العين. ويلتزم هؤلاء الشاغلون بطريق التضامن بكافة أحكام العقد". وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت الدعوى الماثلة بعدم قبولها بمقولة: أن النص المطعون عليه تقرر لمصلحة المؤجرين لا المستأجرين، ذلك أنه قيد امتداد عقد الإيجار -فى حالة وفاة المستأجر أو تركه العين- بقيود تتعلق بالمساكنة ودرجة القرابة، إذ اشترط- بالنسبة لغير زوجة المستأجر الأصلى وأولاده ووالديه- أن يكون المستفيد من امتداد عقد الإيجار قريبا له حتى الدرجة الثالثة نسباً أو مصاهرة، وأن يكون مساكناً له فى العين المؤجرة مدة لاتقل عن سنة سابقة على الوفاة أو الترك، أو مدة شغله للمسكن أيتهما أقل، بما مؤداه: أن استمرار عقد الإيجار لهؤلاء، جاء محاطاً بالقيود التى فرضها المشرع لصالح المدعين، مما تنتفى به مصلحتهم الشخصية المباشرة فى الدعوى الراهنة.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة -وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية- مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم فى المسألة الدستورية لازماً للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكان النزاع الموضوعى يدور حول أحقية المدعين فى استرداد العين المؤجرة بعد أن تركها مستأجرها الأصلى لشقيق زوجته، وكان هذا الشقيق قد أقام بدوره ضد المدعين دعواه الفرعية لإلزامهم بأن يحرروا لصالحه عقد إيجار جديد، وكان إبطال النص المطعون عليه فى مجال تطبيقه بالنسبة إليه، مؤداه: أن تعود العين المؤجرة إلى المدعين باعتبار أن ذلك الشقيق قد صار شاغلاً لها بغير سند، فإن مصلحتهم الشخصية المباشرة فى الدعوى الماثلة تكون قائمة، ويكون الدفع بعدم قبولها على غير أساس حرياً بالرفض.
وحيث إن البين من النص المطعون عليه - فيما قرره من أحكام تتعلق بالأعيان المؤجرة لأغراض السكنى - أنه فيما عدا الزوجة التى يستمر لصالحها عقد إيجار زوجها بعد تخليه عن العين المؤجرة أيا كانت مدة إقامتها مع زوجها فيها، فإن غيرها من أقرباء هذا المستأجر مصاهرة لايبقون فى هذه العين بعد تخلى مستأجرها الأصلى عنها - وبوصفهم مستأجرين أصليين لها - إلا بشرطين، أولهما: أن تكون قرابتهم بالمصاهرة لهذا المستأجر حتى درجة معينة، هى الدرجة الثالثة. وثانيهما: ألا تكون إقامتهم فى العين التى كان يشغلها عرضية أو عابرة أو مؤقتة، بل مستقرة لايتخللها انقطاع غير عارض، وأن تقترن بنية الاستيطان، فلايشوبها غموض أو يُداخلها خفاء، توقيا لالتباس أمرها وانبهام المقصود منها على المؤجر. ويجب دوما أن تستغرق إقامتهم فيها -بأوصافها تلك- زمناً محدداً لاتقل عنه حتى يمكن الاحتجاح بها على المؤجر ومجابهته بها. إذ يجب وفقاً للنص المطعون فيه، أن يكون هؤلاء الأقرباء قد أقاموا بها متخذين منها وحتى تاريخ التخلى عنها سكنا على وجه الاعتياد، لمدة تستطيل على الأقل إلى سنة سابقة على تخلى المستأجر الأصلى عنها، أو لمدة تماثل المدة التى شغل خلالها هذه العين، أيتهما أقل.
وحيث إن القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، قد نص فى المادة (18) منه على أنه "لايجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان، ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد إلا لأحد الأسباب الأتية : - ...........................................
(ج) إذا ثبت أن المستأجر قد تنازل عن المكان المؤجر أو أجره من الباطن بغير إذن كتابى صريح من المالك للمستأجر الأصلى ؛ أو تركه للغير بقصد الاستغناء عنه نهائياً، وذلك دون إخلال بالحالات التى يجيز فيها القانون للمستأجر تأجير المكان مفروشاً أو التنازل عنه، أو تأجيره من الباطن، أو تركه لذوى القربى وفقاً لأحكام المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977".
