كانوا يحاربون الرئيس المدني المنتخب، انطلاقاً من أنه مرشّح الجماعة، وأن مكتب الإرشاد يحيط به من كل اتجاه، ويحدّد مسارات حركته، وينطلق في مشروع "أخونة الدولة"، وبعيداً عن أن الوقائع والأرقام أسقطت هذه الأكاذيب، فإن الثابت أن مصر كانت أكثر مدنيةً، وعقلانيةً، من الوضع الحالي الذي يلخصه مشهدٌ بائس المضمون، وفقير الإخراج لرئيس دولةٍ لا يجرؤ على زيارة أسرةٍ فقيرة بها، إلا تحت حراسةٍ وفي معية وزير دفاعه، فيما وقف رئيس حكومته "غير العسكري" مع الحرّاس في الخارج، إلى حين انتهاء "الجماعة العسكرية" من تمثيل مشهد تناول الإفطار، على مائدة الأسرة الفقيرة.
الرسالة بوضوح أكثر: أنا الحاكم المنتدب من جماعة العسكر، ومرشدي العام هو القائد العام للقوات المسلحة، والجنرالات الكبار مكتب إرشادي، نحكمكم بالسيف، ونسحقكم في غضون ساعات، إذا فكّرتم في استرداد وطنكم منا.
*** الأكثر إيلاماً من وحشية القاتل الذي رحل هي تلك الهرولة الرخيصة من الرسميين العرب إلى جنازته، وتسابقهم في تدبيج نصوص العزاء والمواساة في صقر المذابح الذي يعتبرونه حمامةً، ويذرفون الدمع على السلام من بعده.
يستوي هنا المهرولون إلى الجنازة بالجسد، مثل محمود عباس، الذي هو صنيعة "أوسلو" التي هي صنيعة شيمون بيريز، أو الراحلين بالقلوب إلى قدسنا المحتلة، قبل موت السفاح وفي أثنائه وبعده، مثل عبد الفتاح السيسي الذي يكاد يغني للقدس - عاصمة لإسرائيل - قلوبنا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة الكنيست، تفتش عن نظرة رضا والتفاتة دعم، لدى هذا المسؤول الصهيوني أو ذاك، لسلطةٍ تمارس في مصر أكثر مما كانت تحلم به إسرائيل.
وسواء ذهب عبد الفتاح السيسي، بالجسد، أم لم يذهب، فهو هناك، حاضر في العقل والوجدان الصهيونيين، وتقدير السفر من عدمه راجع لهم، فإن رأوا أهمية مشاركته سيفعل، وإن لم يكن ذلك كذلك، فسامح موجود، ورصيده لدى الصهاينة يكفي ليكون جديراً بممارسة طقس الحزن على رحيل أحد الآباء المؤسسين للدولة القاتلة.
وعلى ذلك، لا يحتاج الأمر إلى البحث عن مبرّرات للذهاب، أو إلى جهود متطوعين ظرفاء، من عيّنة مصطفى الفقي، للحديث عن قيم التحضر، مدفوع الأجر التي تدفع للمشاركة في جنازات قاتلينا، وسافكي دمائنا، من أجل مكان بارز في صورةٍ تجمع زعماء العالم الوغد، ذلك أن سلطة عبد الفتاح السيسي، ذاتها، هي حصاد جهد صهيوني دؤوب، وتجسيد لأحلام جنرالات دولة الاحتلال، ومن ثم لن تهمهم كثيراً شكلياتٌ، مثل حجم التمثيل الرسمي في الجنازة.
ولا مانع، هنا، من أصواتٍ تثغو في خلفية المشهد، برقاعة، عن عبارة "عزيزي بيريز" التي مرّروها في خطاب تكليف السفير، في أثناء حكم الرئيس محمد مرسي، في محاولةٍ مضحكةٍ للتغطية على أولئك الذين ينامون في فراش إسرائيل، من دون أن يستشعروا خجلاً.
والحاصل أن قتلة صغاراً ذاهبون للعزاء في قاتل كبير، فمذبحة رابعة العدوية هي امتداد لسلسلة مذابح عبر التاريخ، من دير ياسين إلى بحر البقر إلى قانا إلى الشجاعية، كلها مذابح صنعت من أجل إسرائيل.
