من أين يأتينا الخطر؟ [2]
د.حسن يوسف الشريف – يقظة فكر
إن دراسة التاريخ لا تعني معرفة أحداثه بأشخاصها وزمانها ومكانها وملابساتها، وإنما دراسة التاريخ تعنى الدروس المستفادة من كل أحداثه بسلبياتها وإيجابياتها، فإذا مررنا في حياتنا بأحداث تشابه ما مضى من تاريخنا ولم نسترجع دروس الماضى لنستفيد منها في الحاضر فكأننا لم نتعلم من دراسة التاريخ شيئاً.
لقد تعلمنا من التاريخ أن الوحدة قوة والتفرق ضعف, وأن النصر مع الصبر, وأن قوة الإرادة تهزم قوة السلاح مهما طالت المعركة, وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسْترد إلا بالقوة, وأن الحقَّ من غير قوةٍ ضعف, وأن الاحتلال الخارجى لا يتم لشعبٍ إلا عند ضعفه واختلاف أفراده وتفرقهم, وأن من يتعاون مع الاحتلال فهو خائن لوطنه وأمته، وأن الاحتلال لا يخرج إلا تحت قوة الجهاد والقتال, وأن الأمة التي لا تزرع ما تأكل لا تملك قرارها, وإنما قرارها بيد من يبيع لها الغذاء, وأن قوة اشتعال النزاعات المذهبية والطائفية داخل أي أمة إنما تغذيها يد أجنبية شعارها “فرق تسد”.
إن أمة لا تعرف تاريخها بانتصاراته وهزائمه، وأسباب نصرها أو هزيمتها, هى أمة تسير في طريقها نحو الخطر, وسياسيون لا يعرفون تاريخ أمتهم فهم أطفال فى موضع القيادة, ومن الخطورة الكبرى أن يتولى الأطفال قيادة أمة؛ لأنه مكتوب على من لا يقرأ التاريخ أن يعيش طفلاً.
والكارثة الكبرى حينما تُصاب طبقة النخبة بعمى الألوان الفكرى فترى تاريخ أمتها من خلف نظارة سوداء، فتتنكر لتاريخها وثقافتها وحضارتها، وهؤلاء هم في الحقيقة عملاء ووكلاء الاحتلال فى بلادنا, الذين لا يكلون ولا يملون ليل نهار من دعوتنا إلى أن ندور في فلك التبعية للقوى العظمى الأجنبية، تحت ستار الحداثة والتحديث والتطوير والتنوير.
ماذا تقول عن زعيم عربي كبير حين تسمعه يذكر بأن قدوته السياسية “كمال أتاتورك” هل “يجهل” هذا الزعيم أن كمال أتاتورك هو الذي قطع وحدة تركيا مع العرب التى استمرت خمسمائة عام، ثم عمل بكل قوة لتكُون تركيا جزءاً من أوربا سياسياً واقتصادياً؟!! هل يجهل هذا الزعيم العربي أن كمال أتاتورك حارب اللغة العربية في تركيا لتقترب من أوربا وتبتعد عن العرب؟!! يكفى أن الوثائق السرية التى كشف عنها الاستعمار تمدح بقوة أفعال أتاتورك المشينة فى حق أمته وثقافتها وتاريخها وحضارتها، والتي هي جزء من ثقافة وتاريخ وحضارة العرب.
إن بعض النخبة في العالم العربي هي التي أشعلت معركة التقاليد لنترك عاداتنا وتقاليدنا وأخلاقنا ونأخذ عن الغرب عاداته وتقاليده وأخلاقه.
إن النخبة المبهورة بالغرب تدعونا إلى تمجيد الاستعمار ..
إنها تدعونا إلى الاحتفال بالاحتلال “…هذا الكلام حقيقة لا خيال…”، في سبتمبر 1997 تواترت فصول معركة بين فريقين في مصر حول الاحتفال بذكرى مرور مائتي عام على الغزو الفرنسي لمصر, وربما تكون المرة الأولى في التاريخ التي يحتفل فيها شعب بذكرى احتلاله وانقسم الناس إلى فريقين: فريق مؤيد للاحتفال وفريق معارض يرى أن الاحتلال الفرنسي لمصر كان لنهب خيراتها وانتهاك مقدساتها متمثلة في اقتحام الأزهر بالخيول والمساس بالكرامة الوطنية بأشكال متعددة, وقد أدت السجالات الحادة بين الفريقين إلى تعديل برنامج الاحتفال الذي تضمنت الصيغة الأولى لبرنامجه: أن الغزو الفرنسي لمصر وضع مصر على أولى عتبات نهضتها الحديثة ولولاه لتأجلت معرفة المصريين بالكثير من قيم التقدم لسنوات طويلة “إلى شعار آخر للاحتفال هو “عام فرنسا في مصر وعام مصر فى فرنسا”, ولما زادت حدة المعارضة للاحتفال باحتلال مصر تغير شعاره ثالثاً إلى “مصر وفرنسا: آفاق مشتركة”.