وحيث إن القاعدة التى أرستها المادة (18) المشار إليها، وإن دلت على جواز إخلاء العين المؤجرة للسكنى، إذا تخلى المستأجر الأصلى عنها للغير، إلا أن هذه المادة ذاتها تقيم استثناء من تلك القاعدة، مؤداه: امتناع إخلائها كلما تركها هذا المستأجر لصالح الأقرباء الذين عينتهم المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وبالشروط التى حددتها.
وحيث إنه متى كان ماتقدم، فإن نطاق الطعن الماثل لاينحصر فيما قررته المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، من استمرار عقد إيجار العين المؤجرة لصالح أقرباء المستأجر الأصلى مصاهرة حتى الدرجة الثالثة رغم تخلى هذا المستأجر عنها، وإنما يمتد هذا النطاق كذلك إلى الأحكام "ذاتها" التى تبنتها المادة (18) من القانون رقم 136 لسنة 1981، لصالح هذه الفئة "عينها".
وحيث إن المدعين ينعون على النص المطعون فيه -فى النطاق المتقدم- مخالفته لحكم المادة الثانية من الدستور التى تقضى بأن مبادىء الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، وذلك من عدة وجوه:- أولها: أن الشريعة الإسلامية وإن حثت على صلة الرحم، إلا أنها لاتعتبر أقارب أحد الزوجين أقرباء للآخر. ومن ثم يكون اعتداد النص المطعون عليه بقرابة المصاهرة مخالفاً للدستور.
ثانيها: أن إجماع فقهاء الشريعة الإسلامية منعقد على أن عقد الإيجار ينصب على استئجار منفعة لمدة مؤقته يحق للمؤجر بانتهائها أن يطلب إخلاء العين من مستأجرها، بما مؤداه: امتناع تأبيد هذا العقد.
ثالثها: أن عقد الإيجار ينقلب بالنص المطعون فيه، من عقد يقوم على التراضى، إلى عقد يُحمل فيه المؤجر على تأجير العين بعد انتهاء إجارتها، إلى شخص لم يكن طرفاً فى الإجارة، بل يعد غريباً عنها، ولايتصور أن يُقحم عليها.
وحيث إن الدعوى الموضوعية كانت قد أقيمت فى ظل العمل بأحكام القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، الصادر بعد تعديل الدستور فى 22 مايو سنة 1980.
حيث إن الدستور - إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها فى صون الأمن الاجتماعى - كفل حمايتها لكل فرد - وطنياً كان أم أجنبياً - ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفى الحدود التى يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة - فى الأعم من الأحوال - إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها، مُعبداً بها الطريق إلى التقدم، كافلاً للتنمية أهم أدواتها، محققاً من خلالها إرادة الإقدام، هاجعاً إليها لتوفر ظروفاً أفضل لحرية الاختيار والتقرير، مطمئناً فى كنفها إلى يومه وغده، مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها، فلايرده عنها معتد، ولايناجز سلطته فى شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، ليعتصم بها من دون الآخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التى تُعينها على أداء دورها، وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها. ولم يعد جائزاً بالتالى أن ينال المشرع من عناصرها، ولا أن يُغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلهاعن أجزائها أو يدمر أصلها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التى تتفرع عنها فى غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية ضماناتها الجوهرية، ويكون العدوان عليها غصباً، وافتئاتاً على كيانها أدخل إلى مصادرتها.
وحيث إن من المقرر كذلك، أن حق الملكية من الحقوق المالية التى يجوز التعامل فيها. وبقدر اتساع قاعدتها تتعدد روافدها، وتتنوع استخداماتها، لتشكل نهراً يتدفق بمصادر الثروة القومية التى لايجوز إهدارها أو التفريط فيها أو بعثرتها تبديداً لقيمتها، ولاتنظيمها بما يخل بالتوازن بين نطاق حقوق الملكية المقررة عليها، وضرورة تقييدها نأياً بها عن الانتهاز، أو الإضرار بحقوق الأخرين. ذلك أن الملكية - فى إطار النظم الوضعية التى تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة- لم تعد حقاً مطلقاً، ولا هى عصية على التنظيم التشريعى. وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها.
ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التى تتطلبها وظيفتها الاجتماعية. وهى وظيفة لايتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التى ينبغى رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعى معين فى بيئة بذاتها لها توجهاتها ومقوماتها.
وفى إطار هذه الدائرة، وتقيداً بتخومها، يفاضل المشرع بين البدائل، ويرجح على ضوء الموازنة التى يجريها، ما يراه من المصالح أجدر بالحماية وأولى بالرعاية وفقاً لأحكام الدستور، مستهدياً فى ذلك بوجه خاص بالقيم التى تنحاز إليها الجماعة فى مرحلة بذاتها من مراحل تطورها، وبمراعاة أن القيود التى يفرضها الدستور على حق الملكية للحد من إطلاقها، لاتعتبر مقصودة لذاتها، بل غايتها خير الفرد والجماعة.
وحيث إن الشريعة الإسلامية فى مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التى لا تبديل فيها، لا تناقض ما تقدم. ذلك أن الأصل فيها أن الأموال جميعها مردها إلى الله تعالى، أنشأها وبسطها، وإليه معادها ومرجعها، مستخلفاً فيها عباده الذين عهد إليهم بعمارة الأرض، وجعلهم مسئولين عما فى أيديهم من الأموال لا يبددونها أو يستخدمونها إضراراً. يقول تعالى "وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه". وليس ذلك إلانهياً عن الولوغ بها فى الباطل، وتكليفاً لولى الأمر بأن يعمل على تنظيمها بما يحقق المقاصد الشرعية المتوخاة منها. وهى مقاصد ينافيها أن يكون إنفاق الأموال وإدارتها عبثاً أو إسرافاً أو عدواناً أو متخذاً طرائق تناقض مصالح الجماعة أو تخل بحقوق للغير أولى بالاعتبار.
وكان لولى الأمر بالتالى أن يعمل على دفع الضرر قدر الإمكان، وأن يحول دون الإضرار إذا كان ثأراً محضاً يزيد من الضرر ولا يفيد إلا فى توسيع الدائرة التى يمتد إليها، وأن يرد كذلك الضرر البين الفاحش. فإذا تزاحم ضرران، كان تحمل أهونهما لازماً اتقاء لأعظمهما. ويندرج تحت ذلك القبول بالضرر الخاص لرد ضرر عام.
وينبغى -من ثم - أن يكون لحق الملكية إطار محدد تتوازن فيه المصالح ولا تتنافر، ذلك أن الملكية خلافة، وهى باعتبارها كذلك تضبطها وظيفتها الاجتماعية التى تعكس -بالقيود التى تفرضها على الملكية- الحدود المشروعة لممارسة سلطاتها. وهى حدود يجب إلتزامها، لأن العدوان عليها يُخرج الملكية عن دائرة الحماية التى كفلها الدستور لها.
وحيث إن المشرع نظم بالنص المطعون فيه، العلاقة الإيجارية فى بعض جوانبها كافلاً - بالشروط التى حددها - استمرار أقرباء المستأجر الأصلى مصاهرة حتى الدرجة الثالثة، فى السكنى بالعين المؤجرة التى كان يشغلها هذا المستأجر، ثم تخلى نهائياً عنها بقصد عدم العودة إليها، مُنهياً بذلك الإجارة التى ارتبط بها.
وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يفرض الدستور على ممارستها قيوداً لا يجوز تخطيها لضمان أن يكون الانتفاع بتلك الحقوق مفيداً وفعالاً، وكانت الحماية التى كفلها الدستور لحق الملكية فى مادته الثانية والثلاثين، مناطها تلك الملكية التى لاتقوم على الاستغلال، ولا يتعارض استخدامها مع الخير العام لجموع المواطنين، ولا تنافى مقاصدها الأغراض التى تمليها وظيفتها الاجتماعية، وكان المشرع - فى مجال تنظيم العلائق الإيجارية- وإن قرر من النصوص القانونية ما ارتآه مُحققاً للتوازن بين أطرافها، إلا أن هذا التوازن لايجوز أن يكون صورياً أو منتحلاً أو سراباً، بل يجب أن يعكس حقيقة قانونية لامماراة فيها، ليكون التنظيم التشريعى لحقوق المؤجرين والمستأجرين فى دائرتها منصفا لا متحيفاً، متعمقاً الحقائق الموضوعية، وليس متعلقاً بأهدابها الشكلية.