*** السيسي متّسق مع نفسه، ومخلصٌ لثوابته التي تتأسّس عليها عقيدته السياسية، ومنهجه في الحكم: ما دامت إسرائيل معي، لا يهمني الآخرون.. نعم، السعودية، والدول العربية عموماً، هي "آخر" بالنسبة للأنا السيسية المتماهية مع الكيان الصهيوني، وكما قلت مبكراً "يثبت كل يوم يمر أن حرص السيسي على العسل الإسرائيلي أكبر بكثير من اعتماده على الأرز السعودي. وعلى ذلك، فإن موقفه من الموضوع السوري يتحدّد على ضوء القراءة الإسرائيلية، وما دامت تل أبيب حريصةً على عدم سقوط بشار الأسد، وتريد الحفاظ عليه، مهاناً كسيراً ذليلا، فإن السيسي لا يملك أن يجدّف بعيداً، في الاتجاه الآخر، حتى وإن كان قاربه بأموال السعودية".
*** يعيش النظام في خوفٍ مقيمٍ منذ استيلائه على الحكم بالقوة، إلى الحد الذي يعتبر معه أغنية لفريق "أطفال الشوارع" تقويضاً لنظام الحكم وهدماً لمقوّمات الدولة، ويجيّش الجيوش لمحاربة سائق التوك توك البليغ، وذلك الصعيدي الفصيح الذي انتشرت كلماته على مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة البرق.
النظام الذي اعتبر نفسه في حربٍ مع فتاة صغيرة (إسراء الطويل)، ويسجن أطفالاً في عمر الزهور، من الطبيعي أن يرتعد وتنتابه لوثةٌ أمام دعوة للخروج ضده، حتى وإن كانت غامضة المصدر، بل أن هذا الغموض هو ما يفاقم حالة الفزع مما هو آتٍ.
*** السيسي هو الشخص الذي استطاع تحويل مصر إلى دولةٍ أصابها الخلل العقلي، فتجاوزت حدود النكتة، واخترقت حاجز المسخرة، فضحك عليها العالم حتى البكاء. علامات الهزء لا تعد ولا تحصى، وأدلة انعدام القيمة لا تحتاج إلى مجهود كبير لحصرها، ومن هنا تأتي الدهشة من الذين يعاقبون الجمهور على الضحك، وهو يشاهد كوميديا زاعقة، يقدمها "بلياتشو" يحشد في كل عروضه توليفة حارة من القفشات والحركات، يستهدف بها قطاعاً بعينه من المشاهدين، ظناً منه أنه بهذه الوسيلة يسيطر على الأدمغة، ويستدر العطف. وبما أن الوعود لم تعد قادرة على خطف الجمهور، تغيرت الخطة إلى محاولة اختطافهم بالنكتة والحدوتة المفرطة في غرائبيتها وسذاجتها، من نوعية الثلاجة الفارغة، والتي أحدثت تسونامي سخرية، فلما انفعل إياد مدني بالنكتة، وتفاعل معها، قامت القيامة ونصبت المشتمة، وأعلن الجهاد الركيك، دفاعاً عن كرامة وطنية، كان كبير المهرجين أول من أهدرها وابتذلها، قولاً وفعلاً، في كل مسرح وقف على خشباته. ليس هذا فحسب، بل إنهم نقلوا المسألة من الكرامة الوطنية إلى الإيمان الديني، لتتحول خطبة الجمعة، عقب مسخرة مؤتمر شباب كفر الشيخ إلى نكتة قومية موحدة أخرى، تذهب أبعد من الربط بين السيسي والوطن، إلى اعتبار أن إيمان المرء لا يصح إلا إذا كان مؤيداً له مدافعاً عن كوارثه وفشله المقدس، من خلال الإلحاح على أن حال السيسي في مصر، مثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، يريد أن يبني دولة مثله، وبناء عليه فالمؤمنون هم، فقط، الذين يؤيدون السيسي، فيما يصبح المعارضون له كالمنافقين في المدينة، ولا بد من إخراجهم منها، وتركها للمؤمنين الطيبين، أتباع عبد الفتاح السيسي، وصحابته الكرام.
