المجتمع عندما يكون مجرماً
عبد الكريم أنيس – مفكرون ( خاص )
قد يتراءى للبعض منا أن يجد في انحراف بعض الشخوص عن الطريق القويم المستقيم أنه شذوذ مريض يعبر عن حالة فردية ليس له أية ارتباطات متصلة مع إرهاصات مقابلة من أطراف أخرى، وفي حقيقة الأمر أجد وجهة النظر هذه ساذجة للغاية وتعبر عن سطحية في التعامل مع بواطن الأمور ومداركها الماورائية، أو تعبر عن استفحال ظاهرة التنصل من المسؤوليات التي من المفروض أن تكون ذات صبغة تكافلية في مجتمع سليم وصحيح البنية والنشأة كونها تهمل إهمالاً فاضحاً تشابك مسلك الفرد ضمن وجوده داخل جماعة وتهمل تقصيرها في حقه حين يظهر شذوذاً مسلكياً ما.
إن تراكم أخطاء الفرد وعدم تقويمه بالتتابع و بشكل متتال يخلق جداراً يصعب اختراقه، تتراءى بصورة واضحة وجلية فيما بعد عندما يقف المجتمع عاجزاً عن تطبيق إرشاد بسيط متعلق بأخلاقية حضارية ينبغي أنها بديهية ولا تحتاج التركيز عليها كونها تقع ضمن أدبيات المعرفة الفردية، والتي يكتسبها الفرد من خلال المحيط الذي يعيش فيه كونه كائن مقلد يعيش ضمن جماعة ولا يعيش منعزلاً بمفرده، ومن هنا نجد أن أي انحراف تقوم به هذه الخلية الأولى يعني أن الانحراف وقع قبل أن تصل النتيجة لهذا المآل، مما يستدعي تدخلاً متراكباً معقداً للقيام بترشيد أي انحلال أو انحراف أو حتى شذوذ غير طبيعي على الطبيعة البشرية التي تتمتع بسمعة حسنة تجعل منها أعلى شأناً من بقية الكائنات كونها تمتلك العقل كمرجعية لمعظم أفعالها و تصرفاتها.
ميادين الفساد في المجتمع ـ أي مجتمع ـ متعددة ومتشعبة وأخطر درجاته تتجلى في تنامي ظاهرته على وجه يبرر الحديث عن ثقافة التنصل من المسؤولية تجاه أفراده وترك اللوم يقع عليهم لوحدهم دون أن يدين آلياته المتعثرة في حل الكوارث الفردية التي تؤثر بشكل مباشر على أمنه بدرجة لا يمكن إهمالها لأنها متجذرة وبشكل مترابط مع بقية مصالح الأفراد والجماعة.
إن غياب مفهوم أثر الوعي عن عقلية المجتمع للقيام بواجباته كمشارك لبناء الثقة للفرد بمنظومته الاجتماعية لهو انتقاص من أهلية أي مجتمع يقود أفراده باتجاه طريق النجاة بعيداً عن أي خلل أو تقصير ينجم عنه لاحقاً أضرار جسيمة بمعظمها تكون غير قابلة للإصلاح أو حتى أن إعادة تأهيلها تستلزم جهداً ووقتاً وأموالاً كانت لتصرف في اتجاه تنموي وتطويري آخر لو تم إمعان النظر إليها مبكراً وإيلائها ما يناسبها من حلول صغيرة لا تحتاج معها بعدها للحلول الاسعافية اللاحقة ذات الكلف الكبيرة والتي تكون غالباً في حالة متأخرة يصعب علاجها.
لا يمكن النظر بعد الآن إلى وقوع مصائب كبيرة يقوم بها بعض الأفراد دون النظر في خلفيات البيئة الاجتماعية التي كانت حاضنة لألئك الأفراد ولعل نظرة عن كثب لكفيلة بترجيح وجود قصور اجتماعي كان سببه هذا الجنوح الفردي بشكل أو بآخر بل ولعله العنصر الحاسم في الموضوع.
إن أمعنا النظر في امتلاء السجون واكتظاظها بروادها لوجدنا أن هذا دليل مباشر على قصور فاعل للمجتمع عن صيانة أفراده من زيارة هذا المكان البائس بدلاً عن تحويلهم لأفراد فاعلين وعاملين في سبيل تطوير مجتمعاتهم ورفعتها وهذا يعني تخلياً مباشراً من مجتمعاتهم عن توجيه قدراتهم الكامنة أو حتى عدم القدرة على حل مشاكلهم المتأزمة التي تعالج بطريقة غير صحيحة بمعظم الأحوال وتؤدي لهذا المآل.
لو شرحنا إجتماعياً مشكلة تزايد ما يطلق عليه الدعارة السرية لوجدنا أن هناك معايير تغاضى المجتمع عن محاربتها فأوصلته لما يحدث قسراً كنتيجة حتمية لفساد كبير سبق الوصول لهذا المرض الشنيع من مثل عدم وصول المفهوم الاجتماعي لتسهيل مفهوم الزواج بل تفاقمه باتجاه المادية والطبقية البغيضة فينتج لدينا جيل ضائع يؤمن أن الركون لمجتمع لا يستطيع القيام بمهامه هو أمر لا يستحق التأمل فيه ويكون البديل منحرفاً ويقدم صورة تائهة لمجتمع لم يرشد أفراده باتجاه تحقيق غرائزهم بطريقة طبيعية وشرعية وأما عن حالة استسهال رمي الفتيات في أحضان الرذيلة بغية تأمين ضروريات الحياة لهو مؤشر بالضرورة لغياب فاضح ومهين لمفهوم التكافل الاجتماعي والذي هو حصن الأمان لأي أمراض كارثية متقرحة قد ينتج عنها لاحقاً لا يستطيع المجتمع الاحاطة بها لانتشارها وسط أفراد قانطين من مجتمع أهملهم وأضحوا مقتنعين أنهم لولا كونهم منبوذين أصلاً لما وصولوا لما هم فيه وأن آلية الترابط الاجتماعي ذا النسيج الواحد هي آلية كاذبة ومحنطة وتستدعي التنصل منها وعمل أي شيء من الممكن أن يجعله يدفع الثمن بردات فعل تصل بالمجتمع ليدفع ثمن أخطاء تنصله من واجباته.
لعلّ البعض هنا يجد أنني كنت قاسياً تجاه المجتمع وأنا أعلم علم اليقين أن هذا المجتمع الذي نعيش فيه هو مجتمع تعوزه القدرة على التعامل مع الأمر الواقع لأسباب منها غير ذاتيه ومنها ما هو بات للأسف يشكل مفهوم التسيب في الوعي عند الأفراد بسبب التراكم في إهمال التداول مع الشأن العام واعتبار المحيط الذي نعيش فيه شأناً خاصاً تزداد الهجرة باتجاهه يوماً بعد يوم.
المطلوب منا اليوم كأفراد أن نؤسس فكراً جمعياً خيرياً غير متطلب أو متكلف ومتعلق بشأن الربح والخسارة خاصة عندما يكون التعامل سبيل الشأن العام وفي مصلحة الجماعة وأن نربي هذا الشعور في ضمائر أبنائنا وبناتنا والمحيط الذي نعيش فيه فنحن جميعاً نعيش في ذات المركب وهذا المركب لا يمكن أن يصل لبر الأمان وفيه ما فيه من كل مؤثرات التقهقر والتراجع والارتداد باتجاه الوراء.
ساحة النقاش