العادات السبع للناس الأكثر فعالية
دروس فعالة في عملية التغيير الشخصي
ستيفن ر. كوفي
الباب الأول
المبادئ والتصورات الذهنية
من الباطن إلى الظاهر / 17
ليس هناك تميز حقيقي في هذا العالم كله يمكن فصله عن الحياة السوية دافيد ستار جوردان
طوال ما يربو عن خمسة وعشرين عام من التعامل مع الناس في مجالات الأعمال والجامعة وفي محيط الزواج والأسرة تقابلت مع الكثير من الأشخاص الذين حققوا مستويات مبهرة من الناجحات الخارجية ، غير أنهم اكتشفوا أنفسهم يتصارعون مع جوع داخلي ، ومع احتياج عميق للتطابق والتأثير الشخصي ، ولعلاقات صحية ومتطورة مع الآخرين .
ولعلى لا أكون متجاوز في القول بأن بعض المشكلات التي أفضوا بها لي قد تكون مألوفة لك .
"لقد حددت وحققت أهدافي في حياتي العملية ، حيث أتمتع بنجاح مهني ساحق غير أنني قد دفعت مقابل ذلك من حياتي الشخصية وحياة أتمتع بنجاح مهني ساحق غير أنني قد دفعت مقابل ذلك من حياتي الشخصية وحياة عائلتي . إنني لم أعد قادر على معرفة زوجتي وأبنائي ، بل إنني لست متأكد أنني أعرف نفسي ذاتها وما هو مهم في الحقيقة بالنسبة لي ، ولقد وجدتني مضطراً لأن أسأل نفسي – هل يستحق الأمر ذلك ؟ "
لقد شرعت في إتباع نظام غذائي جديد – وذلك للمرة الخامسة هذا العام . إنني مدرك لزيادة وزني وأرغب حقاً في التغيير . إنني أقرأ كافة المعلومات الجديدة ، وأحدد أهدافي ، وأسخر نفسي كلها في إطار توجه عقلي ايجابي قائلاً لها إنني أستطيع تحقيق الهدف . غير أنني لا أستطيع ، وبعد بضعة أسابيع أخفق في الأمر . إنني أبدو ببساطة غير قادر على الوفاء بما عاهدت عليه نفسي . !!
" لقد حضرت دورة تدريبية بعد أخرى في مجال الإدارة الفعالة . إنني أتوقع الكثير من مرؤوسي وأبذل قصارى جهدي لأكون ودوداً معهم وأحسن معاملتهم ، غير إنني لا أشعر بأي ولاء منهم تجاهي ، وأظن أنني لو تغيبت يوماً واحداً لمرض بي فسوف ينفقون معظم وقتهم في الثرثرة حول نافورة المياه . لماذا لا أستطيع تدريبهم على أن يكونوا مستقلين ومتحملين للمسؤولية ، أو أن أعثر على موظفين قادرين على ذلك ؟ "
" أصبح ابني المراهق متمرداً ومدمناً للمخدرات . إنه لا يستطيع إلىّ مهماً فعلت . ما الذي أستطيع فعله ؟
إن هناك الكثير الذي يمكن فعله ، غير أنه لا يوجد وقت كاف مطلقاً . إنني أنوء تحت الضغوط وأشعر بالضيق طوال اليوم ، في كل يوم ، سبعة أيام في الأسبوع . لقد حضرت ندوات حول إدارة الوقت وجربت العديد من نظم التخطيط المختلفة ، وعلى الرغم من تحقيق بعض التقدم ، ما زلت قادر على الشعور بأنني أعيش الحياة السعيدة , المثمرة ، الهادئة التي أتمناها . "
" إنني أرغب في تعليم أبنائي قيمة العمل ، ولكن أدفعهم إلى فعل شيء ما ، يتوجب على الإشراف على كل حركة ... وتحمل الشطحات التي تبرز عند كل خطوة . من الأيسر جداً أن أضطلع بالعمل بنفسي . لماذا لا يؤدي الأبناء أعمالهم في بهجة ودون الحاجة لتذكيرهم بها ؟ "
" إنني مشغول ... مشغول للغاية . غير أنني أتعجب أحياناً عما إذا كان ما أفعله سيغير من الأمر شيئاً على المدى البعيد .
إنني أود حقاً الاعتقاد بأن حياتي تنطوي على معنى ما ، وأن الأشياء قد طرأ عليها تغيير ما بسبب وجودي " .
" إنني أرقب أصدقائي وأقربائي وهم يحققون بعض النجاح أو ينالون بعض التقدير ، وأبتسم لهم وأهنئهم في حماس . غير أنه في داخلي تتملكني التعاسة . لماذا ينتابني هذا الشعور ؟ "
" لي شخصية قاهرة ، إنني أعلم ، في أي معاملة تقريباً ، أن باستطاعتي التحكم في النتيجة . بل إنه في معظم الأوقات . يمكنني تحقيق ذلك بمجرد التأثير على الآخرين للتوصل إلى القرار الذي أريده إنني أفكر في كل موقف وأشعر حقاً بأن الأفكار التي اطرحها هي الأفضل عادة لجميع . غير إنني أحس بالقلق ، إنني أفكر دائماً في كيفية نظر الآخرين لي ولآرائي "
" لقد أخفق زواجي ، إنني لا نتشاجر أو نفعل أي شيء آخر ، لقد كففنا فقط عن أن يحب أحدنا الآخر . لقد لجأنا إلى المشورة ، وحاولنا العديد من الوسائل ، ولم نفلح في أن نستعيد جذوة المشاعر التي كانت لدينا يوما ما . "
هذه مشكلات عميقة ، مشكلات مؤلمة – مشكلات لا يجدي في حلها أساليب المصالحة السريعة .