*** لا تختلف عملية "هندسة قوائم العفو الرئاسي" في تفاصيلها عن صناعة كوميديا "فتاة التروسيكل" التي استقبلها زعيم المقتلة في قصره، ليمازحها ويطلق ضحكاته في الشاشات والميكروفونات، صارخاً في مشهدٍ يصلح لتدريسه نموذجاً للدراما الفجّة، المبتذلة، أنا إنسان.. أنا أعطف على الفقراء.
وكما شاءت المصادفات، غير البريئة بإطلاق، أن يقع الاختيار على فتاةٍ أغرقوا بصورها مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يقدّموها في فضائيات الانقلاب، ويناشد المذيع السيسي استقبالها وتكريمها. تشاء المصادفات، غير البريئة ذاتها، أن ينعقدَ مؤتمر للشباب في شرم الشيخ، تطرح فيه مسألة حبس داعية الانقلاب الشاب، ويناشدوا الزعيم العفو، فيتم تشكيل لجنة، واللجنة تضع قائمة، والقائمة تضم الناعوت والناعوتة، وحولهما مجموعة من شبابٍ مشمولين بالعفو، ولا تتوقف المصادفات عند هذا الحد، بل تتعثر اللجنة، وتتأخر في إعلان القائمة، ثم ترسلها، ليأتي القرار الرئاسي بالموافقة في يوم عيد ميلاد الزعيم.. سبحان الله يا مؤمن!! وتنطلق الزغاريد وتقام الأفراح، ابتهاجاً بالمكرمة السلطانية، ولسان حالهم ينطق" في يوم عيدك يا مولاي".
*** أعلنها السيسي مدوّية في البرتغال: أنا مع جيش بشار الأسد، ومن ثم، هذه المرة، الأمر مختلف، ليس مجرد تسريباتٍ صحافية، بقصد الابتزاز والمكايدة، بل هي لحظة الحقيقة التي تؤكد ما كتبته سابقاً من أن كل دولار يُمنح للسيسي يذهب جزء منه إلى بشار الأسد، وتتحوّل معه حبات الأرز إلى براميل متفجرة تتساقط فوق رؤوس أطفال حلب. هي لحظة الانتقال من المكايدة إلى العداء الصريح، بما يجعل مرحلة "عض الأصابع" شيئاً من الماضي، لتحلّ مرحلة الفرز الواضح، وإعلان الاصطفاف مع الجبهة الأخرى. مبكراً للغاية، منذ جلس السيسي في مقعد الرئاسة، وربما قبل ذلك، قدّم نفسه خادماً لكل الطامحين في قتل الثورات العربية، بل كان ذلك الدافع الأول لزراعته في رئاسة مصر، وقلت، قبل أكثر من عامين، إن السيسي والحوثي والأسد وحفتر رفقاء مشروع واحد، حتى وإن اختلفت روافد الدعم الإقليمية. وبالتالي، تبدو المنطقة كلها وكأنها متجهةٌ إلى جحيم مستعر، سيكتوي به أولئك الذين أطلقوا العنان لأدوات المشروع المعادي لثورات الربيع العربي.
*** الآن، يمارس السيسي في العلن ما كان يفعله سراً أو تلميحاً، قاطعاً الشك باليقين، فيأخذ الأمر من مكايدةٍ وابتزاز للسعودية، إلى الإقرار بالولاء الكامل للمعسكر الآخر، والجهر، مجدّداً، بعقيدته السياسية، وهي "ما دامت إسرائيل معي، لا يهمني الآخرون".
يمكنك أن تعتبرها لحظة "اللعب على المكشوف"، فإما استئناف ضخ المنح.. أو سأشعل الحرائق في كل مكان.. إما أن استعيد وضعية الطفل المدلل الذي لا يردّ له طلب، أو أبيعكم للأعداء، وأحارب معهم ضدكم، وهي النغمة التي تردّدت خافتة، عقب وفاة الملك عبد الله، عاهل السعودية، وصارت نشيداً وطنياً في مصر السيسية الآن. ولعلك تذكر ما نشره الكاتب البريطاني الشهير، ديفيد هيرست، قبل عام، عن وثيقةٍ تتحدّث عن أن حاكماً خليجياً ضاق ذرعاً من طلبات الجنرال المدلّل، صارخاً "قولوا له لست صرافا آليا".
