قبل مئة عام كانت المرأة مستبعدة من مكاتب الاقتراع والمناصب السياسية ليقتصر عملها على بعض المهن التجارية. أما اليوم، وعلى رغم عدم تحقيق المساواة بينها وبين الرجل في بقاع مختلفة من العالم، تحتلّ المرأة مكانةً مهمة، ليس في الأسرة فحسب، بل في مواقع اتخاذ القرار في المجتمع ككلّ مبرهنةً عن قدرتها على مواكبة الرجل في أشد الوظائف صعوبةً إن لم يكن التفوق عليه.
وهكذا تولت المرأة مهمات مرموقة في مناصب سياسية ومختبرات علمية وميادين الطبّ والمحاماة التي كانت في الماضي البعيد حكراً على الجنس الخشن. واندثرت الفكرة الواسعة الانتشار القائلة بتفوق الرجل على المرأة في المهمات العلمية وعدم استيعابها مفاهيم الفيزياء والرياضيات والكيمياء. ولعلّ أكبر برهان على تلاشي هذا المفهوم اضطلاع المرأة بمهمات تعتبر شاقة بالنسبة إلى الرجال فما بال النساء منها؟ وأبت المرأة شأنها شأن الرجل أن تقتصر اكتشافاتها على الكرة الأرضية وحدها. وحدا بها عزمها على التألّق إلى التحليق عاليًا. وكانت "بلانش سكوت" أول امرأة تقود طائرة في عام 1910 تبعها الكثير من النساء، ونظمت أول مسابقة للطيران للنساء عام 1929 وسط احتجاج شديد من الرجال والنساء معاً وتهديدات بإلغاء السباق. ولكن المباراة تمّت بمشاركة عشرين امرأة فاعتبر الحدث منعطفاً تاريخياً في حياة النساء.
وشهدت الحرب العالمية الثانية مساهمة المرأة في عالم الطيران إذ احتلّت هذه الأخيرة مواقع أساسية في الميدان المذكور مضطلعةً بمهام كابتن اختبار أو ميكانيكي أو أستاذ طيران. وفي مطلع عام 1943 كان 31،3 في المئة من اليد العاملة في الطيران من النساء.
ولعلّ المرأة الروسية أول من ساهم بصنع تاريخ المرأة في الفضاء مع إرسال الرائدة فالنتينا تيريشكوفا إلى الفضاء على متن المكوك الفضائي "فوستوك ستة" في حزيران (يونيو) 1963. وكانت المرأة الروسية اكتسبت شهرةً واسعة في موطنها والعالم بسبب هوايتها المفضلة: القفز بالمظلة. وما لبثت الحكومة السوفياتية أن كرّمتها على جهودها مانحةً إياها لقب البطلة لا سيما أنّها أتمّت 48 دورة حول مدار الأرض.
ومضت عشرون سنة قبل أن يشهد الفضاء أثر امرأة أخرى. وكانت الوكالة الدولية للفضاء "ناسا" في الولايات المتحدة الأميركية عكفت خلال عقود على جمع مئات الدراسات عن ردّة فعل رواد الفضاء النفسية والجسدية. واقتصرت الدراسات على الرجال فيما خصصت واحدة منها فقط للمرأة، لا سيما أنّ الحكومة الأميركية لم تكن تؤمّن آنذاك بقدرة المرأة على تحمّل هذا النوع من الاختبارات الشاقة.
وفي عام 1960 قامت "ناسا" بأول اختبار للمتدربات في إطار برنامج "مركوري"، فخضعت ثلاث عشرة امرأة متفوّقة في ميدان الطيران المدني (لم يكن من نساء في ميدان الطيران العسكري في الجيش خلال تلك الفترة) للتدريب على برنامج "مركوري" فبرهنّ عن جدارتهن أسوةً بالرجال.
ولكن في عام 1961، وعلى رغم نجاح المرأة في الاختبار المذكور، ألغت "ناسا" العملية بأكملها متذرّعة بضرورة تدرّب النساء في قاعدة اختبار الطيران في "إدوردز" المغلقة أمام النساء. وعزا البعض تصرّف "ناسا" هذا إلى خشيتها من اعتبار العملية قبولاً للمرأة في ميدان الفضاء. ووفق الدكتور دايفيد وينتر المسؤول السابق في دائرة العلوم التابعة لـ"ناسا" أعطيت مبررات عدة لإلغاء العملية، منها افتقار المركبات الفضائية الى وسائل تسمح للمرأة بقضاء حاجاتها اليومية. وكانت كلفة تزويد المركبة بهذه الوسائل المطلوبة تصل إلى ثلاثة ملايين دولار أميركيّ.
وصُدّق على المشروع رسمياً عام 1972. وأخضع الدكتور ساندلر ومعاونه رئيس قسم دراسات العلوم الحية اثنتي عشرة ممرضة يعملن في قطاع طيران الجيش إلى دراسة أولية عن إمكان تأقلم المرأة مع الرحلات الفضائيات. وبما أنّ نتائج الدراسة كانت إيجابية أمضت "ناسا" ثلاث سنوات في إعداد دراسة طبية مقارنة متعمّقة. وخضعت مجموعات ثلاث من النساء والرجال معاً تتراوح الأعمار فيها بين 35 و45 سنة و45 و55 سنة و55 و65 سنة إلى اختبارات كاملة على امتداد خمس سنوات. وكان من بين النساء صحافيات ومهندسات وطبيبات... إلخ.
