الحسد بين الهدي النبوي والعلم الحديث
الأستاذ الدكتور / خمساوي أحمد الخمساوي(1)
لا شك أن الحسد موضوع متشعب الجوانب متداخل الأطراف فله لدى العامة مع اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية مفهوم يختلف عن مفهومه عند علماء النفس والدين وعلماء اللغة ومن جانب آخر يتداخل مفهوم الحسد بين عالم الغيبيات الميتافيزيقية وبين العالم المحسوس والتجربة الشخصية عفوية كانت أم علمية، هو من جانب ثالث ينطبع في ذهن رجال العلوم الطبيعية والحيوية والطبية بخلاف ما ينطبع في ذهن علماء الدين أو علماء النفس والاجتماع.
وتطلق كلمة الحسد على ثلاثة مفاهيم مختلفة قد تبدو واضحة الاختلاف عند البعض وقد تتداخل عند الآخرين وقد نخلط بينها في كثير من الأحيان مع علمنا الأكيد باختلافها، وهذه المفاهيم هي:
1ـ الغبطة أو المنافسة،وهي شعور بنعمة المغبوط وتعظيمها وتمني أن يكون للغابط المتنافس مثل هذه النعمة، وهذا المفهوم هو أقل المفاهيم ارتباطا بلفظ الحسد، إلا أن لفظ الحسد قد يطلق عليه لغة أو على سبيل المجاز، كما في الحديثالشريف: ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق). أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود.
وقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ( ما حسدت أحدا، ما حسدت خديجة، وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن ماتت ).
والحسد بهذا المعنى غير مذموم بل مطلوب في بعض الأحيان. خاصة كلما عظمت النعمة المغبوطة وهو إن صدر من شخص دل على اعترافه بفضل المغبوط وإثبات أحقيته في النعمة المرزوق بها، كما هو واضح من معنى الحديثين السابقين، وكما يتضح ذلك من حديث مالك بن مرشد، عن أبيه، عن أبي ذر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة وأصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم عليه السلام، فقال عمر بن الخطاب ( كالحاسد ) يا رسول الله! أفنعرف ذلك له، قال: ( نعم فاعرفوه له ) ( حديث حسن ).
وقوله كالحاسد، أي: الغابط السعيد الذي يريد أن يؤكد ويثبت بسؤاله هذا حق أبي ضر رضي الله عنه بهذه الصفة وإثبات الفصل له بها.
2ـ الحسد البغيضوهو تمني زوال النعمة من المحسود وهو خليقة سيئة مذمومة ورد العديد من النصوص القرآنية والنبوية في ذمها والنهي عنها.
3ـ العين أو النظرةوهي إصابة الأشياء وخاصة جسد الإنسان بعين الحاسد أو نظره وهذا المفهوم شاع بين الناس باسم الحسد أيضا إذ يغلب على صاحب القدرة على الإصابة بالعين أن يكون حاسدا لكن لم يرد نص قرآني، ولا نبوي صحيح يطل اسم الحسد على هذا المفهوم.
فأما المفهوم الأول فلا خلاف على أنه لا ضرر منه ولا كراهية فيه ولا يدخل ضمن حديثنا اليوم، وأما المفهومين ( الثاني والثالث ) فنود أن نفرق بينهما تفرقة واضحة قبل أن نبدأ موضوع محاضرتنا.
الفرق بين الحسد والعين:
لم يرد في القرآن الكريم لفظ العين أو غيره بدلالة صريحة على إصابة الأشياء وخاصة حسد الإنسان بنظرة أو عين الحاسد، لكن ورد لفظ الحسد ومادته في القرآن الكريم 5 مرات في أربع سورة هي: البقرة والنساء والفتح والفلق. كما يلي:
)من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ([البقرة: 109].
)أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ([النساء: 54].
)سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ([الفتح: 15].
)ومن شر حاسد إذا حسد ([الفلق: 5].
