من أين يأتينا الخطر؟ [3]
د.حسن يوسف الشريف – يقظة فكر
ضرورة تحرير العقل:
إن الخطوة الأولى لإنقاذ العقل من دائرة الخطر ليحسن رؤية الواقع كما يحسن مواجهته وليخرج من ضعفه ويستعيد قوته هي الجدية الواعية لتحريره من سيطرة الشهوات والعواطف عليه.
لا ننكر أن نفوسنا قد استولت على عقولنا, وواجب المرحلة هو الإعداد لحرب مشروعة تهدف إلى تحرير عقولنا من احتلال نفوسنا لها, ومظاهر احتلال نفوسنا لعقولنا كثيرة، ولكن أهمها هو جموح الشهوة والعاطفة، جموحاً يحجب عن العقل إدراك الواقع واكتشاف المخاطر، كما يحجب عنهم فهم كيف يواجه هذه المخاطر الواقعة؟ ومن المعروف أن هناك تضاد بين “الشهوة والعاطفة”، وبين “تخطيط العقل وتدبيره” أي أن هدف الشهوة والعاطفة هو إلغاء أو القضاء على تخطيط العقل وتدبيره, وهذا هو سبب التوتر الدائم بيين الطرفين.
وليس الهدف من هذه الحرب القضاء على الشهوة والعاطفة، ولكن الهدف إقناعهما من خلال الدليل والبرهان على أنه من صالحهما القبول بقيادة العقل؛ لأن العقل كالعالم الناصح (نصحه: أرشده إلى ما فيه صلاحه), والشهوة والعاطفة كالطفل الجاهل فهو قليل العلم، وقليل الفهم، وقليل الخبرة، كما أن العقل ينظر إلى النتائج من وراء كل عمل، بينما الشهوة والعاطفة متهورة تندفع لفعل كل ما أرادت بغض النظر عن نتائجه إن كانت خيراً أو شراً, ولهذا كله فلابد من أن تكون القيادة فى حياة الإنسان لعقله وليست لشهوته أو عاطفته؛ لكي نرى الواقع كما هو بلا تقليل أو تهويل، حتى نستطيع رؤية أهدافنا ونتحرك لتحقيقها.
احذر خداع النفس:
لقد طالت فترة حبس عقولنا فى سجن نفوسنا، فكفانا هزائم وكفانا خسائر, فلنحرر عقولنا من أسر نفوسنا حتى نسترد ما خسرناه ونصلح ما أفسدناه, وقولنا هذا يؤيدنا فيه الفيلسوف الأديب الدكتور (زكى نجيب محمود) حين قال: “إنى لأزعم بأن متوسط الفرد من أبناء الأمة العربية في عصرنا يفلت من يديه زمام العقل, فتجمح عنده الشهوة والعاطفة جموحاً يحجب عنه رؤية الأهداف واضحة، ومن ثم فهو يسد أمامه سبل الوصول”
وحينما تعلم بأنك جاد في خوض معركة تحرير عقلك منها, فستحاول التظاهر بأنها تريد أن تعْقد معك معاهدة سلام, وفى الحقيقة ليس سلاماً، وإنما هي هدنة تحاول فيها تعزيز ما أحلته من مواقع وزيادة تسليح وحشد القوى لتنقض عليك على حين غفلة, بالضبط كما فعلت وتفعل إسرائيل مع العرب.
احذر أن تخدعك نفسك فما أكثر وسائلها الخادعة وحيلها, وستستخدم معك أدلة الحق، وتريد من ورائها أن تحقق لها أهدافاً باطلة، فستذكر لك الدعوات التي جاءت بالرحمة في القرآن والإنجيل، من أجل أن تتركها وشأنها من طمع في حقوق الآخرين واستغلالهم والتكبر عليهم واحتقارهم وظلمهم, فإذا قلت لها هذا الذي تريدين حرام في شريعة القرآن والإنجيل, فتقول لك: “إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”، فقل لها: أن هذا هو مذهب أنصار مذهب (دارون) الذين ينادون بأن الإنسان أصله حيوان, أما أنا فليس أصلى حيوان إنما أصلى إنسان آدم وحواء.
