العِلم وَالعمَل بعَينٍ أخرى
بقلم : هدى حلمي* – يقظة فكر
إنَّ قضيتي العلم والعمل من القضايا المصيريَّة التي يواجهها المسلمون، فهما سبيل النهوض من الكبوة التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي في مجالات الحياة كلها. ففي مجال العلم – على سبيل المثال – نجد أنَّ ميزانيَّة البحث العلمي بالنسبة للدخل القومي في البلاد العربية 0.2% مقارنة ب 1.6% في العالم، فضلاً عن أن الموقف العلمي الإسرائيلي مقارنة بالدول العربية (نسبة إلى عدد السكان) يمثل (10) أضعاف الأفراد العلميين، (30) مرة في الإنفاق على البحث العلمي، (70) مرة في النشر العلمي، (1000) مرة في براءات الاختراع، أما فى مجال الإنتاج فإن ضَعْفَهُ وتدهوره ظاهر للعيان، كذلك فإنَّ تأثير البحث العلمي على الإنتاج شبه معدوم.
فأين تكمن جذور المشكلة؟
إنها عميقة وتتنوع بين أسباب ذاتية مثل سيناريوهات العجز والكسل في حياتنا والتي تعوّقنا وتمنعنا من تحقيق النتائج المطلوبة وهي تتراوح بين توقّفات بسيطة في مسيرة تقدّمنا إلى عقبات كبرى وعجز تام، التسويف، انخفاض الهمة، الخوف من الفشل. كذلك إضاعة الوقت الذي هو وعاء لكل عمل، وإهدار الأعمار، وعدم وجود أهداف محددة, وندرة إنجاز الأهداف – حينما توجد – فالإنجاز ليس بالمستوى الذي ينهض بأمتنا ومجتمعنا، كذلك انفصام في شخصية أتباع الأمة الإسلامية بين عالم الاعتقاد وعالم الفعل, إمَّا لأنهم لا شعوريًّا يدينون بخلافها أو أنَّ العقيدة لم ترسِّخ في أعماقِهِم مولِّدة عملاً يغيّر واقعهم كنتيجة لتأثيرات البيئة والثقافات الاستعمارية الفكرية والمناهج التربوية والإعلامية.
إذن من أين نبدأ؟
كثيرةٌ هي نقاط البداية… ولكن يمكن أن يكون التعليم بكافَّة مراحله مجالاً رحبًا واسعًا متكاملاً للانطلاق، هو استثمار حقيقي في المستقبل، حيث أطفال اليوم هم القوة البشريَّة والثروة الحقيقيَّة للأمَّة الإسلاميَّة. ولكن أين موقع العمل داخل منظومة التعليم؟
إنَّ العملَ فعلٌ متَّسعةٌ آفاقه، متنوِّعةٌ أساليبه، متشعِّبةٌ مسالِكُه. فالطفل الصغير لِعْبُهُ، تأمّله لزهرة، تجريفُهُ للرمال، حرثه للماء، تعاونه مع أقرانِهِ هو عمل. والطلاب تجريبهم وتطبيقهم للعلوم، زياراتهم الميدانية لما يتدارسونه فى التاريخ والجغرافيا، صناعة الأفكار, للمفكرين منهم، كل ذلك هو عملٌ لا تكتمل دورة العلم إلا به. وإذا كانت مفاهيم التعليم التي تنتمي إلى علم النفس أو التربية قد تعددت، فإنَّه يمكن تقديم التَّعريف الشامل والمقبول التَّالي: “التعلّم هو النشاط الذي بموجبه يكتسب الفرد المعارف والمواقف والمهارات التي بفضلها يشبع حاجاته ودوافعه“.
ومن نظريات التعلم المدرسي؛ نظريَّة النموذج الزمني (نموذج كارول) الذي يرى أنَّ مستوى التعلم يرتبط بنوعين من العوامل الأساسيَّة:
أولاً: عوامل ذاتيَّة:
تتصل بذاتية الفرد المتعلِّم، حيث يدخل إلى تجربة تعليميَّة وهو مزوَّد بقدرات واستعدادات وخبرات متنوعة، مثل:
1- القدرة على التعلُّم: وهي القدر الذي يحتاجه المتعلم من الزمن ليتعلم شيئًا ما في إطار وضع تعليمي، وغالبًا ما تختلف هذه القدرة من تلميذ إلى آخر لارتباطها بمتغيّراتٍ أخرى, كالخبرة السالفة لكلّ متعلم.