ويتضح من معانيها أن الحسد الوارد فيها يقصد به ذلك الخُلق السيئ بتمني زوال النعمة من المحسود دون القدرة على أن يكون للحسد قوة في ذاته تؤثر على المحسود وتصيبه بالضرر، إلا أن آية سورة الفلق ربما أوحت في ظاهرها أن الحسد شر يستعاذ بالله منه كما يستعاذ بالغاسق إذا وقب وبالنفاثات في العقد إلا أن المدقق في الألفاظ يجد أن المستعاذ منه في الآية إنما هو الحاسد وليس الحسد، لأن الحاسد إذا حسد وامتلأ قلبه بالحقد وتمنى زوال النعمة من المحسود قد يسعى في أذيته بنفسه فيضربه أو يحرق ماله أو يسرقه أو يقتله، فيكون هنا الحسد سببا في ضرر غير مباشر يصدر عن الحاسد بشخصه وأفعاله المادية لا مجرد أمنيته زوال النعمة.
وقد جاءت تلك المعاني واضحة في أكثر من موضع بالقرآن الكريم وضح فيها أن الضرر الذي يصدر عن خليقة الحسد يصدر من تصرفات الحاسد المادية المتحركة بها إرادته، ومن ذلك حسد أولاد يعقوب لأخيهم يوسف فألقوه في الجب بأيديهم، ولم يقع وحده بتأثير الحسد ومن ذلك حسد أحد ابني آدم لأخيه فقتله ضربا بالحجر ولم يقتل بفعل الحسد في نفس أخيه من يضربه بالحجر.
أما في الحديث الشريف فقد جاء كل من المفهومين ( الثاني والثالث ) واضحين وأطلق على كل منهما لفظ مستقل فلم يحدث خلط بينهما في أي حديث صحيح.
فجاء لفظ الحسد يقصد به ذلك الخلق السيئ في زوال نعمة المحسود في أحاديث عديدة، منها على سبيل المثال:
( إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب )رواه أبو داود عن أبي هريرة، وابن ماجة عن أنس بن مالك.
( ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن: الظن والطيرة والحسد )ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة.
( دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء وهي الحالقة أما إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على ما تتحابون به؟ أفشوا السلام بينكم ). أخرجه الترمذي عن الزبير بن العوام.
وجاء لفظ ( العين ) يقصد به ذلك الأثر الذي يتعدى للمنظور ويسبب له الضرر وذلك على النحو التالي:
( العين حق )أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وأبو داود والنسائي والإمام أحمد في المسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه. رواه ابن ماجة عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه. وقال السيوطي: حديث صحيح.
( العين حق تستنزل الحالق )أخرجه الإمام أحمد في المسند والطبراني والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنه. وقال السيوطي: حديث صحيح.
( العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا )أخرجه الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في المسند، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال السيوطي: حديث صحيح.
( إن العين حق ـ ونهي عن الوشم )أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين )أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وقال الشيخ عبد القادر: إسناده حسن.
وفيما يلي جدولا للمقارنة بين الحسد والعين
الحسد
العين ( النظرة )
1ـ هو شعور نفسي يتمنى فيه الحاسد زوال النعمة من المحسود كراهية فيه.
2ـ الحسد شعور داخلي يمكن أن يوجد في جميع الأشخاص تبعا للمواقف المختلفة.
3ـ الحسد شعور أخلاقي يمكن مقاومته بالإرادة وحسن الخلق.
4ـ الحسد يتم بمجرد حدوث علم الحاسد بنعمة المحسود سواء بالرؤية أو السماع أو الحساب أو التفكر أو القراءة أو غيرها.
5ـ الحسد لا يؤثر على المحسود بل هو يؤثر بالسوء على الحاسد إلا إذا ترتب على الحسد سعي الحاسد في إضرار المحسود منطلقا من الكراهية المتولدة عن الحسد فيقع هنا الضرر من سعي الحاسد بالأسباب، كأن يحرق له بيته أو ينم عنه أو يشيع الإشاعات أو غير ذلك.
6ـ لا يتفاوت مقدار الحسد من شخص إلى شخص ولكن يتفاوت بمقدار علاقة الحاسد بالمحسود.
