هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري ,كان رحمه الله رائدا تفسير الأحلام في صدر الاسلام, عُرف بالزهد والورع والتقوى, وكان من المدثين البارعين وأحد الفقهاء المتمكنين
وقد اجتمع على حبه أهل زمانه لما وجدوا فيه من العلم والحكمة والأدب والزهد والتواضع ما جعله يتربع في أفئدتهم ونفوسهم وعقولهم ويحظى بتلك المنزلة الرفيعة.
ولد ؤحمه الله في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (3 هـ = 653م, لذا يعتبر من التابعين, وكل من لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين, وكان إمام عصره في علوم الدين، وقد اشتهر بالعلم والفقه وتعبير الرؤيا.
وكان أبوه مولى لأنس بن مالك رضي الله عنه، وأمه صفية كانت مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وقد أخذ العلم رحمه الله بالسمع من عدد من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله البجلي، وأبو هريرة، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وعدي بن حاتم، وسليمان بن عامر، وأم عطية الأنصارية رضي الله عنهم أجمعين.
كما أخذه أيضا سماعيا من عدد من التابعين منهم: عبيدة السلماني، ومسلم بن يسار، وشريح، وقيس بن عباد، وعلقمة، والربيع بن خيثم، ومعبد بن خيثم، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وعبد الرحمن وأخته حفصة ابني أبي بكر الصديق رحمهم الله جميعا.
وكان رحمه الله قد عددا كبيرا من صحابة النبي صلى اله عليه وسلم فاقوا الثلاثين صحابيا رضي الله تعالى عنهم جمبعا, وروى عنه عدد كبير من التابعين، منهم: الشعبي وأيوب، وقتادة وسليمان التيمي رحمهم الله.
وعن زهده وتقواه وورعه رحمه الله فلندّث ولا حرج, فقد كانت حباته تفيض بالروحانية وتشع بالزهد والورع، كان كثير الصوم والذكر، صومه كصوم داوود عليه الصلاة والسلام, يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدى ولا يتعشى، ثم يتسحر ويصبح صائمًا.
وكان دائم الذكر والدعاء لله ، وكان له سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه في النهار، وكان يـُحيي الليل في رمضان, وليله كان كله بكاء من خشية الله
وكان إذا ذُكر الموت مات كل عضو، وتغيّر لونه واصفر، وكأنه ليس بالذي كان. وقال عنه بكر بن عبد الله المزني: من سرّهُ أن ينظر إلى أورع أهل زمانه؛ فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله ما أدركنا من هو أورع منه
قدوة حتى في السجن
وكان ابن سيرين على قدر من الثراء، وكان له ثلاثون ولدًا، ولكنه ابتلاه الله تعالى بفقد المال والولد؛ فقد توفي أبناؤه جميعًا فلم يبق منهم غير عبد الله.
كما فقد أمواله حينما أصيب بخسارة كبيرة في تجارته، وقد تعرض للسجن في دين ركبه لغريمٍ له، حيث كان رحمه الله قد اشترى زيتا بما يزيد عن أربعين ألف درهم، وعندما لمح فأرة في احداها أبت عليه أمانته أن يطعمه للناس أو يبيع ما تبقى منها, ظنا منه أنّ الفأرة ربما كانت في المعصرة, فأهرق الزيت كله وصبّه على الأرض ولم يبع منه شيئا
وقد ضرب ابن سيرين رحمه الله أروع الأمثلة في الأمانة والصدق وحسن الخلق حتى وهو في سجنه، حيث إنه لمّا حبس في دينه، تعاطف معه سجانه، وأبت على السجان مروءته أن ينام هذا العالم الجليل في جنبات شانه شأن المجرمين، فعرض عليه أمرا في أن يذهب الى أهله في الليل ويعود الى السجن في الصباح ، فما كان منه رحمه الله إلا أن قال بثقة وايمان العالم القدوة : لا والله لا أعينك على خيانة السلطان
وتجلت أمانته وصدقه في موقف آخر تعرض له وهو في سجنه أيضا؛ فحينما حضرت الوفاة أنس بن مالك رضي الله عنه, أوصى أن يغسّله محمد بن سيرين، فلما أتوه في ذلك قال: أنا محبوس ! قالوا: قد استأذنّا الأمير فأذن لك. فإذا به يـُجيبهم بتلك الهمة العالية، والوعي الشديد: إن الأمير لم يحبسني، وإنما حبسني الذي له الحق، فلما أذن له صاحب الحق خرج فغسّله رضي الله عنه .
كان ابن سيرين مثالا صادقًا للمسلم الحق وللخلق الرفيع، وكانت حياته حافلة بالصور الرائعة للأمانة والزهد والبر والتواضع، يقدم في حياته وسلوكه القدوة والنموذج للداعية الواعي والعابد المخلص والصديق الناصح والابن البار والعالم المجتهد والتاجر الأمين.