*** السيسي يبحث عن مشترين للولاء والتبعية التامة، فالرجل، كما قلنا مراراً، يبيع المواقف والمبادئ في سوق السياسة العالمية، لمن يدفع، لا تحكمه اعتبارات الهوية، أو التاريخ، أو حتى المصلحة الوطنية، فيتنقل من الولاء الكامل للرياض إلى سياسة إخراج اللسان، وتلعيب الحواجب، والتلويح بالدخول في علاقةٍ، كيدية، مع طهران، للضغط على السعوديين. ومع وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا، وتصاعد فرص اليمين العنصري في فرنسا، يشعر عبد الفتاح السيسي بالانتعاش، فهؤلاء زبائن مثاليون لبضاعته، فيداعب فيهم غرائز الكراهية المجنونة والعنصرية البغيضة، فيمرح في حدائق الفاشية الجديدة، معلناً جهوزيته للقيام بكل المهمات المطلوبة، وفي يده شهادات صلاحية ممهورة بالختم الإسرائيلي.
*** لم يحدُث أن أهين منصب "رئيس مصر" في تاريخها كله، كما هو الحال مع عبد الفتاح السيسي.. هذا الشخص هبط بمستوى حاكم أكبر دولةٍ عربيةٍ إلى ما دون التسوّل والسمسرة، وبيع المعنى والقيمة والمكانة، لمن يملك الثمن.
ما جرى في زيارته الإمارات مثيرٌ للحزن والأسى، على وطنٍ كبير، يقوده مجموعة من الصغار الذين لا يحسب حسابهم أحد، والمحزن أكثر أن أكبر صغاره لم يعد يستشعر الحرج، أو الإهانة، لم يعد يجرح كبرياءه، أو يخدش كرامته شيء، لأنه، وببساطةٍ شديدة، أسقط هاتين المفردتين من قاموس الحياة المصرية المعاصرة.
*** يهين عبد الفتاح السيسي الوطن، عندما يجعل عقيدته الأساسية التربّح والتكسّب بأي وسيلة، ابتزازاً أو تسولاً أو نشاطاً إجرامياً، بالأجر، لدى كل مشاريع الشر في العالم.
يضع نفسه تحت إمرة روسيا، ورهن إشارة إسرائيل، يتزلّف إلى "الترامبية الصاعدة" في كل مكان في العالم، ومع كل خطوةٍ يقطعها في هذا الاتجاه، يبتعد بمصر خطوتين، وأكثر عن كينونتها وهويتها وتاريخها، الأمر الذي ينبغي أن يشعر معه الذين تحمسوا لانقلابه بالخجل، كونهم برّروا سقوطهم بأكذوبة الحفاظ على هوية مصر.
حرّيٌ بذوي الأبصار والبصائر في هذه اللحظة الكئيبة أن يسألوا أنفسهم: ماذا جرى للهوية المصرية على يد جنرالهم المدلل؟!
تلك هي ملامح "الدولة المدنية" التي أقامها عبد الفتاح السيسي فوق أنقاض حلم ثورة يناير المحطمة، وسط تصفيق حاد من رموز المدنية الزائفة الذين برّروا قتل الإنسان، وإحراق المعنى، واغتصاب الحقوق، من أجل إنقاذ هوية مصر من براثن حكم محمد مرسي و"الإخوان"، فكانت النتيجة أن شاهت الهوية، وحلت الهاوية.
***
لماذا الآن، يقدم نظام السيسي على هذه الخطوة، ويعتقل أسامة مرسي؟! باختصار شديد، كلما استشعر نظام الاستبداد أنه في مأزقٍ أمام داعميه الإقليميين والدوليين، يلجأ إلى ممارسة البطش بجنون، على سبيل الابتزاز، متخذاً من الشعب رهينةً، يساوم بها وعليها، وأظن أنه، بعد العودة المهينة من زيارة الإمارات، من دون أن يحقق مراده في مقابلة ملك السعودية، ثم تأزم موقفه مع الرياض أكثر، وبما يجعل استعادة دفء الدعم والمساعدات والرضا السياسي موضوعاً مستبعداً، أو مؤجلاً، فإن السيسي قرّر أن يعصف بأحاديث المصالحة، والتهدئة في الداخل، ويشغّل ماكينات الجنون بأقصى طاقتها، مثل طفلٍ يمسك بأعواد الثقاب مهدّداً بإشعال حريق، إنْ لم يحصل على مبتغاه. سلام على محمد مرسي، وأبناء محمد مرسي.