هي شعور نفسي يتمنى فيها الناظر زوال النعمة من المنظور لاستكثارها عليه.
النظرة حالة توجد عند البعض ولا توجد عند الآخرين وعدد الذين توجد عندهم قلة.
النظرة حالة شبه حيوية يصعب مقاومتها بالإرادة ولكن لها أسلوب آخر في طريقة التقليل من أثرها.
النظرة لا تتم إلا برؤية الناظر للشيء أو الشخص المنظور.
النظرة تؤثر على المنظور تأثيرا سيئا وتسبب له أضرارا.
تتفاوت قدرة الأشخاص في إحداث النظرة، والشديد منهم شديد مع جميع المنظورين، والضعيف ضعيف مع الكل.
وليس بغائب على العامة، أو الخاصة، أن هناك فرقا كبيرا واضحا بين مفهوم الحسد ومفهوم العين أو النظرة، لولا أننا قد نلاحظ في أحيان كثيرة أن العين التي تصيب إنما تصدر عن حاسد يتمنى زوال نعمة المحسود، وإن كان ذلك التوافق ليس مطلقا، فقد يتحقق في بعض الأحيان وقد لا يتحقق في أحيان أخرى، فالكثير منا يعرف أن الشخص ( ذكر أو أنثى ) قد يصيب بالعين ماله وولده وأعز الناس عنده، بل قد يصيب بها نفسه، حتى شاع المثل القائل (ما يحسد المال إلا أصحابه)، فبمجرد انفعال العائن بالنعمة لدى غيره واستكثارها فهالته النعمة ونفذ أثرها في نفسه وكان من ذوي القدرة على العين عان ولو كانت النعمة ملكه لكن الحسد لا يكون مطلقا إلا لنعمة في يد الغير مصحوب بالحقد والكراهية لهذا الغير.
ونخلص من ذلك:إلى أن الحسد شر لأنه خلق سيء، لكن شره يتمثل في تحريك نوازع الحقد عند الحاسد الذي قد يتحول إلى عدو للمحسود يسعى في أذيته لكن الحسد ذاته لا ضرر منه ينتقل إلى المحسود فيصيبه كما تصيب العين لكل للعين قوة مؤثرة تنبع من العائن وتصيب المعين فتسبب له أضرارا متفاوتة، وقد جاء هذا واضحا في حديث شريف جمع بينهما في اللفظ:
روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه جبريل قال: ( باسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين ). وقد دل ذلك الحديث في دقة بالغة على أن الشر يأتي من الحاسد إذا حسدك على نعمة، ويأتي من ذي العين، وهو شخص مختلف قد يكون حاسدا وقد يكون غير حاسد، وتعني كلمة ( ذي ) اختصاصية فليس كل إنسان قادرا على الإصابة بالعين ما لم تتوفر له خاصية معينة سنوضحها في سياق حديثنا هنا تجعله ( ذي عين ).
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد والعين حق ). وقرن الحديث بين الحسد والعين، وضم الحسد إلى مجموعة من المفاهيم الخاطئة التي ظن الناس أن لها علاقة مباشرة في ذاتها بإحداث الأضرار من غير الأسباب المعلومة كالعدوى وهو لفظ كان يطلق على تصور انتقال العلة من المريض بمجرد رؤيته للصحيح وإن ثبت الآن إمكان انتقال بعض الأمراض من المريض إلى السليم بالملامسة أو الرزاز أو الحشرات أو غيرها فيما نسميه الآن اصطلاحا العدوى، فهذا أمر مختلف عن المفهوم الذي كان الناس قديما يتصورونه عن العدوى النابع من تخيل خاطىء لا أساس له هو انتقال المرض ( كل الأمراض ) بنظر السليم في المريض أو نظر المريض في السليم، ( والطيرة ) تصور حدوث ضرر للشخص إذا رأى في سفره أو عند الشروع فيه طائرا معينا أو إشارة معينة و( الهامة ) تصور خاطىء من الناس أن المقتول تحل في مكان مقتله روح شريرة من الشياطين تبحث عن قاتله وتؤذي كل من تقابله من الناس، واثبت الحديث الشريف أن كل هذه المفاهيم ليست صحيحة وأنه ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد )، والحديث أشار إلى العين وهي من جنس الأشياء التي شملتها المفاهيم الأربعة الأولى، والتي كان لدى الناس عنها تصورا مماثلا لتصورهم للعدوى والطيرة والهامة والحسد لكن لم ينفها كما نفى هذه المفاهيم وإنما أثبتها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العين حق ).