منذ بضع سنين ، أنخرطت وزوجتي ساندرا في واحد من مثل هذه الهموم . كان أحد أبنائنا يواجه وقتاً عصيباً للغاية في الدراسة . كان مستواه الأكاديمي ضعيفاً ، إلى حد أنه لم يكن يعرف كيف يتبع التعليمات الخاصة بالاختبارات ، بصرف النظر عن معرفة الإجابة الصحيحة . ومن الناحية الاجتماعية . كان يفتقر إلى الكياسة ، وعادة ما كان يتسبب في إحراج اقرب أصدقائه ، وفي المجال الرياضي كان ضيئلاً ، نحيفاً وغير متناسق – يؤرج مضرب كرة البيسبول، مثلاً، قبيل قذف الكرة مباشرة مما يدعو الآخرين للسخرية منه .
كنت وساندرا مستغرقين تماماً في محاولة مساعدته . لقد أحسسنا أنه إذا كان " النجاح " مهماً في أي مجال من مجالات الحياة ، فانه يكتسب أهمية قصوى في دورنا كأبوين ، ومن هنا فقد ركزنا على توجيهات وسلوكنا إزائه مع محاولة التركيز على توجهاته وسلوكه ، حاولنا تحفيزه وجعله مستعداً بإتباع أساليب التوجيه العقلي الايجابي . " هيا يا بني إنك تستطيع فعل ذلك ! نعلم أنك تستطيع ، ضع يديك لأعلى قليلاً على المضرب حتى تقترب منك " ، وركز عينيك على الكرة . لا تؤرجح المضرب حتى تقترب الكرة منك " وإذا ما أحرز بعض النجاح فإننا نمضي شوطاً أبعد لدعمه ومساعدته " . هذا جيد يا بني ، استمر في ذلك ."
وإذا ضحك منه الآخرون ، قمنا بتوبيخهم ، " دعوه وشأنه . لا تقفوا خلف ظهره . إنه ما زال يتعلم . " وكان ابننا يبكي ويصر على أنه لن يحقق أي نجاح ، وأنه لا يحب لعبة البيسبول بأي حال .
لم يبد أن أياً مما فعلناه قد أتى بفائدة ، الأمر الذي أصابنا بقلق حقيقي ، وبدا لنا تأثير ذلك على تقديره لنفسه ، حاولنا أن نشجعه ونساعده ونكون ايجابيين معه ، إلا أنه مع تكرار الإخفاق ، اضطررنا في نهاية الأمر إلى التراجع وإعادة النظر في الأمر برؤية مختلفة .
في هذا الوقت ، وفي إطار عملي المهني كنت منهمكاً في مهمة لتنمية القيادة مع العديد من المتعاقدين معنا في مختلف أنحاء البلاد ، وبهذه الصفة كنت أقوم بإعداد برامج كل شهرين حول موضوع التخاطب والإدراك للمشاركين في برنامج تطوير المدراء التنفيذيين لشركة IBM .
وفي إطار أبحاثي وإعدادي لهذا العمل تولد لدي اهتمام خاص عن كيفية تكّون المفاهيم . وكيفية تحكمها في طريقتنا للرؤية تحكم أسلوبنا السلوكي ، وقد قادني ذلك إلى دراسة نظرية التوقعات وتنبؤات تحقيق الذات أو " أثر بجماليون " ومن ثم إلى التحقق من مدى العمق الذي تكمن فيه مفاهمينا ، ولقد تعلمت أننا يجب أن ننظر إلى العدسة التي نرى العالم من خلالها ، بمثل النظر إلى العالم الذي نراه ، وأن العدسة ذاتها تشكل كيفية تفسيرنا للعالم .
وأثناء حديثي مع ساندرا عن المفاهيم التي أقوم بتدريبها في شركة IBM وعن موقفنا العائلي ، بدأنا نعي أن ما كنا نفعله لمساعدة ابننا لم يكن متوافقاً مع الطريقة التي كنا في واقع الأمر ننظر إليه بها ، وعندما قمنا بفحص أعمق أعماق مشاعرنا دون زيف ، أدركنا أن مفهومنا كمحور حول أن ابننا كان في جوهره غير مناسب " ومتخلف " بشكل ما ، ولم يكن مهماً لم بذلنا من جهد في توجهاتنا ومسلكنا حيث ذهبت جهودنا أدراج الرياح ؛ لان – رغم أفعالنا وأقوالنا – ما أوصلناه إليه كان، " أنت غير كاف " ، ويتعين حمايتك "
لذا فقد بدأنا نتحقق من أنه إذا أردنا تغيير الوضع فإنه يجب علينا أن نغير من أنفسنا أولاً . ومن أجل التغيير الفعال لأنفسنا ، يتوجب علينا أولاً تغيير مفاهمينا .
الصفحات الأخلاقية الذاتية والمثالية / 21
كنت في نفس الوقت ، وبالإضافة إلى أبحاثي حول المدركات منغمساً لأقصى مدى في دراسة متعمقة عن المؤلفات الخاصة بالنجاح والتي نشرت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1776 ، كنت حينئذ أقرا ، بل وأفحص بكل دقة مئات الكتب ، والأعمدة والمقالات في مجالات مثل تطوير الذات ، وعلم النفس الشعبي والمساعدة الذاتية ، وكان في متناول يدي الشكل والمضمون لشخصيات حرة وديمقراطية اعتبرت لتكوين مفاتيح الحياة الناجحة .