وأوكلت "ناسا" مسؤولية البرنامج الذي بدأ عام 1976 مع فئة العمر الأولى إلى دي أوهارا الممرضة التي اهتمت برواد الفضاء بين 1961 و1963.
وتخلّى نصف عدد النساء عن الاختبار منذ المقابلة الأولى عندما علمن أن الأجر المطروح عليهن هو دون الحد الأدنى. وأجرى النصف الآخر مقابلات مختلفة هدفها التعرّف إلى شخصية المرأة المتقدّمة بالطلب وقدرتها على التعاون مع فريق العمل فضلاً عن خضوعها لاختبارات جسدية قاسية منها ردة فعل جسدها إزاء عامل الجاذبية، استخدام الأوكسجين، وأثر الإرهاق في تصرّفها عند دخولها الفضاء.
أما نتائج الاختبار فكانت مدهشة، إذ لاحظ الباحثون أنّ درجة تأقلم النساء جسدياً ونفسياً كانت أكبر منها عند الرجال. كما أنّ فريق النساء كان أكثر تلاحماً وتعاوناً بين أعضائه من فريق الرجال. ويشير الطبيب "ساندلر" إلى أنّ النساء يتحمّلن عامل السرعة الفائقة أكثر من الرجال. إلا أنّه يوضح من جهة ثانية أنّ مفعول الجاذبية يجعل من المرأة كائناً أضعف من الرجل على الأرض. وتحتاج المرأة بسبب هذا المفعول إلى قوة ومقاومة جسدية للإتيان بأعمال شاقة. وتكون المرأة بالتالي عاجزةً عن منافسة الرجل على الأرض، أما في الفضاء الخالي من الجاذبية، فليس لعامل القوّة البحتة أي أهمية من هنا تأكيد الطبيب أنّ "النساء سيغلبن الرجال في الفضاء".
وفي عام 1978 اختارت "ناسا" مجموعةً جديدةً من رواد الفضاء من بينها ثماني نساء من أصل 35 أي بمعدل عشرين بالمئة.
وكانت سالي ريد أول امرأة أميركية تسافر إلى الفضاء عام 1983 وهي اليوم مديرة معهد الفضاء في كاليفورنيا. أما جوديث ريسنيك فثاني امرأة في الفضاء وأول امرأة تلقى حتفها إثر حادثة مكوك شالنجر عام 1986.
ومنذ هذا التاريخ كانت مساهمة النساء في الفضاء ملموسةً للغاية إذ شاركت النساء الرجال في المهمات والتضحيات على حدّ سواء. ولعلّ أبرز دليل على ذلك ما حدث أخيراً مع حادث المكوك "كولومبيا" الذي انفجر في الأول من شباط (فبراير) 2003 عند عودته من رحلة دامت ستة عشر يومًا. وكان على متنه سبعة رواد فضاء إثنان منهم من النساء: الرائدة الهندية الأصل كالبانا شاولا والأميركية لوريل كلارك.
ولع الرائدة الهندية بالطيران بدأ منذ نعومة أظافرها، حينما كانت تراقب الطائرات تقلع من نادي الطيران المحليّ المجاور لمنزلها، فكانت تطلب إلى والدها بإلحاح السماح لها بركوب إحدى الطائرات وسرعان ما لبّى هذا الأخير طلبها. وشعرت كالبانا بميل شديد نحو الفضاء فدرست الهندسة الفضائية في موطنها الهند الذي غادرته إلى الولايات المتحدة بعد برهة حيث حصلت على شهادة دكتوراه في الهندسة الفضائية من جامعة كولورادو. وعملت كالبانا في مشاريع فضائية مختلفة وقامت بأكثر من ثمانين اختباراً علميّاً في الميدان وترأست العديد من الأبحاث. أوّل رحلة فضائية لها كانت في عام 1997 على متن المكوك "كولومبيا" وكانت مسؤولةً عن تشغيل ذراع المكوك الآلي لمدة 16 يومًا. ولكن القدر شاء ألا تكمل تألّقها المهنيّ فقضت حتفها في ثاني رحلة لها على متن المكوك نفسه الذي كان يقوم برحلته الثامنة والعشرين.
أما الرائدة لوريل كلارك الأميركية فحائزة على شهادة دكتوراه في الطب وشهادة ماجستير في علم الحيوان وهي ضابط طبيّ في البحرية الأميركية ولها باع طويل في الغواصات والسفن لا سيما في ميدان طبّ الإشعاع. اختارتها "ناسا" لتنضم إلى الرواد عام 1996 فنجحت في الاختبارات الجسدية والنفسية ببراعة منقطعة النظير. رحلة "كولومبيا" الفضائية كانت أول رحلة لهذه الرائدة التي لم تكن لتتصور يوماً أنّها ستغدو رائدة فضاء لا سيما أنّ اهتماماتها كانت تقتصر على البيئة والنظام الحيويّ والحيوانات، إلا أنّ فضولها العلميّ دفعها نحو عالم الفضاء. آخر تعليق لها قبل انفجار المكوك كان: "كم نحن محظوظون للعمل هنا فوق الأرض حيث نكحّل أعيننا بمنظر كوكب الأرض الخلاب".
جوديث، لوريل، وكالبانا ثلاثة نساء أردن الوصول إلى القمر وملامسة النجوم وفعلن!
ساحة النقاش