بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فإن مسألة الاستعانة بالجن مسألة خطيرة جداً، ولم تزل مجالاً للحذر الشديد والتخوف العظيم عند العلماء المهتدين، والعقلاء الصالحين ؛ لأنها كانت سبباً في وقوع أسوأ أنواع الكفر والظلم والفسوق – عافانا الله والمسلمين-، وقد جعل الله بحكمته الباهرة بين الثقلين حواجز، ومخاوف، واختلاف بين الطبيعتين ؛ ليعبد كل منهما ربه كما شرع له، من غير استعانة بالآخر، وإذا ما استعان أحدهما بالآخر ففي حدود ضيقة بما شرع لهما، وبضوابط دقيقة لا يحسنها إلا أهل العلم الراسخين فيه حتى لا يقع منكر، إلا أن الشياطين من الجن والإنس خالفوا أمر ربهم، وقالوا وعملوا ما لم يشرعه لهم، وحرص إبليس وجنوده على هذه المسألة لأنها من أعظم طرقهم في الإضلال والتلبيس.
ولهذا التجاوز للمشروع حصل كثير من المنكرات العظيمة في هذين البابين، ووقع في الشرك والكفر بسبب هؤلاء الشياطين - وهم كفرة الجن- أو فساقهم أكثر الخلق من قديم الزمان – نسأل الله العافية-: كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 20، 21].
ومسألة الاستعانة بالجن لم يكن الكلام فيها مشهوراً بين السلف، وإنما كثر في المتأخرين بأسباب كثيرة يأتي التنبيه عليها إن شاء الله، ووقعت علاقات لم تكن في عهد السلف، ثم صار من بين هذه العلاقات ما تنازع فيه العلماء هل هو معدود من مسائل الاجتهاد، والشأن في بعض هذه المسائل يشبه ما قال الإمام عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله-: ( يحصل للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور )، فتحدث مسائل من الخلاف بحسب ما أحدثوا من المعاصي.
وقد حصل كثير من الاشتباه على كثير من الصالحين والعلماء بسبب هذا النزاع وقد خاض من خاض في هذه المسائل ممن هو ليس من أهل الاجتهاد، فقيس الغائب على الشاهد في ما لا يصح فيه ذلك القياس، وجمعوا مع وجود الفارق، أو فرقوا مع وجود الجامع، وهو سبب خطأ أكثر الناس، كما قال إمام أهل السنة الإمام المبجل أحمد – رحمه الله-: (أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس). ووُجد أيضاً وهو الأخطر من استغل هذه الأنواع الاجتهادية ممن في قلوبهم زيغ، فتذرَّع بها في الوصول إلى أعظم أنواع الكفر، ولبسوا على الناس ودلسوا، وهكذا لا يروج الباطل إلا مع شيء من الحق عند أكثر الناس.
وكان سبب كثرة الخوض في هذه المسألة ونحوها كثرة تسلط شياطين الجن على الإنس في هذه الأزمان، لما بعد الناس عن عصر النبوة ؛ لأن شياطين الجن لم يكونوا ليخلصوا إلى أبدان الناس ويؤذوهم في عصر النبوة، وما قرب منه مثل ما خلصوا بعد ذلك، وخاصة في هذه الأزمان العجيبة, وكان سبب تسلطهم ضعف العلم والإيمان وضعف التوكل على الله، والانغماس في المعاصي، وفي فضول الدنيا معرضين بها عن ما خلقوا له.
ووُجد أن جُلَّ من يرقي الناس من المسِّ الشيطاني هذه الأزمان هم من العوام، وسبب ذلك مع شده خوف أكثر الناس في هذه المسالك: أن جُلَّهم ممن ابتلي بشيء من هذه الأدواء في بداية أمره، وذاق شدة المعاناة من ذلك، لكنه عرف بسبب ذلك، كيفية التخلص منها، وكيفية القراءة على من به مس من الشياطين، ثم اتخذ بعضهم إنقاذ الناس من هذه الابتلاءات مهنة، وبعضهم يريد الأجر، لكن بسبب جهله حصل أو يخشى حصول ما لا تحمد عقباه، والبعض كان كذلك في بداية أمره، لكن فتن عن دينه بسبب حب الدنيا واستدراج الشياطين له بجهله أل الله العافية-.