وفي دراستي التي عادت بي عبر مائتي عان من الكتابات حول النجاح لاحظت أن مضمون هذه المؤلفات ينطوي على نموذج نمطي مثير للدهشة ، وفي ضوء الآلام التي كنا نعانيها ، والآلام المماثلة التي رأيتها في حياة وعلاقات الكثير من الأشخاص الذين عملت معهم على مدار السنوات ، فقد بدأ ينتابني شعور متزايد بأن كثيراً من المؤلفات عن النجاح في غضون الخمسين عاماً الأخيرة كانت مصطنعة . لقد كانت تموج بالإدراك الواعي للصورة الاجتماعية والوسائل والحلول السريعة – مع الوسائل الإعلامية والمسكنات الاجتماعية الموجهة للمشكلات الحادة والتي بدت أحياناً كأنما توفر لها مؤقتاً ، في حين تركت المشكلات المزمنة المتوارية خلف السطح الظاهر دون مساس حتى تلتهب ثم تطفح على السطح مرة بعد أخرى .
وفي تناقض صارخ ، فقد ركزت على الأدبيات تقريباً في غضون المائة وخمسين عاماً الأولى أو ما يقاربها على ما يمكن تسميته الصفات الأخلاقية المثالية كأساس للنجاح ، وهي ما تتمثل في أشياء ، مثل النزاهة ، خفض الجناح ، الإخلاص ، الاعتزال ، الشجاعة ، الصبر ، الكد والاجتهاد ، البساطة ، التواضع والقاعدة الذهبية ، وتقف السيرة الذاتية لبنيامين فرانكلين كنموذج لهذه الأدبيات ، حيث أنها تتمثل في جهود رجل واحد لخلق تكامل في مبادئ وعادات معينة في أعماق طبيعته ذاتها ، وتعلمنا الصفات الأخلاقية المثالية أن هناك مبادئنا أساسية للحياة الفعالة ، وأن الناس بوسعهم التمتع بالنجاح الحقيقي والسعادة الدائمة فقط حينما يتعلمون هذه المبادئ ويمزجونها في صلب الشخصية الأساسية لكل منهم .
غير أنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى تحولت النظرة الجوهرية للنجاح من الصفات الأخلاقية المثالية إلى ما يمكن أن نطلق عليه " الصفات الأخلاقية الذاتية " فقد أصبح النجاح اقرب ما يكون إلى مهمة تختص بالشخصية الذاتية ، بالصورة العامة ، بالتوجهات والتصرفات ، بالمهارات والوسائل التي تضطلع " بتزييت " ممارسات العلاقات الإنسانية المتبادلة ، وقد أخذت هذه الصفات الأخلاقية الذاتية مسارين أساسيين : يتمثل أولهما في أساليب العلاقات الإنسانية والعامة ، وثانيهما في التوجه العقلي الايجابي ( PMA ) وقد تشكلت هذه الفلسفة في صياغات موحية وأحياناً في أمثال سائدة مثل " توجهاتك تحدد مدى نجاحك " تكتسب الأصدقاء بالابتسام لا بالعبوس !! ويستطيع المرء أن ينجز ما يتخيله عقله ويعتقده !! "
كما أن بعض المظاهر الأخرى من التوجهات الشخصية اتسمت بوضوح بالتلاعب ، بل والخداع ، مما يشجع الناس على ابتهاج أساليب لدفع الآخرين إلى الإعجاب بهم ، أو بالادعاء بالاهتمام بما يهواه الآخرون للحصول منهم على ما يرغبون فيه ، أو باستثمار " هيبة المظهر " أو شق طريقهم في الحياة عبر الترهيب .
وقد تناولت بعض هذه الأدبيات " الشخصية الذاتية بكونها كثيرة النجاح ، غير أنها نمت إلى اعتبرها جزءاً من كل بدلاً من الإقرار بها كعنصر أساسي وعامل مساعد ، وقد أصبحت الإشارة إلى الصفات الأخلاقية المثالية في معظم الأحوال مجرد رياء . في حين تم التركيز على أساليب التأثير للحلول السريعة ، واستراتيجيات القوة ومهارات التخاطب والتوجهات الايجابية .
ولقد بدأت أن إدراك أن هذه الصفات الأخلاقية الذاتية كانت المصدر الباطني الذي حاولت أنا وساندرا استخدامه مع ابننا ، ومع استغراقي في مزيد من التفكير في الاختلاف بين الصفات الأخلاقية الذاتية والمثالية ، أدركت أنني وساندرا كنا نتباعد شيئاًَ فشيئاًَ من الناحية الاجتماعية عن سلوك ابننا الذي كنا ببساطة من وجهة نظرنا ، غير كفء . لقد كانت صورتنا عن أنفسنا ، ودورنا كآباء صالحين مهتمين بأبنائهم أكثر عمقاً من ، وربما أثرت عليه صورتنا عن ابننا ، لقد كان هناك المزيد الكامن والمطور في الطريقة التي كنا نرى بها ونعالج من خلالها المشكلة أكثر من اهتمامنا بصالح ابننا .
ومن خلال مناقشاتي مع ساندرا ، أخذنا ندرك في معاناة مؤلمة التأثير القوي لشخصياتنا ودوافعنا وكذلك مدركاتنا عنه . لقد أن دوافع المقارنة الاجتماعية كانت غير متسقة مع قيمنا الكامنة في الأعماق وأنها أدت بابننا إلى تضاؤل شعوره بقيمته الذاتية . لذا ؛ فقد قررنا تركيز جهودنا على " أنفسنا " عن " نفسه " – وأن نستشعر هويته ، وشخصيته الذاتية ، وتفرده وقيمته .