وموضوعنا الذي سوف نتناوله يتعلق بالعين التي أثبتها النص النبوي بشكل قاطع، ولن نتطرق إلى مطلق الحسد الذي هو خلق سيء بمجرد تمني زوال النعمة.
نخلص في موضوع العين من استعراض النصوص النبوية الشريفة بأنها أشارت إلى الحقائق التالية:
1ـ إن العين ( بمعناها الذي تفهمه العامة والخاصة ) بتأثيرها الذي يشك فيه البعض ويؤيده الآخرون، حق أي إن لها هذا التأثير الملحوظ وليست وهما كما هو الحال في الحسد والهامة والطيرة.
2ـ إن الأذى الذي يصيب الشخص المضرور يتم بالمعاينة.
3ـ إنه لكي نخفف من أثرها بعد حدوثها فليغتسل العائن أو يتوضأ بالماء ثم يغتسل المعين بذلك الماء.
والسؤال الآن:ما هو موقف العلم الحديث من هذه الحقائق الشرعية الثلاث التي ثبتت بالحديث النبوي الشريف من قول سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ( الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وقد كان ثبوتها بالسنة النبوية قاطعا قطعا باتا وورد بطرق عديدة متساندة متصلة السند، مما يجعلها تصل إلى حد التواتر.
موقف العلم الحديث:
قبل أن نستطرد في حديثنا عن موقف العلم الحديث من الحقائق الشرعية نقف وقفة قصيرة نستعيد في أذهاننا نطاقات الوجود التي يعمل فيها العلم التجريبي الحديث لنخرج منها إلى موقفه من قضية ( العين ).
اتفقت رؤية العلماء على تميز أربعة نطاقات للوجود متميزة تمام التميز، متداخلة تمام التداخل، هي الطاقة والمادة والحياة والنفس.
وقد خصص الفكر الإنساني لكل منها علما يقوم بفروعه المختلفة على البحث في كل نطاق، فكان علم الفيزياء للبحث في الطاقة وعلم الكيمياء للبحث في المادة وعلم الأحياء للبحث في الحياة، وعلم النفس للبحث في النفس: ثم أدرك العقل البشري ومن ثم العلم التجريبي أن هناك مناطق تداخل ومعابر دخول وخروج بين هذه النطاقات الأربعة خصص لكل معبر منها علما يبحث فيها وجاء اكتشاف هذه المعابر بأزمنة متدرجة مع تدرج هذه النطاقات لتبدأ بالعلم المعني بمعبر الطاقة والمادة والمسمى الكيمياء الفيزيقية(Physiochemistry)ثم المعنى بمعبر المادة والحياة والمسمى بالكيمياء الحيوية ثم المعنى بمعبر الحياة والنفس والمسمى علم النفس العصبي أو علم الأعصاب.
ولو تأملنا هذه النطاقات لوجدنا أنها تبدأ في نطاق الطاقة بسيطة غير متراكمة، دقيقة غير مجسمة، موحدة غير متشاكلة، ثم تتراكب وتتشاكل إلى أن تكاد تكون جسما في الفوتون لتقرب من نطاق المادة التي تبدأ بسيطة غير متراكمة موحدة غير متشاكلة في الإلكترون، ثم تتراكب وتتشاكل فتكون الذرة، ثم تتراكب وتتشاكل فتكون الجزيء الذي يكبر ويتعقد إلى أن يصل إلى أقصى تعقيده في جزيء البروتين، فإذا به يقترب من نطاق الحياة، فالبروتوبلازم مادة الحياة التي تشاكل جزيئات البروتين، فإذا بدأت الحياة بدأت بخلية واحدة ( بروتوبلازم )، بسيطة غير متراكبة ولا متشاكلة، ثم دب فيها التركيب والتشكيل لتصل إلى قمة تعقيدها في الخلية العصبية التي تشكل قمة تشكلها في المخ البشري، فإذا بنا نقترب من نطاق العقل والنفس.