***
*** منذ الفيلسوف سقراط، شهيد العلم والفكر، قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح، والأنظمة المستبدة تحرص على تغييب شمس العلم والإدراك عن شعوبها، كي تبقى بليدة عاجزة عن التمييز بين الزائف والحقيقي، ومن ثم يسهل قيادها.
عبد الفتاح السيسي الذي أتحدى أن يكون قادراً على كتابة خمس جمل بلغة عربية سليمة، أو حتى قراءتها، من دون إخطاء، هو آخر شخص في مصر يمكن أن يتحدث في العلم، فما بالك عندما يعيش في دور "طبيب الفلاسفة" أكثر وأكثر، ويفتي ويمارس التنظير في الفرق بين العلم والمعرفة!! أغلب الظن لو كان سقراط بيننا لانتحر غرقاً في تفريعة قناة السويس الجديدة.
***
*** منذ البداية لجأ السيسي إلى الأسطورة والخرافة وعالم الهلاوس والأحلام الاصطناعية، لكي يأتي بما يحقق له هيمنة "روحية" على جمهور، قتلوا بداخله القدرة على التمييز بين العلم والجهل، وبين الوهم والحقيقة، فكيف يمكن أن يصدق أحد أن نظاماً بهذه القيمة الفكرية والعقلية المتناهية في الصغر، مهتم أو منشغل بالبحث العلمي والعلماء؟ السيسي صادق مع نفسه تماماً حين يقول ماذا يفعل العلم في وطن ضائع!
هو لا يريد العلم، ولا يعبأ بالوطن الضائع، بل إنه يحبه هكذا، ضائعاً وغائباً ومغيباً، كي يبرر حكمه له بالسيف والعمامة الكهنوتية، والأحجبة ودخان بخور الشعوذة والدجل.. وبالتالي غير قادر على محاسبته أو مساءلته، أو الصياح في وجهه.
***
*** السيسي يستثمر في الجهل وفي الفقر وفي العوز، يفضل دائماً الظهور بين المرضى والمحتاجين. يستخدمهم أدوات للتسول والابتزاز والشعوذة. منذ الدراما الرخيصة التي بنيت على "حلق الحاجة زينب" مروراً بالطفل المريض بالسرطان، الذي افترسوا آدميته ولم يرحموا مرضه، عندما استعملوه تميمة حظ، أو "حجاب شعوذة" في جيب الجنرال الفاشل، وهو يبيع وهم "القناة الجديدة" التي ستغرق مصر بالعملة الصعبة، وليس انتهاء بالسيدة المسكينة التي صنعوها تلفزيونياً، خصيصاً كي يستقبلها الجنرال في قصره، ويظهر في دور رجل البر والإحسان.
***
*** كان مهيناً لآدمية السيدة التي ظهرت على الشاشات تدفع عربة يدوية لنقل البضائع في الإسكندرية، أن تفوز بجائزة الإبداع الفكري، فيما يسمى "مؤتمر شباب السيسي"؛ فالسيدة التي تبدو في ملامحها علامات المرض، وتنطق الكلمات بصعوبة، ولم تتعلم، غلبها النعاس، وهي تجلس بجوار جنرال الإنسانية المزيفة، ولم ترحمها عدسات المصورين، وهي تغط في نومها، بينما الزعيم يعلن منحها جائزة الإبداع.يذكرك مشهد السيدة بلحظة صعود عبد الفتاح السيسي على ظهر المركب الملكية "المحروسة" في افتتاح تفريعة القناة، ممسكاً بطفل مريض بالسرطان، يبتز به الناس، كما يفعل خاطفو الأطفال ومدّعو العاهات عند إشارات المرور، ليقول للعالم: أنا إنسان.. أنا رسول الإنسانية.. أنا المدني الحساس الرقيق العطوف.
