أنعى إليكم .. أمى

القبلة الأخيرة

بقلم: طاهر البهى

جئتك معتذراً يا أمى .. دخلت حيث أشاروا لى فى الغرفة المتسعة، متباعدة الأركان .. تحيط بها شحنات من الهواء البارد .. قالوا لى: الق عليها السلام .. ولكنها حتى الآن لاتظهر لناظرى .. فجأة خرجت من بين الأدراج .. أراها بوضوح، نائمة مطمئنة، تميل برأسها إلى جهة اليسار .. ترتدى كامل ملابسها التى طالما رأيتها عليها، حتى ساعتها الدقيقة الأنيقة، التى كانت تبذل بعض الجهد للتعرف على أماكن عقاربها، مازالت فى معصمها لم تتوقف، تنتظر أن تنظر إليها أمى لتحسب كم من الوقت بقى على موعد الصلاة التالية..

عيناها مغمضتان، مطمئنتان .. مشهد اعتدت أن أراها عليه وأنا في حضرتها، وكانت تعتذر بلا تكبر، ونحن نتحدث سوياً أو نشاهد البرامج التليفزيونية التى تحبها - قبل أن تباعد بيننا الظروف - كانت تغفو بفعل الكبر والوهن والاستيقاظ المبكر للصلاة، بنفس اطمئنان الجفون، ناديتها ولم تلتفت إلىّ .. وتدخل أحد الرجال الغرباء وربت على كتفى، لعله توقع أن يكون قد ذهب عقلى .. أعدت النداء ولم تلتفت .. ظننتها على خصام معى .. فانحنيت أقبل يدها اليمنى .. أعتذر، ربما تصفح عنى وتغفر لى تقصيرى معها .. قلت لها: ألم أكلمك أول من أمس، وقلت لى: أنا عمرى ما أزعل منك ياحبيبى» .. نعم .. كنت تنادينى «حبيبى».. «مابتكلمنيش ليه ياحبيبى» .. «أتأخزت على ياحبيبى»..

ألست أنا حبيبك؟ إذن لماذا لاتردين على ندائى، استمررت فى حركتى المتلهفة وأمسكت يدك المثلجة، فطبعت قبلة كنت أتمناها منذ وقت طويل، ولكنك هذه المرة لم تسارعى بسحب يدك، وحمدت الله على ذلك، أريد أن أرمى كل ذنوبى تجاهك .. ولو كان المقابل بسيطا: مجرد قبلة على يدك، وأنت التى كنت تغفرين بلا مقابل .. «قلب الأم دايماً مسامح ياحبيبى».. ولكن لماذا يدك مثلجة وكذلك جبينك، اختلست نظرة إلى أذنك لعلها تقول لى: «سامعاك ياحبيبى»، وإذا بها خالية من الدماء تماماً..

أمى رحلت..

هذا ما كنت أرفض أن أصدقه .. رحلت بعد ساعات من المكالمة الأخيرة بيننا وهى تذكرنى بأنها دائمة الدعاء لنا .. الأشقاء والأبناء والزوجات .. ثم قالت فجأة: «خلاص ياحبيبى .. العمر خلاص .. الحمد لله على كده .. أنا كبرت .. البركة فيكم .. ربنا يحببكم فى بعض ويحبب فيكم خلق الله..»

قلت لها، وأنا أكتم دموعى: إيه ياحاجه .. صلى على النبى».

فترد أمى: جَّمد قلبك ياحبيبى .. بس افتكرنى بالفاتحة وخلَّى بالك من صحتك» .. ولم أكن أعلم أن إلهامك هو الذى يتحدث، وإلا ما كنت أنهيت المكالمة .. الآن أتذكر أن حركة لا إرادية منى أو منها أنهت المكالمة .. لعلها كانت تبكى، ولعلنى كنت أيضاً أبكى، ووجدتنى أعيد طلبها مصراً على الدردشة فى أمور أخرى تحبها، مثل حديث عن ابنتى الصغرى التى تحلو سيرتها عند أمى.. وبعد ساعات جاءنى النبأ الحزين المباغت .. خفق قلبى .. الكل يعرف قدر المصيبة .. ثم تدرج فى إعلان الخبر .. ليطير الهاتف فى الهواء، وأذهب إلى حيث أنت مسجاة فى ثلاجة بالمركز الطبى العالمى.. وأطبع القبلة الأخيرة .. كنت صادقة تماماً ياأمى فى نبوءتك كعادتك..

 

المصدر: بقلم: طاهر البهي/ مجلة المصور
taheralbahey

طاهر البهي الموقع الرسمي

ساحة النقاش

taheralbahey

الموت حقيقة، بل لعلها الحقيقة الوحيدة على سطح الكرة الارضية، ونحن لا نختلف حول رؤيتنا للحقيقة، فقط نراها من زوايا مختلفة، ولذلك لم أندهش من كثرة التعليقات التي وصلتني من أشخاص عديدين، وملخصها شئ واحد: اننا نشعر بان ما كتبته عايشوه بالفعل. رحم الله امهاتنا وامواتنا جميعا، ولهم الجزاء ان شاء الله على حسن تربيتنا وعلى اننا وجدنا فيهم القدوة الصالحة، ولا نزكي على الله من أحد.وشكرا على مجاملتك الرقيقة.

طاهر البهى فى 19 مايو 2011
AshrafQadah

البقاء لله وحده .. إنا لله وإنا إليه راجعون

taheralbahey

الموت حقيقة، بل لعلها الحقيقة الوحيدة على سطح الكرة الارضية، ونحن لا نختلف حول رؤيتنا للحقيقة، فقط نراها من زوايا مختلفة، ولذلك لم أندهش من كثرة التعليقات التي وصلتني من أشخاص عديدين، وملخصها شئ واحد: اننا نشعر بان ما كتبته عايشوه بالفعل. رحم الله امهاتنا وامواتنا جميعا، ولهم الجزاء ان شاء الله على حسن تربيتنا وعلى اننا وجدنا فيهم القدوة الصالحة، ولا نزكي على الله من أحد.وشكرا على مجاملتك الرقيقة.

طاهر البهى فى 19 مايو 2011

طاهر البهى

taheralbahey
الكاتب الصحفى مقالات وتحقيقات واخبار وصور حصرية انفرادات في الفن والادب وشئون المرأة تحقيقات اجتماعية مصورة حوارات حصرية تحميل كتب الكاتب طاهر البهي pdf مجانا »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

240,189