ومن خلال التفكير العميق والتمسك بحبل الإيمان والدعاء ، بدأنا نرى ابننا في إطار شخصيته المتفردة . لقد " رأينا " في داخله طبقات وطبقات من الامكانات الكامنة التي يمكن لها أن تخرج إلى حيز الوجود حسب السرعة والمعدل الملائمين له . ومن هنا فقد قررنا الاسترخاء والتنحي عن طريقة وإفساح المجال أمام شخصيته للظهور . لقد رأينا أن دورنا الطبيعي يتمثل في تشجيعه والاستمتاع بما يقوم به وإظهار قيمته لنفسه ؛ للشعور بالأمان بحيث لا تصبح مشاعرنا الذاتية بقيمة ابننا معتمدة على سلوكه " المقبول " .
ومع إرخاء العنان لمدركاتنا القديمة عن ابننا واعتمادنا على دوافع مستندة إلى القيم ، بدأت مشاعر جديدة في الانبثاق . لقد وجدنا نستمتع بما يحدث بدلا من وضعه في موضع الاهتمام والمقارنة . لقد توقفنا عن مطابقته مع صورتنا الذاتية أو تقديره وفقاً للتوقعات الاجتماعية ، وموقفاً عن محاولة التأثير عليه للانخراط ، بالكياسة أو بالضغط ، في قالب اجتماعي مقبول ، وفي ضوء رؤيتنا له مؤهلاً وقادراً على التكيف مع الحياة بصفة أساسية ، فقد كففنا عن توفير الحماية له ضد سخافات الآخرين .
لقد تربى ونشأ في كنف هذه الحماية مما أدى إلى بعض التراجعات المؤلمة ، التي بدت عليه وقبلنا بها دون أن نلجأ بالضرورة للرد عليها . لقد كانت رسالتنا الصامتة إليه تقول " إننا لسنا في حاجة إلى أن نحميك ، إنك في جوهرك على ما يرام "
وبمضي الأسابيع والشهور ، بدأ يشعر بالثقة المطمئنة ، ومن ثم بإثبات الذات . لقد بدأ ينتعش ، وفقاً لمعدلته وسرعته الخاصة ، بل أنه أصبح بارزاً وفقاً للمعايير الاجتماعية القياسية – أكاديمياً واجتماعياً ورياضياً – في سرعة مذهلة تتجاوز ما هو متعارف عليه من مراحل التطور الطبيعي ، وبانقضاء الأعوام ، ثم انتخابه لمواقع قيادية في العديد من الهيئات الطلابية ، واحتل منزلة رفيعة كرياضي شامل وبدأت شهادته الدراسية تزهو بعلامات التميز ، ولقد نمت وتطورت شخصيته ؛ حيث أصبح إنساناً ناشطاً متميزاً بالاستقامة مما أدى به إلى الارتباط بوسائل غير محفوفة بالمخاطر بمختلف أنواع البشر .
إنني وزوجتي ساندرا نؤمن بأن الإنجازات ذات " التأثير الاجتماعي " التي حققها ابننا إنما هي تعبير فطري عن المشاعر التي يكنها لنفسه أكثر من كونها استجابة للتقدير الاجتماعي له . لقد كانت التجربة مثيرة لي ولساندرا ، إضافة إلى ما تنطوي عليه من دروس في كيفية التعامل مع أبنائنا الآخرين وغير ذلك من الواجبات الملقاة على عاتقينا . لقد أيقظت هذه التجربة على المستوى الشخصي الوعي بالاختلاف الحيوي بين الصفات الأخلاقية الذاتية والصفات الأخلاقية المثالية لإحراز النجاح . لقد عبر النبي داود عن هذا الاعتقاد أبلغ تعبير وذلك في مزمرة " القائل " ابحث عن قلبك بكل تفان ؛ لأنه منه ينساب جوهر الحياة .
العظمة الرئيسية والثانوية / 26
تضافرت تجربتي مع ابني ، ودراستي عن المفاهيم مع قراءاتي في أدبيات النجاح على خلق شيء من هذا النوع من التجارب الحياتية التي تنتزع آهات الإعجاب حينما ترى الأشياء وقد تلبثت فجأة في أماكنها الطبيعية . لقد تمكنت فجأة من رؤية التأثير القوى للصفات الأخلاقية الذاتية ، ومن الفهم الجلي لتلك الاختلافات الدقيقة ، المتخفية عادة عن عمد ، بين ما أعرف أنه حقيقي – وهو ما تعلمته منذ سنوات بعيدة أيام طفولتي والأشياء التي كانت مطمورة في أعماق مشاعري الداخلية عن القيم – وبين فلسفات الحلول السريعة التي تحاصرني كل يوم . لقد فهمت بقدر أكبر من العمق ، عبر سنوات عملي الطويلة مع أناس من كافة مناحي الحياة ، السبب في اكتشافي أن الأشياء التي كنت أقوم بتدريبها وأعلم مدى فاعليتها كانت تتباين عادة مع هذه الأصوات الشائعة .
إنني لا أزعم أن عناصر الصفات الأخلاقية الذاتية– من تطور الشخصية، والتدريب على مهارات التخاطب، والتثقيف في مجال استراتيجيات التأثير والتفكير الايجابي– لست ذات فوائد ، بل إنها في واقع الأمر تكون أحياناً جوهرية للنجاح، وهو ما أعتقده .
