كيف نواجه المخاطر؟
د. حسن يوسف الشريف – يقظة فكر
إن مواجهة المخاطر التى تحيط بأمتنا تحتاج إلى صحوة العقل وإلى التفكير الرشيد.
فالتفكير الراشد هو الصفة الوحيدة التى تميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية الأخرى، واللسان هو الذى يبين ما فى داخل العقل من صور فكريه، فالإنسان لا يتحدث إلا معبرا عما فى ذهنه، ولا يتحرك إلا طبقا لما تكون فى العقل من صور فكرية. ولكن من أين يستمد العقل هذه الصور الفكرية؟ هل يملك مخزونا من هذه الصور الفكرية خلقه الله معه ليستعين بها على ضبط وتوجيه نشاط الإنسان؟ والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون ذلك، لأنه لو كان هذا صحيحا، لأصبح الإنسان مسيرا يلتزم بما خلقه الله فيه، ويترتب عليه إلغاء إرادة الإنسان وإعفاءه من المسئولية، لأنة لا يعمل – لو كان هذا صحيحا – إلا طبقا لما يملى عليه.
وهل يستطيع العقل أن يكون هذه الصور من لا شيء؟ بالطبع لا. إذ يستحيل على مخلوق أن يكون شيئا من لاشئ لان الله وحده هو القادر على الخلق من العدم. فإذا كانا هذين الاحتمالين غير ممكنين، فمن أين يستمد العقل هذه الصور الفكرية التى تصدر عنه؟، يستمدها من البيئة التى يعيش فيها، ومن أولى المصادر أبواه ثم الأقارب والمجتمع والمؤسسات الثقافيه كالمدرسة والجامعة ووسائل الاعلام.
وتلعب المؤسسات الثقافية دورا هاما في تكوين فكر المواطن، فهي التى تشكل اتجاهه الفكري، وتعمق ولاءه العقدي، وتقوى انتماءه الوطني. ولهذا يجب أن يشترك في وضع المناهج الدراسية: التربويون ورجال الدين والاجتماعيون وخبراء العلوم التطبيقية والتجريبية ومهندسو التكنولوجيا يجميع فروعها، والفلاسفة وعلماء النفس وعلماء التاريخ وخبراء المال والاقتصاد وعلماء الإدارة، حتى يراعى فيها العناصر التي تكوّن المواطن: دينيا ونفسيا وعلميا وتطبيقيا وإداريا، وتؤهله تأهيلا عصريا يمكنة من التعامل مع معطيات العصر ومتطلبات حركة التغير وعلى جميع الأصعدة المادية والمعنوية، لأننا لو ركزنا على الجانب الروحي المعنوي فقط، لخرج المواطن من هذه المدرسة خياليا، لا صلة لفكره بواقع الحياة، فيتخلف المجتمع عن ركب الحضارة والمدنية، ويقع فريسة للطامعين والمستغلين ممن ملكوا زمام التقدم التقني.
كذلك لو خلت المناهج من الجانب الديني، وتجردت من المعالم الأخلاقية، لانحرف المواطن انحرافا كليا إلى عالم المادة، وتصرف مع نفسه ومع الآخرين تصرف الحيوانات المفترسة، لأن ما غرس في فكره مادي بحت، فهو لا يتلقى منه إلا الصور المادية التي لا تهتم إلا بمقياس المكسب والخسارة المادية، فتضيع العلاقات الإنسانية، ولا يكون المصير إلا الهلاك والدمار.
كما يجب أيضا عدم وصول المغرمين بكل ما هو أجنبي إلى مراكز التوجيه في هذه المؤسسات التعليمية أو الإعلامية، حتى لا يستخدموها في نشر الفكر الأجنبي والثقافة المستوردة وإضفاء السيادة والتفوق على التقاليد المستحدثة، غير عابئين بما يجر ذلك على المجتمع من زلازل واضطرابات اجتماعية تهز كيانه، وتفتت وحدته، وتضفي عليه ثوب الاغتراب الاجتماعي والثقافي ليصبح مجتمعا عديم الهوية فاقد الذات.
نخلص مما سبق إلى أن: الأسرة والمجتمع والمؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية هي المسئولة عن تعمير أو تدمير العقل العربى والمسئولة عن إيقاظ أو تخدير التفكير العربي والمسئولة عن تجهيله أو تضليله، فهي إما تكون مجتمعا سليم التفكير قوي الإرادة، متين الأخلاق محبا لوطنه حريصا على خدمته ساعيا لعزته وكرامته، أو تكون مجتمعا سيئ التفكير ضعيف الإرادة مادي النزعة، فاقد الولاء لوطنه، غير معتز بهويته جاهلا لتاريخه وحضارته، مبهورا بكل ما هو أجنبي. وعند ذلك يكون الاستعمار الجديد قد نجح نجاحا ساحقا في احتلال عقولنا وإراداتنا، وهو احتلال أخطر من الاحتلال العسكري لأرضنا ومواردنا الاقتصادية.
