كيف نرى حسناً ما ليس بالحسن؟!!
د. حيدر عيدروس عليهكذا قالت! وهو قول يوافقُها عليه كثيرٌ من الباحثين والقراء، ولكنه من وجهة نظري قول متعقَّب؛ إذ إنه اعترافٌ صريح بتعدي الآثار السالبة عالمَ الصغار، ليُشرَبها الكبارُ في قلوبهم حتى يروا حسناً ما ليس بالحسن، فكلام الباحثة يدل على أن الكبار قد أباحوا لأنفسهم أن يشاهدوا ما لا يُسمح للصغار بمشاهدته بحجة أنهم كبار!! فتجدهم يُصدرون أوامرَهم للصغار بالابتعاد عن مكامن الخطر، وعن مشاهدة ما لا يسمح لهم بمشاهدته. مما يولد لدى الطفل أسئلة مختزنة في ذاكرته: ما الذي منعوني منه، ولماذا أمنع، وماذا يترتب على مقارفة الممنوع؟!!
لا سيما وقد ذكرت الكاتبة أن الطفل لديه إدراك ومقدرة على التذكر، وهذه حقيقة يعرفها المتابع المتأمِّل، وهو أمر قد عانيناه صغاراً، فقد كان الكبار يمنعوننا من أشياء يمارسونها أمامنا، ونقف أمامهم (وفي صدرونا شيء من "حتى"...)، وشتان بين ما كانوا يمنعوننا منه في ذلك العهد الأبيض، وبين ما يُمنعُ منه الأطفالُ في هذا العهد الذي اختلطت فيه الألوان؛ كانوا يمنعوننا من شرب الشاي الأحمر، ومن شرب القهوة؛ وهم يشربونهما أمامنا، ومن المكث بينهم في وقت القيلولة، في زمان كانوا فيه يقيلون، وقد اختزنت هذه الممنوعات في أذهاننا حتى كبرنا، فعرفنا فيما بعدُ شدةَ شفقتهم علينا، لما عرَفنا مضار الشاي الأحمر، والقهوة على الصغار، أما القيلولة -وهي من مسهلات قيام الليل- فما عاد أبناؤنا يعرفون حتى لفظها، ولماذا تكون، ومتى يحين وقتها؟!! لأننا لا نقيل، ولا يعرف الصلاةَ في الليل منا إلا القليلُ، فقد كانت الصلاة عند كبارنا أحلى من عصير القصب، أما صلاتُنا فما يجد أحدُنا فيها من حلاوة إلا كما يجده من ذاق طعماً باهتاً في القصب الناشف، هذا إذا وُفّق لتذوق حلاوة ما!! ولم يحدث هذا التغير لأن الأرض قد تبدلت غير الأرض، وإنما حدث ذلك بسبب تغير أنماط الحياة، فتغير تبعا لذلك ما بأنفسنا، وتردى ما بدواخلنا، فالأوائل {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18].
وكان كبارُنا يذهبون في الغداة إلى الحقول أو المراعي، ثم بعد أن ترمَض الفصال قليلا يؤوبون إلى الديار لأخذ حظهم من الطعام ويخلدون قبل الظهر للراحة، وهذه الراحة تسمى القيلولة، يستعينون بها على دندنة عذبة في الأسحار، وقد رُوِي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((قيلوا فإن الشيطان لا يقيل))[1]، فكم -والله!- أغبط الأوائل على ما كانوا فيه من حلاوة العيش برغم امتزاجها بالشدة والتعب، وكم أختزن في ذاكرتي وأنا صبي تلك الدندنة العذبة في الأسحار.
فلما تجددت أشجان الذكرى تذكرت ما يردده الناس في ربوعنا من شعر يمتدحون به شيخاً عابداً، ويذكرون أن وقته يضيق عن الاستماع إلى المذياع؛ لما فيه من تضييع للأوقات، وإفساد للألباب بما فيه من موسيقى وألحان لم يأذن بها الله جل في علاه، وإن من صِدْق لهجته في الدعوة إلى الله تعالى أن جاء بالعُصاة من النوادي، وأبدلهم بالشرب الحرام حلالاً.
وتذكرت فيما تذكرت مشهداً عجيباً؛ بكى فيه عمنا عبد الرحيم ولد محمد -رحمه الله- لما رأى جهاز التلفاز في صحن المسيد[2]، برغم أنه أحضر لتعرض فيه بعض الأعمال الدرامية الإسلامية، ولكنه لم يفهم من دخول التلفاز إلى باحة المسيد إلا دخول الفساد، وهو ما لم يشاهده في أيام شبابه وعنفوانه، فماذا يا ترى يكون حاله لو شاهد الفضائيات الخليعة، ما أظن البكاء يزيل لوعته، ولن أبالغ إن قلت إنه سيصاب بلوثة في الدماغ لا يفيق منها إلا على خير في رحاب الدار الآخرة إن شاء الله.