2- القدرة على فهم عملية التعلم: أي مدى قدرة المتعلم على فهم نوعية المهمة المطلوبة، وطبيعة الوسائل والعمليات اللازمة لإنجاز تلك المهمة.
3- المثابرة: وتشير إلى المدى الزمني الذي يريد المتعلم أن يقضيه في التعلم.
ثانيًا: عوامل متصلة بالوضع الخارجي:
1- الزمن: الذي يسمح به الوضع التعليمي، والذي لا ينبغي تجاوزه .
2- نوعية التعليم: والذي يتضمن الطريقة التي يعمل بها المدرس، تنظيم وتسهيل اتصال المتعلِّم بالمادة الدراسية بصورةٍ ملائمة، وعرض وتقديم الخطوات الجزئيَّة التي تمكِّن من إنجاز المهمَّة التعليميَّة في شكلٍ مرتَّب، والتكيف ما أمكن مع مستوى المتعلِّم والاستجابة لحاجاته ومتطلباته، ومدى توفّر البيئة التعليميَّة الملائمة والوسائل والمواد التعليميَّة الضروريَّة لإنجاز مهام التعلّم.
التَّعليم المثالي هو نتاج لمجموعة كبيرة من العوامل المتفاعلة معًا؛ منها القاعدة المعرفيَّة، والتجربة أو التطبيق، وإدارة وقت العمليَّة التعليميَّة. فهل يراعى ذلك في رياض الأطفال والمدارس والجامعات في البلاد العربية؟
بتأمل الأوضاع يتضح أن هناك تدهورًا واقعًا في مجمل العمليَّة والنّظام التَّعليمي فى كثيرٍ من الحالات بالبلاد العربيَّة سواء على مستوى المناهج أو المدرسين أنفسهم, وغياب العديد من الأنشطة التي كانت تمثّل البناء الحقيقي للقدرات بالنسبة للتلاميذ وتنمية قدراتهم الإبداعية الخلاقة من خلال تنمية البحث العلمي والاهتمام به. وتزعزعت العلاقة بين (الأطفال، الطلاب) وبين (الروضة، المدرسة، الجامعة)، وتحول التعليم إلى آفة نجني ذبول أزهاره, منها:
- مظاهر سلوكيَّة وأنماط أخلاقيَّة سلبيَّة مثل العصبيَّة والعنف.
- ضعف الخيال والرَّتابة فى التفكير والفردية والأنانيَّة.
- تسرُّب من التعليم وتفشّي ظاهرة الأميَّة.
- تخريج شباب “متعلِّم بمهارات حياتيَّة محدودة” وغير قادر على العمل والإنتاج وبالتالي زيادة البطالة، مُشَكّك بإمكانيَّة وفعاليَّة التَّعاون والعمل الجماعي.
- انعدام القدرة على التخطيط عامَّة والاستفادة من فترات العطلات والإجازات والأوقات الخارجـة عن الدوام المدرسي خاصة.
- العبث بأثمن ما وهبنا الله؛ “الوقت”, الذي هو فرصة للتقرّب إلى الله.. فرصة لبناء الشخصيَّة.. فرصة للمعرفة.. فرصة للكسب الثقافي أو المادّي.. فرصة للتعارف، فبعد أن اتسعت أوقات فراغ الشباب، أهدرت ساعات طويلة، إمّا في الثرثرة الفارغة، أو مشاهدة التلفاز، أو التسكّع على أرصفة الشوارع بلا هدف، أو التجوّل أمام المحلاّت التجارية، أو جلسات السمر التي لا نهاية محدّدة لها، حيث تترك سائبة كحبل يشنقون به الوقت.