ونلاحظ هنا أن التدرج من التعقيد مطرد سواء في النطاق الواحد أو بين النطاقات، وفجأة وعلى قمة التعقيد المطر ينبع العقل والنفس بلا مادة مرة أخرى وكأنهما طاقة لا مادة لها، مما دعى العلماء في منتصف هذا القرن العشرين لأن يتصوروا أن نطاقات الوجود دائرية ليس لها بداية ولا نهاية. وأنه لا بد وأن يكون بين النفس والطاقة أول النطاقات وآخرها علاقة ومعابر على تصور أن هذه النطاقات متجاورة في شكل دائري وتكون النفس لصيقة بالطاقة كما هي لصيقة بالحياة، وبالفعل نشأ في الربع الأخير من هذا القرن علم جديد يبحث في المعبر بين الطاقة والنفس سمي سيكوترونكس(Psychotronics).
عالم الطاقة:
عالم الطاقة هو خلق الله خفي الجسم ظاهر الأثر يتحرك بسرعة تفوق سرعة المادة ولا تقارن بها ويتحرك في موجات تختلف في أطوالها وسعاتها ورتمها وكلما اختلفت واحدة أو أكثر من هذه الخصائص الثلاث اختلف أثر الطاقة وأحسسنا بها بشكل مختلف ولكي نبسط الموضوع في صورة أسهل: لو اخترنا عنصر ( الطول الموجي ) لهذه الموجات لوجدنا أنه وحتى الأعوام القليلة السابقة قبل اكتشاف قياس ( الفيمتوثانية ) كانت الموجات المعلومة تتراوح أطوالها ما بين 10 فيمتومتر ( والفيمتومتر وحدة طولها جزء من ألف مليون جزء من الميكرون ) وبين 100 ألف كيلو متر بترددات تتراوح بين 1 : 10 22 موجة في الثانية (أي: 10 مليون ذبذبة في الفيمتوثانية ).
وكلما اختلف الطول الموجي كلما اختلف الأثر الذي تحدثه الطاقة فهو عند الأطوال من 10 ـ 10000 فيمتومتر يعطي أثره الذي نسميه أشعة جاما من 10000 ـ 10 مليون ميمتومتر يعطي ما يسمى أشعة إكس، وكما هو معلوم فإن الضوء الذي تراه العين بكافة ألوانه إنما يتراوح طول موجته من 400 نانومتر في اللون البنفسجي إلى 760 نانومتر في اللون الأحمر.
أما من حيث تتابع الأطوال الموجية فإن كل تتابع يؤدي في أثره إلى أمر مختلف، فلو تصورنا أن اللغة عبارة عن مجموعة من الكلمات التي تتكون بدورها من مجموعة من الحروف، فإن تتابع هذه الحروف يعطي العديد من الكلمات ذات المعاني المختلفة مع أن عدد الحروف في أي لغة لا يتعدى الثلاثين، وأن تتابع الكلمات يعطي ما لا حصر له من المعاني المفهومة، لعلمنا أن تتابع فقرات من الطاقة ذات الأطوال الموجية يمثل تتابع الحروف والكلمات في اللغة، فعلى سبيل المثال: لو سقط على العين طول موجي للطاقة مقداره 400 نانومتر رأته العين بنفسجي، ولو سقط بطاقة في موجة طولها 450 كان إحساس العين به على أنه أزرق، ولو كان طوله 520 رأته أخضر، وهكذا عند طول 600 يكون أصفر وعند 650 يكون برتقالي وعند 760 سيكون أحمر، وهي الألوان الأساسية للطيف، ويمثل كل منها حرفا، وإذا تتابع سقوط هذه الأطوال على العين بسرعة معينة ظهر الإحساس باللون الأبيض في حين توجد ملايين التتابعات التي تحس على إثرها العين بملايين الألوان التي تملأ الكون.
