النسخ في القرآن الكريم ( 1 ) 

مقدمة

الحمد لله الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله ، وأحسن الحديث حديثه عز وجل ، فلا غرو إذًا أن يكون الاشتغال به تعلما وتعليما ودراسة وتفهما أشرف ما عمرت به الأوقات ، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات ؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير ، والعاصم من كل شر ؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ، ويحشر يوم القيامة أعمى ، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل . وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة ، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى ، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله ، وشرح ألفاظه وبيان معانيه ، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه

 

ومنسوخه ومكيه ومدنيه ، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم .

 

وقد عد الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب ( الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالىلقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلفا في هذا الباب  مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز ، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره ، والبحث في لجته والغوص في أعماقه .

 

يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم ، أو استنباط الأحكام منه ، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس ؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم ، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم . فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال : ( ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا ، والعمل به واجب ديانة ، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه ، فالواجب على كل عالم علم ذلك ؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله ، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله )  اهـ .

 

وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ) ص 45 ( نشر دار المنارة ) : ( وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن ، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه ، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله ) . اهـ .

 

وقد قال علي رضي الله عنه : ( لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ )  . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يذكر الناس فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه . وفي لفظ آخر أنه قال له : من أنت ؟ قال : أنا أبو يحيى قال : بل أنت أبو اعرفوني وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاضٍ فقال له : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت  وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى : <!--<!-- يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ <!--<!-- هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك  وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ( ابن راهويه ) رحمه الله : ( من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما )  وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء : ( لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام )  .

فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين ، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء ، أو لفتيا على وجه الخصوص ؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس ، وضرورة إحاطتهم به أشد .

 

وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن ( النسخ في القرآن الكريم ) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى ، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح ، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص . ثم أشير إلى

شروط النسخ التي ذكرها العلماء ، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه ، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما . بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم . ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن ، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم ، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن ، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك ، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له ، وتركيزا عليه ، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له .

 

وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق . وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا من لدنه علما .

 

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الفصل الأول

النسخ لغة واصطلاحا

 

قال الجوهري في الصحاحنسخت الشمس الظل وانتسخته : أزالته ونسخت الريح آثار الدار : غيرتها ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى . والنسخة بالضم : اسم المنتسخ منه ، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها ، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم  اهـ .

 

وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغةالنون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه . قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره

مكانه وقال آخرون : قياسه تحويل شيء إلى شيء : قالوا : النسخ : نسخ الكتاب والنسخ : أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى . وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب . وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم ، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون .

قال السجستاني : النسخ : أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب  اهـ .

 

وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخنسخ الشيء نسخا أزاله يقال : نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب . ويقال : نسخ الله الآية : أزال حكمها وفي التنزيل العزيز <!--<!-- مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا <!--<!--ويقال : نسخ الحاكم الحكم أو القانون : أبطله . والكتاب : نقله وكتبه حرفا بحرف .

 

انتسخ الشيء : نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان : نسخ أحدهما الآخر يقال : أبلاه تناسخ الملوين . وتناسخت الأشياء : تداولت فكان بعضها مكان بعض . . .  إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا .

 

وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ . قولهنسخت الكتاب نسخا من باب نفع : نقلته ، وانتسخته كذلك ، ثم نقل عن ابن فارسقوله المتقدم : إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه . إلى أن قال المقري : و( النسخ ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي ، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما ، سواء فعل كما في أكثر الأحكام أو لم يفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء ؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم ( نسخ ) قبل وقوع الفعل إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا .

 

وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه :

 

أولها : أن يكون بمعنى النقل ( نسخت الكتاب ) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه ، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا .

 

وثانيها : أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم ( نسخت الشمس الظل ) إذا أزالته وحلت محله ، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا .

 

وثالثها : أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم ( نسخت الريح الآثار ) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار  فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه ( رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ) ، فالحكم المرفوع يسمى ( المنسوخ ) والدليل الرافع له يسمى ( الناسخ ) ، ويسمى الرفع ( النسخ ) ، فالنسخ إذا يقتضي ( منسوخا ) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق  .

 

وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنهإزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول ، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول )  وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله ( وقال أصحابنا : إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد )  وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء

زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر . وهو قريب من تعريف البغدادي . وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه ( بيان لانتهاء مدة الحكم ) زاد الجصاص ( والتلاوة )  وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا ، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية .

 

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية إعداد : الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء
sayedmetwly

كل عام انتم بخير

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 161 مشاهدة
نشرت فى 6 يناير 2011 بواسطة sayedmetwly

ساحة النقاش

من نحن

sayedmetwly
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

17,601

قنوات التواصل