غير أنها تبقى ميزة ثانوية وليست أساسية . ولربما ، في غمرة استثمار قدراتنا البشرية للبناء على الأسس التي تخلقها لنا الأجيال السابقة علينا ، نكون قد ركزنا دون قصد منا على ما نقوم نحن بتشييده إلى درجة نسيان الأساس الذي يستند إليه هذا البناء ، أو أثناء انهماكنا لفترات طويلة في حصد ثمار ما لم نغرسه ، ربما ننسى أيضاً الحاجة إلى أن نغرس نحن بنفسنا .
وإذا حاولت استغلال استراتيجيات وتكتيك التأثير البشري في كيفية دفع الآخرين لفعل ما أريده . للعمل بشكل أفضل ، ولتملك دوافع أقوى ، وللشعور بالحب ناحيتي ولكل منهم تجاه الآخر – في حين تتصف شخصيتي بخلل جوهري وتتميز بالازدواجية والافتقار إلى الإخلاص – فإنني على المدى الطويل ، لن أكون ناجحاً ؛
حيث إن ازدواجيتي لن تنبت سوى عدم الثقة ، وسيبدو أن كل شيء أفعله – حتى مع استخدام ما يطلق عليه الأساليب الجيدة للعلاقات الإنسانية – لا يهدف سوى للسيطرة .
وببساطة ، فلن يجدي كثيراً ارتقاء مستوى البلاغة الكلامية ، بل وحتى مدى حسن النوايا ، فحيث تقل أو تنعدم الثقة ، ينمحي الأساس اللازم للنجاح المستديم . إن الجوهر الجيد هو وحده الكفيل ببث روح الحياة في الوسائل والأساليب .
إن التركيز على الأساليب أشبه ما يكون بتكديس المناهج المدرسية للحظات الأخيرة . وقد تنجح هذه الطريقة أحياناً ، ولربما أحرزت علامات جيدة ، غير أنه ما لم تدفع الثمن عبر جهد دائم ، تنجح يوماً وتخفق آخر فإنك لن تحقق أبداً التمكن الحقيقي من المواد التي تدرسها أو تكوين العقلية المثقفة المبتغاة .
هل سبق لك أن فكرت في مدى سخف إرجاء العمل في مزرعة ما – أي أن تنسى أن تزرع في الربيع ، ثم تهدر الوقت كاملاً في الصيف ثم تركز كل جهدك في الخريف منتظراً نمو المحصول ؟ إن الزراعة نظام طبيعي يستوجب دفع ثمنها وإتباع خطواتها . إنك تحصد دائماً ما تزرع ، وليس هناك طريق مختصرة لذلك .
وبنفس القدر ، يصدق هذا المبدأ ، في نهاية المطاف ، على السلوك الإنساني وعلى العلاقات البشرية . إنها هي أيضاً نظم طبيعية قائمة على قانون الحصاد ، وعلى المدى القصير ، وفي إطار نظام اجتماعي موضوع مثل النظام المدرسي ، فقد يمكنك اجتيازه إذا تعلمت كيف تسيطر على القواعد التي وضعها الإنسان ، أي أنك " تخوض اللعبة " وفي معظم المعاملات غير المتكررة أو قصيرة الأمد المتبادلة بين البشر ، يمكنك الركون إلى الصفات الأخلاقية الذاتية لتحقيق هدفك ولترك انطباعات طيبة من خلال الجاذبية والمهارة والتظاهر بالاهتمام بهوايات الآخرين . إنك تستطيع الأساليب الثانوية بمفردها تفتقر إلى القيمة الدائمة في العلاقات طويلة الأمد ، وفي نهاية المطاف ، إذا لم يتوفر عمق الاستفادة ورسوخ قوة الشخصية فإن تحديات الحياة ستؤدي بالدوافع الحقيقية للبروز إلى السطح وتسود الإخفاقات في العلاقات الإنسانية محل النجاحات المؤقتة .
ويفتقر كثير من الأشخاص من ذوي العظمة الثانوية – وهم أولئك الذين يحظون بتقدير اجتماعي بسبب مواهبهم – للعظمة الرئيسية أو الصلاح في شخصياتهم النمطية ولسوف ترى ذلك – إن عاجلاً أو آجلاً – في كل علاقة طويلة الأمد لهم ، سواء كانت مع شريك العمل ، أو زوج ، أو صديق ، أو مراهق يمر بمأزق لإثبات هويته . إن الشخصية النمطية هي القادرة على الاتصال والتعبير في طلاقة ، وذلك وفقاً لما أورد إمرسون ( Emersson ) ذات مرة ، " إن ما تكونه أنت يصرخ عالياً في أذني ، إنني لا أستطيع أسمع ما تقول . "
وهناك بطبيعة الحال ، مواقف يحوز أصحابها على قوة الشخصية النمطية ، غير أنهم يفتقدون مهارات الاتصال مما يؤثر أيضاً دون أي شك على نوعية علاقاتهم ، ولكن يظل هذا التأثير ثانوياً ، وفي التحليل الأخير ، فإن ما نكونه يرسم لنا صورة أكثر طلاقة من أي شيء نقوله أو نفعله . إننا جمعياً نعلم ذلك ، فهناك أشخاص يحظون بثقتنا المطلقة لأننا نعرف شخصياتهم وسواء تمتعوا بطلاقة الحديث أم لا ، أو امتلكوا تقنية العلاقات الإنسانية أو أفتقروا إليها ، فإننا نثق فيهم ، ويظلنا التوفيق في العمل معهم .