ستحاول خداعك بأن عصرنا لا يناسبه ما تطالبها به من قيم وأخلاق، ومن ضرورة التحكم في أهواء النفس وضرورة التفوق على الذات، فقل لها أنتِ تتكلمين بثقافة وسلوك الغرب، بينما أنا وأنت نعيش في بلاد الشرق، وبالتحديد في العالم العربي الذي نزلت عليه شرائع السماء، التى تطالبنا بالتحكم فى أهوائنا وصفاء نفوسنا، وهذا ما عملت ثقافة الغرب المعاصرة على هجره، ويطالب عقلاء وعلماء الغرب بضرورة العودة إليه, كما ذكره (جان مارى بيلت): “لماذا لا نسعى إلا إلى التحكم في التقنيات ولا نسعى قط إلى التحكم فى أهوائنا؟!“… تلك مهمة يجب المبادرة إلى إعادة تجديدها, مهمة تتمثل في اكتشاف ما فيه خيرنا، وما ليس فيه أذى للآخرين, وتحقيق حرية الفكر وصفاء النفس الذي توليه التقاليد الشرقية مكانا أثيرا” .
احذر أن تخدعك نفسك فهي تحب الكلام وتكره العمل, تحب أن تأخذ وتكره أن تُعطى, تحب أن يمدحها الناس ولو بغير حق وتكره أن ينتقدها أحد ولو بالحق، كما أنها تعشق الترف والرفاهية وعبادة ذاتها ومصالحها, وتفر من الجد وبذل الجهد ومقاومة الشر ومجاهدة الباطل، وكيف تقاوم الشر والباطل وهى من جنودهم؟! لذا سيحتج الشيطان يوم القيامة على من يتهمونه بأنه سبب دخولهم النار فيقول لهم (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)، بل وسيعترف أهل النار بذنبهم الكبير وهو عدم سماعهم لنصائح شرائع السماء بتحرير العقول حتى تحسن التفكير “وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم” .
احذر نفسك أن تخدعك فتتظاهر لك بأنها لك مؤمنة بكل ما أنت به مؤمن, فإذا دعوتها للعمل بالمبادئ التى تدَّعى أنها تؤمن بها حاولت الهروب من العمل بها, لأنها تهوى الكسل والتواني والتسويف, فإذا أحرجتها، قالت لك: سوف أفعل بهذه المبادئ غداً.. أو قريباً.. أو في الوقت المناسب, إنها تريد إقناعك بأن المبادئ تقبل الحصول على أجازة مفتوحة من العمل بها.
احذر نفسك, فهي تريد إقناعك بعدم ضرورة استشارة العقل, وأن الأغبياء الذين يملكون المال هم سادة عصرنا، ومتخذو القرارات فيه, فقل لها: إن هؤلاء يتجهون بالعالم نحو الانتحار, ونحن نعمل لوقف مسيرة العالم نحو الانتحار.
إنها تريدك أن تفقد الثقة في عقلك, لأنها تكره استشارتك له, فالعقل ناصح أمين, وتكره الناصح الأمين, إنها تكره أهم ما نحتاج إليه لحل مشاكلنا وأزماتنا, إنها الأمانة التي فقدناها في شئوننا السياسية والاقتصادية؛ فأصبح تولى المسئوليات لمن يبرق اسمه من أصحاب الجاه والمال هذه هي مؤهلات الوصول, ولا مكان للعلم والكفاءة والأمانة، “كل ما حولنا يطرح علينا أسئلة خطيرة وكثيرة, وكل إجابة تكون نسبة الأمانة فيها ضعيفة تكون حتماً إجابة مضللة، تضللنا نحن قبل أن تضلل غيرنا, وتبعدنا نحن عن الصواب الذي نحتاج إليه, هذه من أخطر مشاكلنا” .
احذر خداع النفس, فستحاول تضليلك وتلبيس الأمور عليك, فستريك الحق على أنه باطل وستريك الباطل على أنه حق, وستحاول إقناعك باللامعقول ورفضك للمعقول, وستحاول تشكيكك في الثوابت الراسخة في الشرع والعقل, وهى محاولات كثيرة وغالباً ما تنجح مع عابدى الهوى الجاهلين بالتعاليم الربانية.
إن تحرير العقل من ضغوط النفس وسيطرتها يحتاج منا إلى أن نقدم للعقل الغذاء والدواء المستمد من ثقافتنا وهويتنا وتاريخنا؛ حتى يتماثل للشفاء فيتحرر من سيطرة النفس عليه، فتتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتتقدم القيم والمبادئ على المصلحة أو المنفعة، ويخرج من عبادة ذاته إلى العمل لخير الجماعة والوطن، ويعيش هموم الآخرين ويعمل لدفعها عنهم بقدر طاقته.
ولا شك أن خوض الحرب من أجل تحرير العقل ستكلفنا الكثير من التضحيات، ولكنها تضحيات تهون أمام المكاسب الضخمة التي سنجنيها من تحرير عقولنا من أسر نفوسنا، ومن هذه المكاسب”اليقظة من الغفلة” أو”الانتباه من تخدير التفكير, وتحدي الهزيمة النفسية”.
ساحة النقاش