أما عمنا الحاج علي ولد البلة -رحمه الله- فقد استدرجه أحدُ أقربائنا لمَّا كان في زيارة لحاضرة ولاية الجزيرة في السودان، فأدخله دار عرض سينمائية، بحجة أنها تعرض أعمال الزارعة والحصاد، مما كان أهلُنا يشاهدونه في عروض التوجيه المعنوي الجائلة بين القرى والهجر لشحذ همم الناس في بدايات ونهايات المواسم الزراعية، على جهاز العاكس الضوئي (البروجكتر)، فلبى عمنا الحاج علي الدعوة على هذا الأساس، وذهب لدار العرض وهو لا يدري أنه ممتحَن في فطرته السليمة القوية الثابتة، فلما شاهد مخالطة فتاة لفتى من الفتيان على نحو تأباه البغال والحمير، مما اعتاده الناس في هذه العقود الوخيمة، فأمسوا يشاهدونه في بيوتهم ومع أولادهم على اختلاف أعمارهم، ولم يكن عمنا الحاج علي يتصور حدوثه على مرأى منه، فلما شاهده نسي أنه يشاهد عرضاً سينمائياً، فوقف في مشهد عجيب، وصاح مزمجراً في المشاهدين كليث غابات غضوب، ممسكاً بعصاه وهو يردد: أليس لهذه الفتاة من ولي؟!! ولولا أن أخذ مرافقُه بيده لخارج الصالة لعكّر على المشاهدين وأفسد عليهم باطلَهم، وانتقم من عارضي العُهْر شَرَّ انتقام.
أما نحن فصرنا لا نقيل؛ لأن نمط الحياة قد تغير عندنا كما أسلفت، وتبعاً لذلك فقد هبطت دندنتنا لما هو أدنى، وصار همنا هو التعايش السلمي مع الباطل. وأذكر أنني -وبتأويل أقر بأنه غير صائب- وفَّرْتُ جهاز تلفاز لأسرتي، تحت ضغط الموازنة بين هرب أبنائي من بيتهم إلى بيوت عماتهم وخالاتهم وأعمامهم وأخوالهم، ليشاهدوا التلفاز عندهم، وبين مكثهم في البيت ومراقبتهم فيما يشاهدون، هكذا سهُل الأمر عليَّ، بحجة الأخذ بأخف الضررين، فاشتريت جهازاً من أحدث الأجهزة في وقته، وكنت أُحرّج على أفراد أسرتي، وأزجرهم عن مشاهدة المسلسلات، وآمرهم بإغلاق الجهاز في وقت بث تلك المواد الهابطة من الدراما الخليعة، لئلا يجرهم ذلك إلى انقلاب في الفكر، وانطماس في البصيرة؛ فيروا القبيح حسناً. وكنت إذا دخلت عليهم وهم يشاهدونها آمرهم بإغلاق العفن!! فانطبع ذلك في ذاكرة أصغر أبنائي، فأطل عليهم ذات ليلة ووجدهم يشاهدون المسلسل، فتقمّصني، وأمرهم قائلا: ((اقفلوا العفن دا))!!! فاندهشوا نظراً لصغر سنه.
وقد كفاني الله تعالى -وله الحمد والمنة- شر ذلك الجهاز، فقد سلط الله عليه أحد أبنائي بعد ذلك فحاول إخراجه إلى حيث يتحلقون حوله، كما يتحلق التلاميذ حول شيخ آسر، فيشاهدون المنكر محدقين كأنما على رؤوسهم الطير، فسقط منه وتلفت الشاشة، فلم أوفر لهم جهازا آخر، ولكنهم ادخروا من مصروفهم فاشتروا جهازاً ثانياً، وقد أعانهم على ذلك اجتهادي الذي ذكرت، فقضى الله على الجهاز الثاني بالتلف أيضاً، فما عادوا يجرؤون على الطلب، إلا على استحياء، والحمد لله.
ولو لم يكن في التلفاز من خطر إلا أنه يزين المنكر، حتى يجعله معروفاً لكفى، وليس أمامنا من حل إلا إنتاج برامج منقحة مفيدة، وهذا أيضاً مطلب أصعب من تناول النجوم، فنحن في عهد يراد بنا أن نغير مناهجنا التعليمية قسراً لتواكب العولمة، وليرضى عنها القطب الفرد، فكيف نجرؤ في ظل ذلك على عمل برامج مستمدة من مناهج يُرى فيها الفساد، ولا يقبلها لنا الأقطاب والأوتاد، وإلا فليأخذ رب كل أسرة مسلمة تشاهد العفن حظَّه من غضب الله، ليطاله سوط العذاب، والعياذ بالله.
بلا شك سيتهكّم الذين صدّق عليهم إبليسُ ظنه، ويعدون ذلك تغريداً خارج السرب، أما من أحكم عليهم الشيطانُ القبضة فإنهم لا يجدون وصفاً من أوصاف الازدراء إلا ورموا به من يطالبون بذلك، فتجدهم يقولون: هذه رجعية ساذجة، وأصولية متطرفة، ومن تمكن منهم من معرفة بعض مفردات لغة أجنبية يقول: هذه راديكالية!!!
وأما إخوان فاطمة من أهل الغيرة الإسلامية ممن يعتبرون هذا الجهاز وعاء يمكن أن يتقبل الخير فيبثه، فيكون فيه من الخير الكثير، ويمكن أن يتقبل الشر فيبثه فيكون فيه من الخطر شر مستطير، فلهولاء أقول: نعم بلا شك إنه وعاء، ولكننا نخصص الأوعية، فالقصرية؛ وهي وعاء يخصص للمرضى وذوي الأعذار ليقضوا حاجتهم فيه عند الضرورة لا يمكن أن نستخدمه في مجال الأكل والشرب ولو كان جديداً نظيفاً لم يسبق استخدامه؛ لأن النفس تعافه، ولو سلمت لنا فطرتنا لنبذنا دور البث التي تنشر الخير، ثم لا تترفع من إشاعة الفاحشة، ولعقدنا العزم على إنشاء دور لا تجمع مع الحق غيره، ولوعينا بقلوبنا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
ساحة النقاش