وقد رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس الشياطين– كما سيأتي ذكره إن شاء الله –, وكذلك نقل عن بعض أصحابة رضوان الله عليهم، وبعض الأئمة كأحمد وابن تيمية رحمهما الله، وكان شيطان الجن يخرج من المريض ربما بآية تُقرأ أو دعاء وتخويف.
وقد كان وجود من يقرأ من هؤلاء القرَّاء – الذين لا يريدون شراً، ولا يقولون أو يعملون هجراً- هذه الأيام رحمة من الله لكثير من إخوانهم المبتلين، وهذا من أنواع الجهاد التي تحتاج إليها الأمة كثيراً هذه الأيام، وكثير من شياطين الجن المتسلطين هم من اليهود أو النصارى الحاقدين، الذين يجب بقدر المستطاع إعانة المسلم عليهم، كما قال تعالى في حق المسلم الذي لم يهاجر: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]، فكيف بمن لم يترك الهجرة، أو لم تجب عليه.
وسيتحصَّل للرقاة إن صدقوا وتابعوا السنة – إن شاء الله- وأخلصوا بسبب رقاهم هذه علوماً مفيدة، منها معرفة كثير من حيل الشياطين، وزوال كثير من ذلك الخوف أو كله من الجن، ومعرفة معنى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].
ومنها تبيُّن عظمة كتاب الله تعالى، مما يزيد الإيمان به والقرب منه، ومعرفة أثر التداوي به الذي كان تركه من أنواع هجره، بل القراءة على المرضى من أسباب التدبر وله بكل حرف عشر حسنات، فقلب الراقي الصالح دائما رقيق، ويحصل له من ذلك تعظيم الله تعالى بسبب التفكر في مخلوقاته، وعجائب خلقه، وتنوع أصنافهم وأنواعهم وطرق مسالكهم ؛ فسبحان الواحد القهار لا إله إلا هو، ومنه معرفة الفرق بين الأذى الحقيقي من شياطين الجن وغيرهم، وبين الوهم الذي يصاب به كثير ممن ضعف إيمانهم وتوكلهم، ومعرفة حيل إبليس وجنوده، وغير ذلك، فيجب العناية بهؤلاء الرقاة ومعاونتهم وتشجيعهم، وأهم شيء تعليمهم، وبيان الفروق الدقيقة بينهم وبين أهل الشعوذة والدجل، وتوصيتهم والمرضى باتباع السنة ولقد صدق والله ذلك الإمام الذي قال: (أشد شيء على الشيطان اتباع السنة).
وللأسباب السابقة، وبما أن مجال القراءة على من به مس هو مجال خصب للشياطين لعرض معونتهم، وللاستعانة بهم، ولخطورة هذه المسألة وخلو الساحة من البحث المستفيض فيها، كان هذا الكتاب.
فأسأل الله أن ينفع به المسلمين من الجن والإنس، وأن يزلزل به الشياطين وأن يفضحهم ويخزيهم وينصرنا عليهم إنه قوي متين، ولقد مر هذا البحث على كثير من الأساتذة والعلماء وطلبة العلم فاستفدت من ملاحظاتهم جزاهم الله خيراً، وهو من البحوث المحكمة في معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، وقد حُكَّم البحث من أستاذين وأوصيا بإجازته ونشره بدون أي تعديل والحمد لله، كما أوصى المجلس - برئاسة الأستاذ أ.د. عادل بن محمد عسيري الأستاذ بكلية الطب وفقه الله – في جلسته التاسعة بتاريخ 26/5/1432هـ بالموافقة على إجازة البحث علمياً وصادق على ذلك مدير الجامعة بخطابه رقم (1253/م /س ) بتاريخ 21/6/1432هـ والحمد لله، وما كان فيهما من صواب فمن توفيق الله، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله بريئان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التمهيد
أنواع استعانة الإنس بالجن
الاستعانة بالجن أربعة أنواع، ولكل نوع حكم خاص:
النوع الأول: استعانة بالجن تفضي إلى وقوع الشرك الأكبر من أحد الطرفين، وهذه كفر لا نزاع فيه، وهي مثل أن يستعين بهم الإنسي أو يستغيث فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو يدعوهم من دون الله، أو يتوكل عليهم، أو يذبح لهم، أو ينذر لهم، أو يخاف منهم الخوف الذي لا يكون إلا من الله كخوف السر، أو يخشاهم كذلك، أو يسب الله أو رسوله أو دينه، أو يهين كلام الله، أو غير ذلك من أنواع الكفر المبسوطة في كتاب الردة من كتب الفقهاء في المذاهب الأربعة والتي هي من أهم أبواب كتب الفقه، وهذا شرك ممنوع منه باتفاق المسلمين.