وحسب كلمات وليام جورج جوردان William George Jordan " لقد وهب كل فرد منا في كيفية قوة هائلة للخير أو الشر وهو المؤثر الصامت ، اللامحسوس ، اللامرئي على حياته . إنه ببساطة ذلك الإشعاع الدائم لما يكونه الإنسان حقاً ، وليس ما يتظاهر أن يكونه . "
قوة التصور الذهني / 29
ينطوي كتاب العادات السبع للناس الأكثر فعالية على العديد من المبادئ الرئيسية المكونة للفعاليات الإنسانية ، وتعتبر هذه العادات أساسية ، بل إنها جوهرية . إنها تمثل الاستيعاب الباطني للمبادئ الصحيحة التي يتأسس عليها السعادة والنجاح الدائمين .
وقبل أن تخوض في الفهم الحقيقي لهذه العادات السبع ، فإننا بحاجة إلى فهم " معاييرنا " نحن وكيف نفذ عملية " تغيير التصور الذهني " .
إن الصفات الحميدة الأخلاقية المثالية والصفات الأخلاقية الذاتية أمثلة على التصورات الذهنية الاجتماعية ، ويعود أصل الكلمة في اللغة الإنجليزية إلى اللغة اليونانية ، وكانت الكلمة في الأصل تعبر عن مصطلح علمي ، في حين أنها أصبحت تستخدم الآن بصورة تعبر عن مصطلح علمي ، في حين أنها أصبحت تستخدم الآن بصورة شائعة لتعني نموذجاً ، أو نظرية ، أو إدراكاً أو إفتراضاً ، أو إطاراً مرجعياً ، وفي معناها الأكثر عمومية فإنها تعني الطريقة التي " نرى " بها العالم – ليس بمعنى حاستنا البصرية للرؤية ، بل بمعنى الإدراك ، والفهم ، والتفسير ، وأبسط وسيلة لفهم التصورات الذهنية !! – بما يخدم هدف هذا الكتاب – هو النظر إليها على أنها خرائط . إننا نعلم جمعيا أن " الخريطة ليست هي الإقليم " . فالخريطة هي ببساطة شرح لمظاهر معينة للإقليم وهذا هو التصور الذهني بدقة . إنه فكرة ، شرح أو نموذج لشيء آخر .
لنفترض أنك ترغب في الوصول إلى موقع محدد في وسط شيكاغو ، ومن هنا فإن خريطة شوارع المدينة ستكون ذات فائدة كبيرة لك للوصول إلى مقصدك . غير أنه بافتراض تسلمك خريطة أخرى خاطئة لمدينة " ديترويت " طبع عليها بالخطأ اسم مدينة " شيكاغوا " فهل لك أن تتخيل مدى الإحباط والجهد المبذول دون جدوى للوصول إلى مقصدك ؟
إنك فد تعتمد على سلوكك – فقد تبذل جهداً أكبر ، وتصر على المثابرة ، وتضاعف من سرعتك ، غير أن جهودك لن تحقق النجاح سوى في إيصالك إلى المكان الخطأ في سرعة أكبر .
إنك قد تعتمد على توجهك – فقد تنمو إلى مزيد من التفكير الايجابي . وبالرغم من أنك لن تصل إلى المكان الصحيح ، فلعلك ستصر على المضي قدماً . إن توجهك على قدر من الايجابية التي تجعلك سعيداً أينما كنت ، وتبقى الحقيقة ... إنك ما زلت تائهاً . إن المشكلة الجوهرية ليست بذات صلة مطلقاً سواء بسلوكك أو توجهك . إنها لها كل الصلة بالخريطة الخطأ التي في حوزتك .
أما إذا كانت لديك الخريطة الصحيحة لشيكاغو ، فحينئذ تكتسب المثابرة أهميتها ، وعندما تواجه عقبات مثيرة للإحباط خلال سعيك ، فحينئذ يلعب التوجه دور فارقاً حقيقة ، غير أن المطلب الأول ذا الأهمية القصوى يتمثل في دقة الخريطة .
إن كلا منا يختزن في رأسه الكثير العديد من الخرائط ، والتي يمكن تقسيمها إلى فئتين رئيسيتين : خرائط خاصة بالأشياء كما هي ، أو الحقائق ، وخرائط خاصة بالأشياء كما ينبغي أن تكون أو القيم ومن هنا فإننا نقوم بتفسير كل ما يمر بنا من تجارب وفقاً لهذه الخرائط الذهنية ، ونادراً ما نتساءل حول مدى دقتها ، بل إننا عادة لا ندرك أنها في داخلنا . إننا نفترض ببساطة أن الطريقة التي نرى بها الأشياء هي الطريقة التي هي عليها أو الطريقة التي يجب أن تكون عليها .
وهكذا فإن توجهاتنا وسلوكياتنا تنبثق من هذه الفرضيات ، وتكون الطريقة التي نرى بها الأشياء هي المصدر للطريقة التي نفكر بها والطريقة التي نتصرف بها ، وقبل الانغماس في المزيد من الشرح ، فإنني أدعوك إلى الدخول في تجربة عقلانية وعاطفية . استرح لعدة ثوان ثم انظر إلى الصورة المرسومة على الصفحة التالية ، والآن انقل بصرك إلى الصورة التالية الأخرى على الصفحة رقم 32 وصف في تمعن ما تراه .
هل امرأة ؟ كم تقدر عمرها ؟ ماذا تشبه ؟ ماذا تلبس ؟ في أي نوع من الأدوار تراها ؟
من المحتمل أن تصف المرأة في الصورة الثانية على أنها في حوالي الخامسة والعشرون من العمر – جذابة للغاية ، أنيقة ذات أنف دقيق وذات مظهر رزين ، وإذا كنت رجلاً أعزباً فإنك تود أن تصحبها معك ، وإذا كنت تمارس التجارة ، فقد ترغب في توظيفها كعارضة أزياء ، ولكن كيف يكون الأمر إذا أخبرتك أنك مخطئ " ؟ ماذا لو قلت لك أن هذه الصورة لامرأة في الستينات أو السبيعينات من العمر ، تبدو بائسة ، ذات أنف ضخم ، وبالتأكيد ليست عارضة أزياء ، إنها امرأة جديرة بمد يد العون لها لعبور الطريق .