*** يجمع السيسي بداعش أن كليهما لم يغضب إسرائيل يوماً، لم يجرحها، أو يحرجها، بل وضعاها على أكفّ الراحة، تستمتع بمشاهدة هادئة لوقائع انتحار العرب، وذهابهم إلى متاحف الكائنات المنقرضة.
السيسي يدين بالفضل لداعش في الوجود في ليبيا، وفي سورية، وفي استدرار النفط والأرز والدعم، وفي التمتع بالرعاية الإسرائيلية الكاملة، والوصول إلى قلب دونالد ترامب. لكن الفضل الأكبر لداعش على نظام السيسي أنه أعفاه من امتحان مادة الحقوق والحريات، داخلياً وخارجياً، وتلك هي الجائزة الكبرى التي لا تجد تعبيراً عن الفرحة بها أبلغ من ابتهاج الدبلوماسية المصرية بأن زيارة سامح شكري، وزير خارجية السيسي، إلى الولايات المتحدة، جاءت تاريخيةً وغير مسبوقة في نجاحها، كون المباحثات لم تتطرّق إلى ملف حقوق الإنسان، المنتهكة في مصر، وهو التطوّر الذي وصفه مراقبون لصحيفة الشروق المصرية بأنه "شهر عسل" يبدأ بين السيسي والإدارة الأميركية.
*** الفارق الجوهري بين "الوطن" وبين "الدولة". فالوطن ثابت والدولة متغير، الوطن هو الأرض والشعب والتاريخ والجغرافيا، ومنظومة الأخلاق والثقافة.. بينما الدولة هي النظام السياسي الحاكم لهذا الوطن، هي المؤسسة التي تدير وتحكم. وبالتالي فالمستبد الفاشل ليس هو "الوطن" ليس هو "الجمهورية" بل هو الشخص الذي استولى بالقوة المسلحة على مفاتيح غرفة التحكم في شؤون هذا الوطن، الكبير، وأداره بسياسات وممارسات صغيرة، داخلياً وخارجياً، فجعل منه "دولة صغيرة" بل أقل من ذلك "شبه دولة".
ليست دولة كبيرة بالتأكيد، تلك التي تتملق أعداءها، وتنحني لمحتلي شقيقاتها، وتصعر خدها، وتمد يديها، وتقتل أجمل ما فيها، كي ينتعش محصولها من القبح والفساد والبلادة، والانحطاط القيمي، وتهين جغرافيتها، ببيع مساحات من أرضها، وتبتذل تاريخها ورصيدها الحضاري، بالتسكع على أبواب المقتدرين، مالياً وعسكرياً، ملطخة وجهها، مثل عجوز مترهلة، تبتعد تماماً عن الوقار والاحترام.
والدول كالبشر، بعضها يكبر ويزداد نضجاً وعقلاً وحكمة، إذا تولى قيادتها من جاء بهم الشعب عبر اختيار تنافسي ديمقراطي حر وواع، فيكونون معبرين عن "روح الوطن"، وبعضها يكبر ويخيب، أو يشيب فيعيب، إذا استولى على كابينة القيادة فيها من لا يدرك تاريخها وماضيها، ووزنها الحضاري، وعمقها الأخلاقي، ولا يعرف وجهتها، فتصير معه "عجوزاً متصابية".
الدولة الكبيرة إنسانية، بالضرورة، وعادلة، بالبداهة، وأخلاقية، بالطبع، ليست كيادة ولا مبتزة ولا مبتذلة، ولا متصاغرة، ولا مفرقة بين أبنائها، موقفها السياسي ليس "جراج" متعدد الطبقات، يستعمله، بالامتلاك أو بالإيجار، من يدفع، ومبدأها الأخلاقي يتشكل من روافد الاعتقاد الديني والموروث التاريخي والفعل الوطني الذي يأخذ في حسبانه اعتبارات الأخوة والجوار، ويميز بين العدو والصديق.
الدولة الكبيرة لا تطلق جراءها المسعورة تنهش وتعقر في كل مكان، تغرس مخالبها وأنيابها في لحم المختلفين، المعارضين لكل هذا التدني والتسفل، وتطلقهم على من لا يرضخون لابتزازها خارج الحدود، فيمالئون العدو الصريح، ويهينون الشقيق، الثابتة أخوته بالدين واللغة والعرق والدم والملامح.
ساحة النقاش