فإذا كان هذا هو تأثير الطاقة بين أطوال موجية ما بين 400 ـ 760 نانومتر فما بالنا بتأثير الطاقة بين الأطوال الموجية بين 10 فيمتومتر إلى مئة ألف كيلو متر.
وكان لا بد أن نتصور أن للطاقة في الأطوال الموجية الأخرى تأثيرات ما على الأجسام الحية، وخاصة الإنسان، ليس على عينه المجهزة للرؤية الضوئية فقط بل وعلى جهازه العصبي بصفة عامة.
وفي خلال ربع القرن الأخير ظهرت عدة بحوث وملاحظات غريبة وهامة وضعت هذا الافتراض أقرب إلى اليقين نورد منها جانبا مختصرا فيما يلي:
يقول يوري خولودوف ( وهو أخصائي وظائف الجهاز الفسيولوجي العصبي ):
تحيط بجسم الإنسان أنواع شتى من الإشعاع الكهرومغناطيسي إلا أن الأثر الذي قد تتركه تلك الموجات النابضة على كيان الحيوانات ليس مفهوما فهما كافيا، وإلى جانب هذه التأثيرات الخارجية نجد أن الجسم يولد مجالاته الكهومغناطيسية الداخلية الخاصة به، ولا يصل علمنا إلا إلى القليل عن كيفية تفاعل هذه المجالات.
بدأ العلماء يعيدون حساباتهم للتفهم الصحيح للعمليات الحيوية التي لم تكن الكيمياء وحدها كافية لتفسيرها، مثل انتقال النبضات العصبية بسرعة وتباين أشد بكثير من مجرد الانتقال من خلال الموصلات ومثل انقباض العضلات وانقسام الخلية، وأخيرا عملية التفكير.
عند انقسام الخلية الحيوانية أمكن رصد انبعاث فوتونات من الضوء غير المرئي ومن الأشعة فوق البنفسجية وكذلك أمكن رصد موجات فوق صوتية ترددها ما بين مليون و10 مليون ذبذبة في الثانية، وكذلك أمكن رصد موجات فوق صوتية تصدر وعندها تتغير الجزيئات البروتينية الكبيرة من شكلها بالضغط أو المط، كما لو كنت تطبق علبة من الصفيح.
ثبت أن وجود الإنسان في ظل الجاذبية الأرضية يجعل له تفكيره المتزن مع هذه الجاذبية، وعندما وضعوا رواد الفضاء في ظروف انعدام الجاذبية أمكن إحداث انتظام في أجهزتهم الحيوية، ولكن حدث خلل ملحوظ في طريقة ونشاط تفكيرهم.
أمكن الوصول إلى فك شفرة لتتابع الطاقة الصادرة من المخ لأجزاء من الجهاز العصبي تحركه بناء على معلومة لدى الشخص المختبر، يتحرك على أساسها، ثم تم قطع هذا الجزء تماما وفصله عن منطقة أخذ المعلومات من المخ، وعرض هذا الجزء من الجهاز العصبي لنفس الشفرة من الطاقة التي تم التوصل إليها ( والتي أمكن إحداثها بطريقة غير حيوية ) فأعطت نفس الاستجابة وكأنها صادرت عن نفس المخ من ذات مركز المعلومات.
أثبت أرثركوسلر أنه يمكن نقل المعلومات والصور عن طريق الجلد لو أمكن تحويلها إلى شفرة طاقة تنتقل في أطراف الأعصاب وتصل إلى المخ.
حتى قال بيتركابتسا: إنني أقسم الظواهر إلى ممكنة ومستحيلة، بل إلى مكتشفة وغير مكتشفة. ويقول: يجب ألا نقع في خطأ الاعتقاد القديم بأنه لن تكون هناك مكتشفات جديدة مستقبلا.