لقد كان بارًا بأمه شديد اللين والتواضع لها، يخفض لها جناح الذل والرحمة حتى لا يُسمع له صوت بحضرتها ولا يكلمها إلا عن ضعف وخضوع، حتى قال عنه بعض آل سيرين: "ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه إلا وهو يتضرع
تغلب ابن سيرين على محنته بالصبر والإيمان والتسليم بقضاء الله ، فحينما كثرت عليه ديونه لم يقنط ولم ييئس، وإنما كان صابرًا شاكرًا، ووجد في الزهد الدواء لكل داء، ووجد في الذكر والدعاء البراء والشفاء، فخفف من مطعمه حتى كان أكثر طعامه السمك الصغار، ووصل ليله بنهاره في الصلاة والذكر والدعاء.
نال ابن سيرين رحمه الله بورعه وتقواه وأمانته حب وثناء وتقدير الكثير من علماء عصره, وممّن جاءوا من بعده، وشهد له كثيرون بالفضل والزهد والورع والعلم والفقه.
وعن رواياته للحديث حدّث ولا حرج, فقد سمع الكثير من الأحاديث الشريفة عن عدد من الصحابة وروى عنهم، ومما أسند ابن سيرين من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل ناسيًا وهو صائم فليتم فإنما أطعمه الله وسقاه .
وروى أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه. وروى عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هم بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت وقد بلغ عدد مروياته في الكتب التسعة (874) حديثًا.
أما عن مؤلفاته رحمه الله فقد عرفت كلها بالحكمة والزهد، وكان بليغًا فصيحًا في مواعظه، ومن أقواله التي صارت تجري مجرى الأمثال لفصاحتها وبلاغتها، ويسرها: إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره الكلام أوسع من أن يكذب فيه ظريف لا تكرم أخاك بما يشق عليك.. "العزلة عبادة
وعن تفسيره للأحلام , فيعد ابن سيرين الرائد الأول لعلم تفسير الأحلام، وهو أول من أفرد له التصانيف، وجعله علمًا له أدواته وأصوله وقواعده وشروطه.
وقد صنف ابن سيرين كتابين يعدان أساسًا لمن صنّف بعده في هذا الفن وهما: تعبير الرؤيا، وتفسير الأحلام الكبير. وقد طبعا مرارًا.
" شروط تعبير الرؤيا التي يجب أن يكون عليها من يتعرض لهذا الفن، فيقول: "إن الرؤيا لما كانت جزءًا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، لزم أن يكون المعبر عالمًا بكتاب الله ، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيرًا بلسان العرب واشتقاق الألفاظ، عارفًا بهيئات الناس، ضابطًا لأصول التعبير، عفيف النفس، طاهر الأخلاق، صادق اللسان؛ ليوفقه الله لما فيه الصواب ويهديه لمعرفة معارف أولي الألباب".ويرى ابن سيرين أن الرؤيا قد تُعبّر باختلاف أحوال الأزمنة والأوقات، فتارة تعبر من كتاب الله ، وتارة تعبر من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قد تعبر بالمثل السائر. فأما التأويل من القرآن فكالبيض يُعبّر عنها بالنساء ، لقوله تعالى: "كأنهن بيض مكنون"، وكالحجارة يعبر عنها بالقسوة، لقوله تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
وأما التأول من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) فكالضلع يعبر عنه بالمرأة؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "المرأة خُلقت من ضلع أعوج"، وكالفأرة يعبر عنها بالمرأة الفاسقة لقوله (صلى الله عليه وسلم) "الفأرة فاسقة"، وكالغراب الذي يعبر عنه بالرجل الفاسق؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمّاه فاسقًا.
نماذج من تفسير الرؤيا عنده جعل ابن سيرين لكل رمز من الرموز التي يراها النائم في منامه معنى يدل عليه في سياق الجو الذي يحيط به والملابسات والحوادث التي يظهر من خلالها؛ فمن رأى أنه دخل الجنة، فإنه يدخلها، وهي بشارة له بما تقدم من صالح الأعمال، فإن رأى أنه يأكل ثمارها، أو أعطاها غيره فإن ثمار الجنة كلام طيب، مثل كلام البر والخير بقدر ذلك.أما رؤيا المطر فإنها دليل غيث ورحمة، وكذلك الغمام، فإن كان خاصًا في موضع دار أو محلة دون غيرها كان ذلك أوجاعًا أو أمراضًا، أو خسارة في الدنيا تقع بأهل ذلك الموضع المخصوص بها.ورؤية الحية تأويلها عدو كاتم العداوة مبالغ فيها بقدر عظم الحية وهيبتها في المنظر. والنور في التأويل هداية. والظلمة ضلال. والطريق طريق الحق، والميل عنه ميل إلى الباطل. والأسد عدو متسلط ذو سلطان وبأس شديد. أما الكلب فعدو غير بالغ في عدواته، وقد ينقلب صديقًا، ولكنه دنيء النفس قليل المروءة.
وفاته
توفي ابن سيرين بالبصرة في (9 من شوال 110هـ = 15 من يناير 729م) عن عمر بلغ نحو ثمانين عامًا
|