وفى سياق السجال أعيد طبع كتاب “الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر” للمفكر الأمريكي (بيتر غران) الذي يؤكد أن الحملة الفرنسية أضرت مصر ضرراً بالغاً على أكثر من صعيد، وتركتها أكثر تخلفاً وتبعيةً للخارج مما كانت قبل مجيئها, كما أعيد نشر كتاب “المخطط السري لغزو مصر” للدكتور (أحمد يوسف) أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة, ويتضمن الكتاب وثيقة تُنشر لأول مرة وهي عبارة عن رسالة بعث بها الفيلسوف الألماني (ليبنير) إلى (لويس الرابع عشر) ملك فرنسا يحضه فيها على غزو مصر وينبهه إلى فوائده, كما أعيد نشر كتاب “ودخلت الخيل الأزهر” للكاتب (جلال كشك) ويهاجم فيه وحشية الاحتلال الفرنسي ويفضح مزاعم التنويريين بشأن هذا الاحتلال الفرنسي لمصر.
وبدأت تتغير بعض وجهات النظر عند مشجعي الاحتفال من المصريين التنويريين، بل أن الجانب الفرنسى أكد على أن هدف الاحتفال توطيد العلاقات الثقافية وليس تمجيد ذكرى الغزو الفرنسي, وبالفعل بدأت فى مساء 29 من سبتمبر 1997 وقائع الاحتفالية متضمنة مائة نشاط ثقافي في مدن فرنسية ومصرية على أن يصدر فى نهايتها دليل عام يعرِّف بالمعارض والمنتديات الثقافية والحفلات ويقوم بتحريره فريق من المخصصين وتموله فرنسا، وكما يقول الصحفي الفرنسي (فكتور فوكييه): كان من الأولى أن يتم الاحتفال بذكرى جلاء الاحتلال.
واستمرت ردود الأفعال المعارضة للاحتفال بمرور مائتي عام على الحملة الفرنسية على مصر، وخاصة المصريين الوطنيين والمتخصصين في دراسة التاريخ الفرنسي وكان منهم الدكتورة (ليلى عنان) أستاذ الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة والتي جاءت دراستها “الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير” لتبصر القارئ العربي بما قيل عن الحملة الفرنسية عند أهلها, وكيف تحولت إلى أسطورة وجدت من خلال أقلام المبهورين بها من الأدباء والمؤرخين مناخاً نشأت فيه وترعرعت نظراً لأن (بونابرت) قد جعل من نفسه أسطورة بحيث أصبح كل ما يمسه أو يحكى عنه أسطوريا, خاصة أنه جاء من ثورة كان عصرها عصر الأساطير.
لقد أكدت الدراسة على نقطة واحدة وهى دراسة أسطورة الحملة الفرنسية على مصر عند الفرنسيين أنفسهم, وهذا الكتاب هو الجزء الأول وضعته الباحثة (ليلى عنان) لتعرف القارئ العربي المناخ الذي انبعث منه فكرة الاستيلاء على مصر بعد أن هجمت حكومات الثورة الفرنسية منذ 1792 على جيرانها من الدول المجاورة، بحجة نشر مبادئ ثورتها العظيمة، ثم التعرف على ما قاله شهود العيان للحملة قبل أن يتحول كل ما يمس (نابليون) إلى أسطورة مشرقة.
وقد قامت بنشره دار الهلال -القاهرة- كتاب الهلال العدد 567 مارس 1998، ثم أصدرت الباحثة الجزء الثاني من دراستها تحت عنوان “الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ” قامت بنشره أيضاً دار الهلال أكتوبر عام 1998، وهو أكثر أهمية للمثقف المصرى من حيث ارتباطه مباشرة بالحملة الفرنسية على مصر ووقائعها, وقد ركزت الباحثة على دحض فرية خطيرة وهى ما يدعيه بعض أدعياء الاستنارة من أن الحملة الفرنسية جاءت لإخراج مصر من “الظلمات” إلى ” النور”، ويتضح أن شهادات الجميع من فرنسيين وبريطانيين وأمريكيين ومصريين وغيرهم تتحدث عن الحملة التى جاءت لاحتلال مصر؛ لنهب ثروتها ومحاربة بريطانيا عن طريقها, والكتاب دعوة للمتغربين أن يعرفوا تاريخهم ويعتدوا بحضارتهم لا بحضارة الغرب.
صفعة على وجوه التغربيين حيث ينتقد (مارك فيروز) في كتابه الشهير “كيف يُحكى التاريخ للأطفال؟” ينتقد التاريخ الأوربي الذي لا يهتم بالبلدان إلا إذا دخلت في نطاق الاهتمام الأوربي فيقول:”فكأن الغرب يعتبر أن الشعوب التي لم تمتزج بالحضارة الغربية لا تاريخ لها!”، وهذا ما يردده أتباع ودعاة التغريب في أوطاننا العربية.
ساحة النقاش