وللعودة بمنظومة التعليم إلى مسارها الصحيح ينبغي على الدول أنْ تتولَّى مسئوليَّة التربية والتَّعليم، وتخطّط لها مركزيًّا، وتنهض بإدارتها وقيادتها. أي أنّ الدولة تتبنّى مسألة صياغة البناء الإنساني، وتصميم نمط الشخصيَّة والتفكير وطريقة إعداد الإنسان للحياة. فهي التي تتولّى إعداد المنهج المدرسي، وترسم السياسة التربويَّة العامّة. وبتلك الوسائل والإمكانات تؤثّر على هويّة الإنسان التربويَّة وشخصيّته. آخذة فى الاعتبار أن الدولة الإسلاميَّة هي دولة عقائديَّة فكريَّة لها خط فكري متميّز المعالم، وفلسفة حياتيَّة مستقلّة، لذا فهي مسئولة عن توجيه التربية والتخطيط لكل عناصرها وأجهزتها المدرسيّة لتسير في الخط الإسلامي.
وفى حالة تقلّص دور الدولة أو عدم قدرتها على تولِّي هذه المسئوليَّة، فإنَّه يجب على الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني – المعنية بالطفل والشباب والتعليم – أنْ تتضافر جهودهم للنّهوض بالعمليَّة التعليميَّة على أنْ تكون جهودًا مرنة ومتجدِّدَة تتماشى مع حاجات المجتمع المحلِّي المتنوِّعة والمتغيّرة، وذلك من خلال:
أولاً: مشروعات تجريبية:
لإنشاء مراكز تعلم مجتمعيَّة متعدَّدة الأغراض: وهى مؤسسات تربويَّة محليَّة خارج الإطار الرسمي التعليمي في القرى وضواحي المدن, يتم تمويلها وإدارتها من قبل المجتمع المحلِّي لتأمين فرص تعليميِّة متنوعة.
ثانياً: وضع مناهج تعليمية تراعي الجوانب الآتية:
1- الجانب التربوي: الذي يزرع في ذهن الطالب ونفسه القيم والأخلاق الصالحة، ويعوِّده الحياة الاجتماعيِّة والسلوك القويم. بداية من الإيمان بالله ثم الصدق والصبر وحب العلم والتعاون والإيثار والشجاعة وغيرها، وهذا الجانب يعتمد كثيرًا على القدوة المتمثّلة في المدرّسين والمربّين والتي هي صفات يجب عدم التنازل عنها.
2- الجانب العلمي والثقافي: ويشمل تدريس الطفل مبادئ العلوم والمعارف النافعة، سواءً الطبيعيَّة منها أو الاجتماعيَّة، والتي تؤهّله لأنْ يتعلَّم في المستقبل علومًا ومعارف أرقى.
3- الجانب التطبيقي أو التجريبي: ويشمل تنمية مواهب الطِّفل وملكاته الأدبيَّة والفنيَّة والجسميَّة والعقليَّة عن طريق برامج تطوعيَّة لتعلّم فنون الكتابة, والخطابة, والرسم, والتطريز, والخياطة, أو الرياضة, والألعاب الكشفيَّة, والاختراع, والإبداع. كذلك اكتشاف قابليَّة الطّفل ونوع المهارة واللياقة العلميَّة التي يميل إليها نفسيًّا وتنميتها لديه، وتوفير المستلزمات الأوليَّة التي يحاول بها صناعة وابتكار أو تقليد بعض الأجهزة المبسَّطة لتشجيعه على الابتكار والتوجُّه نحو الاكتشاف والاختراع. فضلاً عن اعتماد المنهج التجريبي والبحث المختبري في علوم: الطبّ، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والصيدلة، وغيرها من العلوم المادّية… الخ، وهى الأسس التي قامت عليها مدنية أوروبّا المعاصرة وتقدّمها العلميّ.
4- الجانب الزمني: غرس قيمة أنَّ الوقت هو النعمة التي خلقها الله تسخيرًا للإنسان ليعمر الأرض وهى نعمة لا يمكن تعويضها، وتوضيح أهم الفوارق بين المنهجين الإسلامي والغربي في النظرة إلى البعد الزمنيّ، ففعاليته لدى المسلمين تتمثَّل في آثار العمل خلال حياة الفرد الدنيويَّة وكذلك الأخرويَّة، بينما نجده في المفاهيم الوضعية قاصرًا على النظرة الآنية للدنيا.
فإذا وضع المنهج بهذه الطريقة استطاع أنْ يستوعب أهداف التربيَّة ويحقِّق أغراضها، ويعينُنَا على خلق الإنسان الصالح والفرد النافع والمجتمع القوي, لتتقدم أمتنا الإسلاميَّة ويصبح لها السبق والصدارة بين دول العالم.
ساحة النقاش