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6] قال أبو جعفر بن جرير: (يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل هؤلاء النفر: وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجنّ في أسفارهم إذا نزلوا منازلهم، وكان ذلك من فعلهم فيما ذُكر لنا [ ثم ذكر بإسناده ] عن ابن عباس قوله - في هذه الآية- قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي ، فزادهم ذلك إثماً، [ وبإسناده أيضاً] عن الحسن قال: كان الرجل منهم إذا نزل الوادي فبات به ، قال : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه)[1].
وقد بين تعالى أن هذه الاستعانة كانت سبباً للخلود في النار عياذاً بالله تعالى: فقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 128].
قال أبو الفرج ابن الجوزي: ﴿ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا فنزلوا وادياً ، وأرادوا مبيتاً ، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله ؛ واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على قومهم ، ويقولون: قد سُدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفراء. والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي، واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زَيَّنَتْ لهم الأمور التي يهوَوْنَها ، وشَّهوْها إليهم حتى سهل عليهم فعلها ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وبه قال محمد بن كعب ، والزجاج. والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم، واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقَّون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك ) [2].
ومن هذه الاستعانة ما يفعله السحرة وأغلب الكهان والمنجمون ونحوهم، ولهم في ذلك حيل وطرق لا يعرفها إلا أهل العلم، يقول شيخ الإسلام: (فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب، وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة، فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء، وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك، ثم يقولون: الولي إذا تولى لا يعترض عليه، فمنهم من يراه مخالفاً لما علم بالاضطرار من دين الرسول، مثل: ترك الصلاة المفروضة، وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة، وغير ذلك، وفعل الفواحش والفحش والتفحش في المنطق, وظلم الناس وقتل النفس بغير حق، والشرك بالله، وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله ؛ قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلاً من الله تعالى، ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين, وأن هذه من أولياء الشياطين تضل بها الناس وتغويهم. ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك: فتارة يأتون الشخص في النوم يقول أحدهم: أنا أبو بكر الصديق، وأنا أُتَوِّبُك لي وأصير شيخك، وأنت تتوِّب الناس لي، ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه، فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه، ولا يعلم انه الشيطان، وقد جرى مثل هذا لعدة من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام، وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصاً، وتارة يقول: أنا الشيخ فلان، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره.
وكثيراً ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت ؛ فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه، أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان، لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تجيب مشركاً )[3].
النوع الثاني: استعانة بهم هي تعاون على الإثم والعدوان لا تصل إلى الكفر، بأن يقدم أي طرف منهما – من الإنس والجن- للآخر أي شيء فيه معصية، فهو محرم بالاتفاق أيضاً، ومثال هذا النوع, أن يسرق له الجني مالاً، أو يتعاونان على أكل أموال الناس بالباطل بأي نوع من أنواع الحيل أو غيرها، أو في الفواحش يقول شيخ الإسلام: (كأن يتلبس بشخص يأتي به للإنسي ليفعل به الفاحشة، أو لأن الجنية تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال أو بالعكس، أو يستعين بهم على قتل معصوم، أو إمراضه، أو إنسائه العلم أو القول على الله بغير علم)[4].
• أو أن يشترط الجني أن يدخل في بدن الإنسي، أو أحد أقاربه ليعينه، وكذلك كل ما فيه ظلم أو أذية لمسلم، ونحو ذلك، قال شيخ الإسلام أيضاً : (وآخرون شر من هؤلاء يستخدمون الجن في أمور محرمة، من الظلم والفواحش، فيقتلون نفوساً بغير حق، ويعينونهم على ما يطلبونه من الفاحشة، كما يحضرون لهم امرأة أو صبياً أو يجذبونه إليه. وآخرون يستخدمونهم في الكفر فهذه الأمور ليست من كرامات الصالحين... وأما استخدامهم في المحرمات فهو حرام)[5].