أيهما هو الصواب ؟ انظر إلى الصورة مرة أخرى هل ترى فيها تلك السيدة العجوز ؟ إن لم تكن قد رايتها بعد فحاول مرة أخرى . هل ترى أنفها الكبير المعقوف ؟ هل ترى الشال الذي ترتديه ؟ إذا كنت أحدثك وجها لوجه فقد يسهل علينا مناقشة الصورة ، حيث تصف لي ما تراه ، وبإمكاني أن أحدثك بما أراه ، وبمقدرونا الاستمرار في التواصل حتى توضح لي بشكل قاطع ما تراه في الصورة وأريك بشكل واضح ما أراه أنا .
ونظراً لاستحالة ذلك ، تحول إلى صفحة رقم 62 وافحص الصورة بها ثم عاود النظر إلى هذه الصورة هل تستطيع رؤية المرآة العجوز الآن ؟ إنه من الأهمية أن تراها قبل استئناف القراءة .
لقد واجهت هذا التدريب لأول مرة منذ سنوات عديدة في كلية التجارة بجامعة هارفارد ، وكان المحاضر يستشهد به ليستعرض في وضوح وبلاغة أن شخصين يرين نفس الشيء يمكن أن يختلفا ، ومع ذلك يكون كل منهما على صواب . إن هذا الأمر لا يخضع لعلم المنطق ولكن لعلم النفس .
لقد أحضر المحاضر رزمة من البطاقات ذات الحجم الكبير ، يحمل نصفها صورة المرأة الشابة التي رأيت صورتها أولاً بصفحة 32 ويحمل النصف الآخر صورة المرأة العجوز المنشوره بالصفحة 62 .
ومررهما على الدارسين بالفصل مخصصاً صورة المرأة الشابة لجانب منه وصورة المرأة العجوز للجانب الآخر ، وطلب منا المحاضر النظر إلى البطاقات ، والتركيز عليها لمدة عشر ثوان ومن ثم إعادتها إليه ، وبعدئذ عرض على الشاشة الصورة التي رأيتها بصفحة 32 جامعاً بين الصورتين طالباً من الحاضرين وصف ما يرونه وكانت النتيجة إن كل شخص تقريباً من الذين رأوا أولاً صورة المرأة الشابة في البطاقة ، رأوا أيضاً نفس الصورة على الشاشة ، وبالمثل كان كل شخص تقريباً من الذين رأوا صورة المرأة العجوز أولاً في البطاقة ، رأوا أيضاً صورتها على الشاشة .
عند ذاك سأل المحاضر أحد الطلبة أن يشرح ما رآه لطالب في الجانب المقابل من الصف الدراسي ، وبعد أن تبادلا الحديث ، اشتعلت مشكلات الحوار . " ماذا تقصد بأنها سيدة عجوز ؟ إنها لا يمكن أن تتجاوز العشرين أو الثانية والعشرون عاماً ! "
" على رسلك !! لابد أنك تمزح . إنها في السبعين – بل تكاد تقترب من الثمانين ! " .
" ماذا دهاك ؟ هل عميت ؟ إن هذه السيدة شابة ، وحسنة المظهر ! "
" حسنة المظهر ! بل إنها عجوز شمطاء "
وهكذا مضت المجادلة بين أخذ ورد ، وكل شخص واثق ومتمسك بموقفه أو موقفها . لقد حدث كل هذا بالرغم من توفر ميزة على قدر بالغ من الأهمية أمام الطلبة – فقد كان معظمهم يعلم مسبقاً عن طريق العرض الذي تم بوجود وجهة نظر أخرى في الواقع – وهو الأمر الذي لم يحظ بإقرار معظمنا . ومع ذلك فقد حاول قليل من الطلبة ، منذ البدء ، محاولة النظر إلى هذه الصورة عبر إطار مرجعي مختلف .
وبعد فترة من المناقشات غير المثمرة ، توجه أحد الطلبة إلى الشاشة وأشار إلى خط على الرسم . " هذه هي قلادة المرأة الشابة " عندها أجاب طالب آخر ، " لا ، إنه فم المرأة العجوز " وشيئاً فشيئاً شرعاً في مناقشة نقاط الاختلاف بهدوء حتى نهض آخر الأمر واحد من الطلبة ، وتبعه آخر لدى إدراكها الحقيقة فجأة حين ركزا على صورتي المرأتين ، ومع نواصل النقاش الهادئ والموضوعي والمتسم بالاحترام ، أصبح بإمكان كل من بالفصل رؤية وجهة النظر الأخرى ، غير أنه حينما وجهنا النظر بعيداً عن الصورة التي كان معداً وموجهاً لأن يراها جميعنا في غضون العشر ثوان .
