المجتمع كائن حي يتعرض كسائر الكائنات الأُخر إلى حالات من النمو والتطور وحالات من الارتداد والنكوص والتراجع . 
ومجتمعنا العراقي في تاريخه البعيد والقريب مثلما كان مهبطاً للأديان السماوية ومقاماً للأنبياء والأوصياء وأرضاً للحضارات والثقافات التي زخرت بالانجازات العلمية والعطاءات الإنسانية ، كذلك كان عرضة للحروب والدمار بكل إشكاله .  والمجتمع عندما يخضع في مراحله إلى الانتقال من حالة البساطة إلى حالة التعقيد على مستوى البناء والوظيفة ، فذلك يعني إن العقل الإنساني محكوم بمراحل تنقله من طور العاطفة والحس حيث التصديق بالخرافة والاعتقاد بتعدد الإلهة والأرواح والأساطير وغير ذلك إلى طور قوانين المنطق والنظر لما حوله من خبرات قد تقربه إلى هذا الحد أو ذاك ، ومن ثم طور التفكير المنطقي المنظم الذي يأخذ بالأساليب المنهجية والتطبيق البحثي والميداني في مختلف مجالات المعرفة حيث الانجازات الحضارية والعلمية الهائلة ، وأخيرا طور شيخوخة العقل وتراجعه عما انتهى إليه العلم والإبداع إلى ضروب من العجز والتردي حيث الارتداد والنكوص إلى الخرافة والأساطير من جديد .
((الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ))/ ( الروم /54) .  وهذا هو حال العقل الإنساني الذي يستمد أنماطه الفكرية من نوع المرحلة التي يعيشها حسب ما اشار إليه ابن خلدون في تقسيمه للمراحل التي يمر بها المجتمع ( بدوية – ريفية – حضرية ) وما أشار إليه كومت ( لاهوتية – ميتافيزيقية – وضعية ) وغيرهما من علماء الانثروبلوجيا والاجتماع أمثال سبنسر ودوركهايم وتوينبي . 
إن الغرض من الإشارة والتنويه لهذه الدورة في صعود وتألق العقل الإنساني وانحطاطه في صيرورته التاريخية القصد منها هو إن سقوط بغداد 1258م ومن ثم سقوطها عام 2003 م يمثل مرحلة تشويه وارتداد لبعض القيم والمعتقدات في جو تتصارع فيه قيم الخير مع قيم الشر في ضوء انهيار كبير لمرافق الدولة ومؤسساتها الفاعلة . 
 إن حضور الدولة والدين وشخوصهما في بناء المجتمع وقت الحروب والأزمات له ما يسوغه في استنهاض المجتمعات وتطورها قديماً وحديثاً . وبحكم وجود الدولة وفاعلية قوانينها استطاعت الدول الأوربية أن تعيد إصلاح بنيتها التحتية بعد الخراب الذي تعرضت له أبان الحرب العالمية الثانية .
بل وكأن صحوتها لهول المشكلة جعلها تخطو بفاعلية وشفافية نحو التقدم بكل مجالاته لاسيما وان أكثر مفاصل التقدم التقني الهائل الذي أنجزته الحضارة الأوربية قد تحقق كرد فعل لذلك الخراب والدمار الذي هزّ واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي . 
ولكن ما حدث للدولة العراقية بعد عام 2003م مختلف تماماً . فإذا كانت المجتمعات الأوربية التي نهضت من جديد قد استفادت على الأقل من ومجوداتها وثرواتها المادية وصلاح الدولة بمؤسساتها العسكرية والاقتصادية والسياسية حيث عملت بكامل حريتها في مجال التعمير والبناء ، فان مسألة الحرب والاجتياح الذي تعرض له العراق لم تكن مسالة قتل واغتيال للمجتمع بكل إمكاناته المادية والمعنوية .
  فما عمد إليه الحاكم المدني الأمريكي ( بريمر ) من تشريعات وإجراءات جاءت ليس لتحطيم وتخريب البنى التحتية للمجتمع بل لنهب وتهريب معظم موجوداته المادية والصناعية بهدف تفويت فرصة التعمير والبناء على العراقيين والعمل على ألحاقهم من جديد بدائرة التخلف والتبعية .
   إن الأسباب والحيثيات المؤدية إلى الهزيمة والاستسلام والشعور المؤلم باحتقار الذات والاستهانة بها إنما يعود إلى تجرد الواقع الذي نعيشه من أدوات التجدد والانفتاح السليم على الخصائص العصرية المتغيرة ، مما يقودنا إلى الورائية في المكان والزمان وتهميش حق الذات في الانتماء إلى العصر بالشكل المطلوب . 
أن أصحاب النظرة المتشائمة ودعاة الهروب واللجوء إلى الأخر كانوا وما يزالون على تصالح تام مع الأخر في الوقت الذي لم يكلفوا أنفسهم بجدية أن يبنوا جسوراً من التفاهم مع الذات . 
وبدلاً من أن يعتمدوا في قراءاتهم لصفحات مثل هذا التفاهم وما تستدعيه من استفسار لكوامن التراث واستحضار قيمة الإبداعية ، راح هؤلاء يتشبثون بمقاييس ونماذج غربية لا يمكنها إن تحقق ما هو مطلوب ومراد  من تلك القراءة .
  وبحكم إن المشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي مشكلات مركبة ومعقدة ذات علاقة بتردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، حيث تشابكت وظهرت ميول واتجاهات نحو اللامسؤولية واللامبالاة وانتشر الفساد الإداري والسياسي والأخلاقي على مستوى العلاقات الاجتماعية ، كان لابد من البحث عن بعض النماذج والتصورات التي عملت على دعم دور الدولة والدين في الضبط والترشيد والاستنهاض بالمعرفة العلمية وصولاً الى مجتمع تسوده الأخلاق والإرادة . 
إن النماذج والتصورات التي تعاملت مع متغيرات ( الدولة – الدين- العلم – الأخلاق ) وكيفية الموائمة بينها وجدناها واضحة في بعض الأفكار والطروحات التي قدمها الفارابي وابن خلدون  في ضوء المعالجات التي قدموها لإعادة بناء المجتمع كتصورات ومضامين تخطيطية يمكن إن تساعد المفكرين والمخططين من إعادة البناء والانطلاق بالإمكانات المتاحة صوب التقدم والرقي المنشود للمجتمع العراقي لاسيما وان الاثنين عاصرا ظروفاً مشابهة وقريبة من الظروف التي يعيشها العراق من حيث تدهور وانهيار العلاقة بين مكونات الدولة ومؤسساتها السياسية .

selimadel

سليم عادل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 207 مشاهدة
نشرت فى 9 إبريل 2012 بواسطة selimadel

ابحث

تسجيل الدخول

سليم عادل إبراهيم

selimadel
»

عدد زيارات الموقع

428,276