وكانت هذه الظواهر وغيرها الكثير إرهاصة دعت بعض مراكز البحوث في العالم إلى تبني هذا الموضوع وتكثيف البحث حوله، وكان من رواد هذا المجال الدكتور هيروشي موتوياما (وهو عالم ياباني حصل على (ph.d.) في علم وظائف الأعضاء وعلى (ph.d.) في علم النفس وهو مدير معهد علم النفس الديني بطوكيو )، الذي أجرى العديد من التجارب العلمية حول هذا الموضوع نشرت خلال السبعينات من هذا القرن نلخصها فيما يلي: ميز هيروشي موتوياما بين الشخص العادي وشخص غير عادي سماه (Psi-ability) شخص له قدرة طاقية نفسية داخلية، ونستسمحه أن نسميه مؤقتا ( الشخص النفسي )، فوجد أن ( الشخص النفسي ) يمكنه التحكم في بعض وظائف لا إرادية للجهاز العصبي، مثل سرعة ضربات القلب وسرعة التنفس، وبعضهم استطاع أن يوقف ضربات قلبه خمس ثوان.
ولاحظ أن هؤلاء الأشخاص النفسيون هم من ذوي الطبائع التأملية والرياضات العقلية النفسية وأنهم منطوون على أنفسهم، وأنهم قليلو الاختلاط بالناس، قليلو الحركة الحياتية، منهمكون في التأمل العقلي النفسي وليس التأمل العقلي الرياضي أو العلمي أو الفني.
وتمكن هذا العالم من رصد وتسجيل بعض مؤشرات عن وظائف أعضاء هؤلاء الأشخاص، مقارنة بالأشخاص العاديين حيث ظهر اختلاف في معدل تدفق البلازما وسرعة التنفس والمقاومة الجهدية الكهربية للجلد بين شخص عادي وشخص نفسي.
ثم تمكن هذا العالم من ملاحظة ما يمكن أن ينتاب الشخص العادي من تأثير التركيز العقلي من الشخص النفسي عليه فوجد أن التركيز العقلي من الشخص النفسي على شخص عادي يسبب له خللا في المقاييس الثلاثة التي قاسها، وهي معدل تدفق البلازما وسرعة التنفس والمقاومة الجهدية الكهربية للجلد.
وقد استطاع أن يصمم أجهزة دقيقة لقياس الطاقة فأثبت أن هناك انبعاث للطاقة من جسد الشخص النفسي، وهي التي تسبب التأثير على الشخص العادي وأنها تنبعث من بؤرات سماها ( شاكرا )(CHAKRA)توجد على امتداد الحبل الشوكي مع المحور الطولي للإنسان، وإن أشدها نشاطا هي البؤرة الموجودة بين العينين والتي تقابل تماما الغدة النخامية فيه.
ولخص هيروشي موتوياما معلوماته على النحو التالي:
الأشخاص العاديون غير قادرين على بعث هذه الطاقة.
الأشخاص المميزون يمكنهم إيقاظ الانبعاث عن طريق التركيز أو أثناء ما تنتابهم من حالات نفسية غير مستقرة.
أقوى النقاط المؤثرة في ( الشاكرا ) هي البؤرة التي على الجبهة بين العينين.
التأثير على الأشخاص يظهر واضحا.
ولا يبقى إلا أن نضع المسميات المناسبة على مسميات هيروشي موتوياما، إن هناك أفرادا قلائل يتميزون بوجود بؤرات نشطة لانبعاث الطاقة فإذا صحب ذلك أن كان هؤلاء الأشخاص منطويين على أنفسهم كثيري التأمل فيما عند غيرهم من النعم، كثيري التألم النفسي على عدم وجود مثل هذه النعم لديهم، نشطت عندهم هذه البؤرات، وخاصة بؤرة ما بين العينين وأصبح الشخص من هؤلاء شخصا نفسيا على حد تعبير هيروشي أو شخصا عائنا على حد تعبير الحديث النبوي الشريف فإذا ما تحركت نفس هذا الشخص العائن تجاه شخص ذو نعمة واستكثرها عليه صدرت انبعاثات من الطاقة ذات شفرة خاصة من البؤرة بين العينين وأثرت على الشخص المعين فأفسدت رتم سيال الطاقة في جهازه العصبي أو غيره فيصاحب ذلك خلل يؤدي إلى مرض أو ألم أو فساد أو ضعف أو غير ذلك وهذا هو مفهوم العين تماما كما صورها الحديث النبوي الشريف.