ولا يجوز بالتالى أن يُعِّدل المشرع من إطار هذه العلائق بما يمثل افتئاتاً كاملاً على حقوق أحد أطرافها أو إنحرافاً عن ضوابط ممارستها، وإلا آل أمر النصوص التى أقرها إلى البطلان، من خلال مباشرة الرقابة القضائية على دستوريتها، ذلك أن القيود التى يفرضها المشرع على حق الملكية لا يجوز أن تكون مدخلاً لإثراء مستأجر العين وإفقار مالكها، ولا أن يحصل المستأجر من خلالها على حقوق لايسوغها مركزه القانونى فى مواجهة المؤجر، وإلا حض تقريرها على الإنتهاز، وكان قرين الاستغلال.
وحيث إن ماتقدم يؤيده أمران : أولهما- أن الأصل هو أن يتحقق التضامن بين المؤجر والمستأجر من الوجهة الاجتماعية، وأن تتوافق مصالحهما ولاتتنافرمن الوجهة الاقتصادية، وإلا كان كل منهما حرباً على الأخر يهتبل الفرص لأكل حقه بالباطل. ولايجوز بالتالى أن يميل ميزان التوازن بينهما لتكون الحقوق المقررة لأحدهما إجحافاً وإعناتاً وقهراً، وليس من المتصور أن يكون مغبون الأمس -وهو المستأجر - غابناً، ولا أن يكون تدخل المشرع شططاً وقلباً للموازين، ترجيحاً لكفته لتكون أكثر ثقلاً، وليحل الصراع بين هذين العاقدين، بديلاً عن اتصال التعاون بينهما.
ثانيهما- أن النص المطعون فيه، وإن كان يندرج تحت التشريعات الاستثنائية التى تدخل بها المشرع لمواجهة الأزمة المتفاقمة الناشئة عن قلة المعروض من الأماكن المهيأة للسكنى، إلا أن الطبيعة الاستثنائية لتلك التشريعات - التى لايجوز التوسع فى تفسيرها أو القياس عليها - والتى درج المشرع على تنظيم العلائق الإيجارية من خلالها، واعتبر أحكامها من النظام العام لإبطال كل اتفاق على خلافها، وليضمن سريانها بأثر مباشر على عقود الإجارة القائمة عند العمل بها -ولوكانت مبرمة قبلها- لا تعصمها من الخضوع للدستور، ولا تخرجها من مجال الرقابة القضائية التى تباشرها المحكمة الدستورية العليا على دستورية النصوص القانونية جميعها. بل يجب اعتبارها من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها، وأن يكون مناط سلامتها هو اتفاقها مع أحكام الدستور. ويجب بالتالى أن تقدر الضرورة الموجهة لهذا التنظيم الخاص بقدرها، وأن تدور معها وجوداً وعدماً تلك القيود التى ترتبط بها وترتد إليها، باعتبارها مناط مشروعيتها، وعلة استمرارها.
وحيث إن من المقرر كذلك، أن حق مستأجر العين فى استعمالها، مصدره العقد دائماً. ولازال هذا الحق - حتى مع قيام هذا التنظيم الخاص وتحديد أبعاده بقوانين استثنائية - حقاً شخصياً يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يُمكن المستأجر من الانتفاع بشىء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم. وليس حقاً عينياً ينحل إلى سلطة مباشرة على العين المؤجرة ذاتها يمارسها مستأجرها دون تدخل من مؤجرها. ولازم ذلك أن يكون بقاء مستأجرالعين فيها مرتبطاً بضرورة شغلها بوصفها مكاناً يأويه هو وأسرته. فإذا تخلى عنها تاركاً لها، وأفصح بذلك عن قصده إنهاء الإجارة التى كان طرفاً فيها، زايلته الأحكام الاستثنائية التى بسطها المشرع عليه لحمايته، ولم يعد لغيره إحياء حق أصبح منقضياً، ذلك أن العدم لايولد نبتاً.