وذكر الشيخ أمثلة لهذا النوع تستفاد من قوله: (والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان إلى مكان أكثرهم لا يدري كيف حُمل، بل يحمل الرجل إلى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين، ولا يدَعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به، بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج، وقد يذهبون به إلى مكة ويطوف بالبيت من غير إحرام إذا حاذى الميقات، وذلك واجب في أحد قولي العلماء ومستحب في الآخر، فيفوِّته المشروع أو يوقعونه في الذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين، وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلته به الشياطين, وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة.
• أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة وليس هو قربة وطاعة، وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله، فإن التقرب إلى الله إنما يكون بواجب أو مستحب وهذا ليس بواجب ولا مستحب، بل يضلون صاحبه ويصدونه عن تكميل ما يحبه الله منه من عبادته وطاعته وطاعة رسوله، ويوهمونه أن هذا من أفضل الكرامات، حتى يبقى طالباً له عاملا ًعليه، وهم بسبب إعانتهم له على ذلك قد استعملوه في بعض ما يريدون مما ينقص قدره عند الله، أو وقوعه في ذنوب وإن لم يعرف أنها ذنوب, فيكون ضالاً ناقصاً - وإن غفر له ذلك لعدم علمه -، فإنه نقَصَ درجته وخفض منزلته بذلك الذي أوهموه أنه رفع درجته وأعلى منزلته )[6].
ففي قوله: (وأوهمته أن ما يفعله قربة وطاعة ) يدل أنه لم يقصد الشرك والمحرم، ولكن لقلة علمه قد يقع في المحرم أو الكفر وهو لا يعلم، وقد يعذر وقد لا يعذر، وقد يغفر له لعدم علمه كما قتل الشيخ ؛ وهو يدل أنها استعانة غير شركية ؛ لأن المشرك الشرك الأكبر لا يغفر له إن مات عليه من غير توبة.
النوع الثالث: أن يستعين الإنسي بهم على مباحات وبسبب مباح، ولكن استعانة تفضي إلى محرم أو شرك، فهو حرام أيضاً أو شرك أصغر ؛ لأن "الوسائل لها حكم المقاصد"، فيمنع من ذلك بناءً على القاعدة المتينة الأصيلة قاعدة "سد الذرائع"، وقواعد درء المفاسد الراجحة أو المساوية للمصلحة ، فما أفضى إلى محرم فهو محرم على التحقيق، وإن كان في الأصل مباحاً.
النوع الرابع: الاستعانة بهم على مباحات، وبأسباب مباحة، ولا يفضي ذلك إلى محرم، ليس ذريعة إليه ؛ فهذه التي حصل فيها النزاع كما سيأتي -إن شاء الله-، وقد حصل اللبس عند كثير من الخلق بينها وبين التي قبلها، وفهم كلام المجيزين لها عند غير واحد على غير مرادهم.
ولكن من فهم المراد كما ينبغي، ولم تلتبس عليه هذه الأنواع، فهل يمكن هذا الأخير، وما أدلة المجيزين، ثم من يمنع من هذه الصورة، ما أدلتهم وما جوابهم عن أدلة مخالفيهم هذا ما يتبين -بإذن الله- في المباحث التالية، وهذه المسألة هي المقصودة من البحث, فأبدأ فيها مستعينا بالله تعالى وحده مستمداً منه اللطف والتوفيق والتسديد, إنه جواد كريم وهو حسبي ونعم الوكيل:
[1]- جامع البيان ( الجن :6 ) وانظر أيضا: تفسير القرآن العظيم ( الجن :6 ) وانظر تفسير القرطبي وابن الجوزي والشوكاني عند هذه الآية. فقد ذكروا نفس هذا التفسير بمعناه .
[2]- زاد المسير عند تفسير الآية نفسها (3/123-124).
[3]- مجموع الفتاوى (13/91-92).
[4]- انظر : مجموع الفتاوى (11/307) .
[5]- النبوات (1/125)
[6]- النبوات (ص275) ط . السلفية.