فهل يكون العلاج بالماء؟.
روى الإمام مالك في الموطأ عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكه، فقيل له: ما يرفع رأسه، وكان قد اكتتب في جيش، فقالوا له: هو غير رائح معك يا رسول الله، والله ما يرفع رأسه فقال: هل تتهمون له أحدا قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟ اغتسل له فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخله إزاره، في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته.
وفي رواية أخرى نحو ذلك: إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا بركت؟ إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر.
وروى هذا الحديث أيضا كل من الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وقال عنه الإمام ابن حبان: حديث صحيح.
الماء كما هو معروف يتكون من ذرة من الأكسجين وذرتين من الهيدروجين، ويتكون جزيء الماء على شكل يشبه القضيب المغناطيسي يكون له قطب سالب وقطب موجب، ويدور جزيء الماء حول نفسه بسرعة كبيرة كما أنه يدور حول الجزيئات الأخرى على مسافات ثابتة عند درجات الحرارة الواحدة، وينشأ عن ذلك أنه في أي لحظة نرى مثلا كوبا من الماء مليء بجزيئات الماء في مواضع مختلفة من حيث اتجاه الأقطاب السالبة والموجبة، وهذه الحالة تجعل للماء مقاومة ما للدخول إلى الخلايا والانسياب مع السيتوبلازم.
وقد أمكن في العصر الحديث إثبات أنه لو عولج الماء بطاقة تُبعث من مجال مغناطيسي مثلا لأمكن انتظام جزئياته في اتجاه واحد بالنسبة للقطبين السالب والموجب وفي هذه الحالة أبدى الماء ظواهر غاية في الغرابة بالمقارنة به قبل التعديل، فقد أمكن استخدام هذه المياه في علاج العديد من الأمراض في الإنسان والحيوانات كما أدت إلى استخدام هذه المياه في علاج العديد من الأمراض في الإنسان والحيوانات كما أدت إلى زيادة نمو الدجاج وزيادة إنتاجه من البيض وأدت إلى تقصير مدة إنبات عدد كبير من بذور الخضروات والفاكهة والمحاصيل، كما زاد معدل النمو في النباتات وكذلك المجموع الخضري لها.
وأيا كانت التفسيرات التي سيقت في هذا المجال فإن وجود الطاقة لإعادة تنظيم جزيئات الماء في وضع معين يجعل هذا الماء ذو قوة انسيابية خاصة للمرور في بروتوبلازم الخلايا الحية، مما يحسن من طاقة الحياة بها ويصلح سلوكها الحيوي.
كما جاء التوجيه النبوي الشريف باستخدام الماء وإمراره على البؤرات النشطة في الشخص العائن بعد أن يعرف بما أحدثه في المعين وبعد أن ينصح ويذكر بما سببه له فتعود الطاقة المنبعثة منه إلى وضع مفيد تؤثر على الماء الملامس له عند الغسل أو الوضوء، وخاصة غسل الوجه لإمرار الماء على بؤرة بين العينين، وعندما يستخدم هذا فيصب على جسد المعين ربما نقل هذه الطاقة إلى البروتوبلازم فأصلح ما كان قد فسد ونظم ما كان قد انفرط.
وما هذا إلا تصور مبدئي يحتاج إلى دراسة التفاصيل، لكن ما نخرج به في نهاية محاضرتنا هو أن العلم قد أثبت أن العين حق وأن الماء الذي يغتسل أو يتوضأ به العائن يفيد في إصلاح المعين وشفاء وعكته بإذن الله، وإن تركت التفاصيل والتفسيرات لبحوث علمية أخرى قد يأتي بها الزمن المستقبل.