يؤيد ذلك أن تخلى مستأجر العين الأصلى عنها، يعنى هجرها نهائياً، وكان ينبغى بالتالى أن يكون هذا التخلى مبرراً لقيام حق المؤجر فى طلب إخلائها بعد انقطاع اتصال هذا المستأجر بها، ولأن القيود الاستثنائية التى نظم بها المشرع العلائق الإيجارية إبان أزمة الإسكان، غايتها الحد من تصاعدها وغلواء تفاقمها. وهى بعد ضرورة تقدر بقدرها، ولايجوز أن تجاوز دواعيها.
إلا أن المشرع آثر بالنص المطعون فيه أن يمنح - بالشروط التى حددها - مزية استثنائية يقتحم بأبعادها حق الملكية، انتهاكا لمجالاتها الحيوية التى لا يجوز أن يمسها المشرع إخلالاً بها. ذلك أن منفعة العين المؤجرة تنتقل بموجبها من مستأجرها الأصلى إلى غيره من أقربائه بالمصاهرة حتى الدرجة الثالثة، ليحل هؤلاء محل المستأجر الأصلى فى العين التى كان يشغلها - لابناء على تعاقد تم بينهما مثلما هو الأمر فى شأن التأجير من الباطن أو التنازل عن الإجارة - بل بقوة القانون.
وهى بعد مزية يتعذر أن يكون المتعاقدان الأصليان قد قصدا إلى تقريرها ابتداء، أو أنهما عبرا - صراحة أو ضمناً- عن تراضيهما عليها، ذلك أن إرادتيهما - حقيقية كانت أم مفترضة – لا يمكن أن تُحمل على اتجاهها أو إنصرافها إلى إقحام أشخاص على العلاقة الإيجارية هم غرباء عنها، ومعاملتهم كأصلاء فيها وإن كانوا دخلاء عليها. وليس من المتصور أن يكون مؤجر العين - وهو يملكها فى الأعم من الأحوال - قد عطل مختاراً- ونهائياً- الحقوق التى تتصل باستعمالها واستغلالها، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر.
وحيث إن ما تقدم يبدو جلياً بوجه خاص من خلال أمرين:
أولهما- أن الأقرباء بالمصاهرة الذين تؤول إليهم منفعة العين المؤجرة وفقاً للنص المطعون فيه، يتحايلون عادة مع مستأجرها الأصلى متربصين بالمؤجر ختالاً، ومتخذين انتهازاً من إقامتهم فيها للمدة التى تطلبها المشرع، موطئاً لإبقائها تحت سيطرتهم لاينتزعها منهم أحد، بل تتصل أيديهم بها تعاقباً عليها، ليكون بعضهم لبعض ظهيراً، فلا ينفكون عنها أو يبرحونها. ومن ثم يكون الاصطناع طريقهم للتسلط عليها والإنفراد بها من دون مؤجرها.
ثانيهما- أن الأقرباء الذين عينهم النص المطعون فيه، ينقلبون بعد تخلى المتعاقد على الإجارة عنها إلى مستأجرين أصليين للعين التى كان يشغلها. فإذا هجرها هؤلاء بعدئذ بقصد تركها وعدم العودة إليها، كان لمن شاركوهم سكناها - بالشروط التى بينها النص المطعون فيه -أن يطلبوا تحرير عقد إيجاربأسمائهم- بوصفهم كذلك مستأجرين أصليين لها- ليطرد اتصال أجيالهم بها لا يفارقونها، ولو بعد العهد على العقد الأول. فلاتُرد لصاحبها أبداً - ولو كان فى أمس الاحتياج إليها - ماظل زمامها بيد من يتداولونها لا يتحولون عنها.
وليس ذلك إلا تعظيماً لحقوقهم، يكاد أن يلحقها بالحقوق العينية التى يباشر صاحبها بموجبها -ووفقاً للقانون- سلطة مباشرة على شئ معين ليستخلص منه فوائده دون وساطة من أحد، وهو ما يناقض خصائص الإجارة، باعتبار أن طرفيها فى اتصال دائم طوال مدتها مما اقتضى ضبطها تحديداً لحقوقهما وواجباتهما. وهى فوق هذا تقع على منفعة الشئ المؤجر لا على ملكيته، ولا ترتب للمستأجر غير الحقوق الشخصية يباشرها قبل المدين.