إنني دائماً ما أستخدم هذا العرض للمفاهيم أثناء عملي مع الأفراد والمؤسسات نظراً لما يسفر عنه من رؤى عميقة عديدة فيما يتعلق بالفاعلية على كل من مستوى الفرد وفيما بين الأشخاص ؛ حيث يوضح العرض ، في المقام الأول مدى قوة التوجيه في التأثير على مدركاتنا ، وعلى تصوراتنا الذهنية . وإذا كان لعشر ثوان هذا القدر من التأثير على طريقتنا في رؤية الأشياء ، فكيف يكون الأمر مع التوجيه على مدى العمر كله ؟ لقد وضعت المؤثرات التي نقابلها في حياتنا الأسرة ، المدرسة ، دور العبادة ، بيئة العمل ، الأصدقاء ، الزملاء ، والمثل الاجتماعية السائدة كالصفات الأخلاقية الذاتية – وضعت جمعيها بصماتها علينا في صمت وبدون وعي منا ، وأسهمت في تشكيل أطرنا – تصوراتنا الذهنية وخرائطنا .
كذلك يوضح هذا العرض أن هذه التصورات الذهنية هي المصدر الذي تنبثق منه توجهاتنا وسلوكياتنا ، حيث لا يمكننا العمل في استقامة بعيداً عنها . وببساطة فانه يتعذر علينا الحفاظ على " التوحد !! " . إذا ما تحدثنا أو سرنا بشكل يختلف عما نراه . فإذا ما كنت من بين نسبة التسعين في المائة الذين يرون ، على نحو نمطي ، المرأة الشابة في الصورة المركبة عندما يكونون موجهين في هذا الاتجاه ، فإنك بالتأكيد ستواجه صعوبة في التفكير وفقاً للنمط الآخر الذي يرى معاونتها على عبور الطريق ، ومن هنا فإن كلا من توجهك إزاءها وسلوكك نحوها يتعين أن يكون متسقاً مع الطريقة التي رأيتها عليها .
وإزاء ذلك تبرز إحدى المتاعب الأساسية التي تتصف بها الصفات الأخلاقية الذاتية ، حيث إن محاولة تغيير التوجهات والسلوكيات الظاهرية لن يجدي فتيلاً على المدى الطويل إذا ما أخفقنا في تمحيص التصورات الذهنية الأساسية التي تنبثق عنها تلك التوجهات والسلوكيات .
كذلك فإن هذا العرض للمفاهيم يوضح مدى القوة التأثيرية للمعايير المرجعية على الطريقة التي تتعامل بها مع الآخرين ، وبقدر ما نعتقد أن نظرتنا إلى الأشياء تتصف بالوضوح ، والموضوعية ، فإننا نبدأ في إدراك أن الآخرين ينظرون إليها بصورة مختلفة انطلاقاً من وجهات نظرهم التي تتسم على ما يبدو بقدر متساو من الوضوح والموضوعية . " إن مواقفنا تعتمد على مواقعنا "
ويميل كل منا للإعتقاد بأننا ترى الأشياء كما هي ، أي أننا نتسم بالموضوعية ، غير أن هذا يخالف الواقع . إننا نرى العالم ليس كما هو ، بل كما نكون نحن – أو ، كما تم تكييفنا على رؤيته ، وعندما نفتح أفواهنا لنصف ما نراه ، فإننا في الواقع نصف أنفسنا ، ومدركاتنا ، ومعاييرنا ، وعندما يختلف الآخرون معنا ، فإننا نظن على الفور أنهم على خطأ ، غير أنه وفقاً لمجريات العرض فإن الأشخاص الذين يتمتعون بالإخلاص وصفاء الذهن يرون الأشياء بصورة مغايرة ، حيث ينظر كل منهم إليها من خلال عدسة تجربته الذاتية .
ولا يعني ذلك نفي وجود الحقائق ، ففي العرض يقوم شخصان ، كان كل منهما قد تعرض مبدئياً لتأثيرات توجيهات مختلفة ، بالنظر سوياً إلى الصورة الثالثة ، وبذا فإنهما ينظران معاً إلى نفس الحقائق المتطابقة – الخطوط السوداء . والمساحات البيضاء – وقد يقر كلاهما بتلك الحقائق . غير أن تفسير كل شخص منهما لهذه الحقائق يمثل هذه الخبرات السابقة ، وتصبح الحقائق دون أي معنى على الإطلاق خارج نطاق هذا التفسير ، وكلما زاد إدراكنا لتصوراتنا ، وخرائطنا ، أو فرضياتنا الأساسية ، وبالقدر الذي خضعنا فيه لتأثيرات تجاربنا ، كلما زادت قدرتنا على الاضطلاع بمسئولية تلك التصورات وتمحيصها ، واختبارها في مواجهة الحقيقة ، والاستمتاع للآخرين والانفتاح على مدركاتهم ، الأمر الذي يتيح الإطلاع على صورة أكثر رحابة ووجهة نظر اشد موضوعية .
قوة تغيير الصورة الذهنية / 38
ربما كان أهم المفاهيم التي يكن اكتسابها من عرض المدركات تتركز في مجال تغيير الصورة الذهنية ، والذي يمكن أن نطلق عليه تجربة " آهاّ " ( الإدراك المفاجئ ) حينما " يرى " شخص ما في نهاية المطاف الصورة المركبة بطريقة أخرى ، وكلما كان الشخص أكثر ارتباطاً بالمدركات الأولية ، كلما كانت تجربة " آهاّ " أشد قوة . إنها أشبه ما تكون بضوء يسطع فيه داخل الشخص .
وقد نشأ مصطلح تغيير الصورة الذهنية مع ( توماس كوهن ) Thomas Kuhn الذي صكه في كتابه الزائغ الصيت هيكله الثورات العلمية وأوضح كوهن كيف أن تقريباً كل اختراق مهم في مجال الجهود العلمية هو في المحل الأول اختراق للتقاليد ، وللطرق العتيقة في التفكير والتصورات التي ع�
ساحة النقاش