لقد أصبح الدخول الفاعل إلى الألفية الثالثة (عصر العولمة) ليس بما تملكه الدول من مصادر الثروة، ولكن بما تملكه من عقول واعية فاعلة؛ لأن المال إذا أصبح فى ملكية عقل سفيه لا يحسن التفكير فربما تحول هذا المال إلى وسيلة تدمير لا وسيلة تعمير، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين قائلا: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم”، والمشكلة الخطيرة التى يعاني منها العقل العربي في واقعنا المعاصر هي مشكلة “ضعف فاعلية العقل” والحقيقة أن هذه “المشكلة الأزمة” تلاحقنا فى كل الميادين: السياسية والاقتصادية والعلمية و….
نظرة سريعة لحصاد القرن العشرين والذي رحل قريباً، تريك مدى الخسائر التي حصدناها، وقلة المكاسب التى حققناها، حتى مكاسبنا لم نستطع الاستفادة منها فجامعة الدول العربية كرمز سياسى لم تحقق أي فاعلية في أي المجالات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو العسكرية، بينما حلم الوحدة الأوربية تحول إلى واقع ملموس: برلمان أوربي وحدة اقتصادية وصلت إلى توحيد العملة “اليورو” وقوة عسكرية عظمى.
إن فاعلية العقل العربى التى نرجوها لا تقف عند حد إدراك حقيقة الواقع بل الأهم منه وجود “إرادة التغيير” لهذا الواقع إلى الأفضل والأقوى، إنه لابد أن تجمع فاعلية العقل بين القوة في إدراك الحق والقوة في تنفيذه، إن الله عز وجل مدح إبراهيم واسحق ويعقوب بجمعهم لهاتين الصفتين فقال عنهم: ” أولى الأيدي والأبصار”، وقال ابن القيم في تفسيره لها: أولى القوة في تنفيذ الحق والقوة في إدراك الحق.
ولكن للأسف يوجد فيما يبدو عند كثير من العرب في واقعنا المعاصر عدم اهتمام بالعقل وقيمته، وكأنه جهاز لا يحسنون تشغيله لقد ملكوا البترول والمال والموارد البشرية والطبيعية ولم يستفيدوا من كل ذلك، وأصروا على أن يستمروا فى زمرة العالم المتخلف، وسافرت كفاءتهم العلمية إلى الخارج حينما لم تجد الفرصة، أو حينما اضطرت إلى الهجرة لظروف أمنية، لأنهم كانوا في صف المعارضين لفساد الأنظمة الحاكمة، ولا نبالغ كثيرا إذ قلنا إن العقل العربى المعاصر تعود الكسل العقلي وأصيب “بالكساح الفكري” وبقصور الرؤية العقلية، لذلك فالعقل الكسول لا يخلص لفكرته ولا يصبر على تحقيقها، فالإخلاص والصبر هما من أهم صفات العقل الفاعل. “الإخلاص والصبر هما صفتان للعقل، وهما أثران لإيمان العقل بقيمته وشعوره بوقاره، والعقل حين يفقد إيمانه بقيمته يفقد وقاره، ويفقد معهما فضيلتي الإخلاص والصبر، والملاحظ أن العقول الجيدة ليست فقط الأكثر حدة ونفاذا، ولكنها أيضا أكثر إخلاصا وصبرا، لأنها أكثر إيمانا بقيمتها وإحساسا بوقارها وكرامتها” . (معالم التقريب، محمد عبد الله المحامي، كتاب الهلال (459) مارس 1989، ص 94 )
ويلعب التعليم دورا مهما في تفعيل العقل ويقظته بالإضافة إلى الأسرة والمجتمع والإعلام، كما يلعب الإيمان أهم الأدوار فى إيقاظ العقل لأداء وظيفته في إصلاح النفس وإصلاح الحياة.
والواجب على المهتمين بالتربية أن يركزوا جهودهم في تكوين ” قاعدة صلبة” في قلب المجتمع وبهذا تساهم فى التأثير فيه ونقله من وضع ” الغثائية والضعف” إلى ” التماسك القوي” واليقين التام بمبدأ ” التواصي بالحق والتواصي بالصبر” ، قال الإمام محمد عبده: (من يريد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية) ، حتى نكون أمة صاحبة مبادئ وقيم ، تحسن مواجهة الصعاب والمحن وتستطيع تحقيق رسالتها في الحياة مهما كانت التضحيات، لأنها تعلم أن تحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج إلى إرادة قوية وتضحية عظيمة .
وبهذا نصل إلى تكوين المجتمع القادر على مواجهة المخاطر التي تحيط به ثم التغلب عليها.
ساحة النقاش