وحيث إن النص المطعون فيه ينحدر كذلك بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية، مرجحاً عليها مصالح لا تدانيها ولا تقوم إلى جانبها أو تتكافأ معها، ومآل حمايتها حرمان مؤجر العين منها حرماناً مؤبداً ترتيباً على انتقال منفعتها إلى الغير انتقالاً متتابعاً متصلاً ممتدا فى أغوار الزمن، وهو بعد انتقال لا يعتد بإرادة المؤجر فى معدنها الحقيقى. بل يقوم فى صوره الأكثر شيوعاً على التحايل على القانون، والتدليس على المؤجر، وهو ما يعد إلتواء بالإجارة عن حقيقة مقاصدها، وإهداراً لتوازن لا يجوز أن يختل بين أطرافها، وإقحاماً لغرباء عليها إنحرافاً عن الحق، ونكولاً عن الصالح العام. وحيث إن ما تقدم مؤداه: أن النص المطعون فيه ينحل إلى عدوان على الملكية من خلال نقض بعض عناصرها. وهو بذلك لايندرج تحت تنظيمها، بل يقوم على إهدار كامل للحق فى استعمالها واستغلالها، مُلحقاً بالمؤجر وحده الضررالبين الفاحش، فقد أنشأ هذا النص حقوقاً مبتدأة - بعيدة فى مداها - منحها لفئة بذاتها من أقرباء المستأجر الأصلى، اختصها دون مسوغ، واصطفاها فى غير ضرورة، بتلك المعاملة التفضيلية التى تقدم المنفعة المجلوبة على مخاطر المفاسد ودرء عواقبها، حال أن دفع المضرة أولى اتقاء لسوءاتها وشرورها، ولأن الأصل حين تتزاحم الأضرار على محل واحد، أن يكون تحمل أخفها، لازماً دفعاً لأفدحها.
وكان ينبغى- من ثم - أن يترسم النص المطعون فيه تلك الضوابط التى تتوازن من خلالها العلائق الإيجارية، بما يكون كافلاً لمصالح أطرافها، غير مؤد إلى تنافرها، ليُقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعى التى أرستها المادة (7) من الدستور، والتى تؤكد الجماعة من خلالها القيم التى تؤمن بها، وترعى استقرارها. وهى حدود ما كان يجوز أن يتخطاها المشرع، وإلا كان منافياً المقاصد الشرعية التى ينظم ولى الأمر الحقوق فى نطاقها. لاسيما وأن النص المطعون فيه -بالصيغة التى أُفرغ فيها - يفتح للتحايل على القانون أبواباً ينفذ الانتهاز منها دون عائق. ويتحقق ذلك كلما دعا مستأجر العين الأصلى - وقد أضمر نية التخلى عنها -من يطمئن إليه أو يؤثره من أقربائه الذين عينهم النص المطعون فيه -وبالشروط التى حددها- لسكناها مدة محدودة قد لاتربو على المدة التى ظل خلالها شاغلاً لها مهما بلغ قصرها، ليكتمل بفواتها حق هؤلاء الأقرباء فى الاستقلال بها مع إقصاء المؤجردوما عنها، وهو مايخل بالحدود التى ينبغى أن يتم تنظيم الملكية فى نطاقها، ويصم النص المطعون فيه بإهدار أحكام المواد (2، 7، 23، 34) من الدستور.
وحيث إن الحكم بعدم دستورية النص المطعون عليه -فى الحدود السالف بيانها- يعنى سقوط الأحكام التى أحالت إليه، وتضمنتها المادة (18) من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية ما تضمنته المادة (29) من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر من استمرار عقد إيجار المسكن - عند ترك المستأجر الأصلى له - لصالح أقاربه بالمصاهرة حتى الدرجة الثالثة الذين أقاموا معه فى العين المؤجرة مدة سنة على الأقل سابقة على تركه العين أو مدة شغله لها أيتهما أقل، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
ساحة النقاش