هكذا كانوا الرواد العظام

د. سيد علي إسماعيل

كلية الآداب – جامعة حلوان

ــــــــــــــــــــــ

كلما أنبش في وثائقي، أجد دروساً، تجعلني أتحسر على الزمن الجميل، وأقارن بينه وبين زماننا الحالي!! وسأضرب مثلاً حيّاً حدث أمامي منذ عامين، يتلخص في الآتي: كنت أشاهد بروفات  مسرحية في آخر ليلة قبل العرض النهائي – أي البروفة الجنرال - وهي مسرحية مشتركة في مهرجان عربي شهير. وفجأة – وأثناء التمثيل - تلقت البطلة اتصالاً هاتفياً من زوجها! فما كان منها إلا إنهاء البروفة دون اكتمالها! فتوسل إليها المخرج بأن تُكمل العمل، فاعتذرت! فتدخلت أنا في الأمر، فشعرت البطلة بالإحراج – بوصفي ضيفاً على البلد العربي – وأكملت البروفة على مضض!! وموقف آخر شاهدته في عرض مسرحي في إحدى البلدان الخليجية، عندما وجدت في العرض دورين نسائيين. وبعد جهد جهيد – في تأمل تمثيل الدورين - اكتشفت أن ممثلة واحدة تؤدي الدورين معاً!! وعندما سألت لماذا قامت بهذا الجهد الكبير، قالوا لأن الممثلة الأخرى اعتذرت قبل العرض بساعات؛ لأنها شعرت بتعب فجأة!! أمام هذين المثالين، أعرض عليكم مجموعة من الوثائق، التي تُعدّ أمثلة مشابهة للأمثلة السابقة، ولكنها من الزمن الجميل، لنرى موقف الممثلين العظماء الكبار فنياً وأخلاقياً أمام هذه المواقف:

الوثيقة الأولى، عبارة عن خطاب من النجمة الكبيرة المرحومة (نعيمة وصفي) إلى مدير عام الفرقة المصرية الحديثة عام 1957، تقول فيه: "... لما كنت مريضة جداً في يوم 27/4/1957 وكنت قد طلبت أجازة مرضية، ولكن الفرقة اضطرتني للنزول والعمل لعدم وجود زميلة تقوم بالدور المسند إليّ، ولضيق الوقت زائد حالتي الصحية، اضطررت لأخذ تاكسي كلفني مبلغ 50 خمسين قرشاً صاغاً أجرة عن المسافة من المعادي إلى مسرح الأزبكية. فأرجو الموافقة على صرف هذا المبلغ مع مزيد الشكر"!! وهذه الوثيقة لا تحتاج إلى تفسير أو شرح!! فالنجمة الكبيرة نعيمة وصفي مريضة، وفي أجازة مرضية بالفعل، وهناك من يقوم بدورها في حالة غيابها – وهو أسلوب متبع ومعروف – ولكن في هذا اليوم البديلة لها لم تحضر، ولأنها البطلة والنجمة تحاملت على نفسها وأعصابها وقاومت مرضها من أجل إسعاد جمهورها، وحفاظاً على سمعة الفرقة المصرية! أما القيمة المالية التي تطالب بها، وهي (خمسون قرشاً)، فأقول أنها تساوي الآن أكثر من 100 جنيه، وهو مبلغ من الصعب التضحية به!!

الوثيقة الثانية مؤرخة في 12/6/1957، وهي خطاب إلى مدير عام الفرقة المصرية الحديثة، يقول نصه: " أرجو صرف مبلغ 830 مليماً قيمة الدواء الذي أمرتم سيادتكم بشرابه للأستاذ حسين رياض أثناء تمثيل مسرحية (سلك مقطوع) لمرضه". وقصة هذا الخطاب، تتمثل في أن الفنان القدير حسين رياض كان مريضاً في هذه الفترة، ولكنه تحمل آلام المرض وتحامل على نفسه وأدى دور الطبيب في مسرحية (سلك مقطوع) تأليف عمر وصفي وإخراج فتوح نشاطي. ولكن مجهود التمثل مع المرض أضعف الفنان، فما كان من مدير الفرقة إلا أن أمر بشراء دواء له بمبلغ كبير وهو 83 قرشا – أي 830 مليماً – وهذا مبلغ كبير، ولابد أن تتحمله الفرقة، ولكن الماليات رفضت ذلك وجعلت المبلغ من مستحقات التأمين الصحي للفنان حسين رياض!! ومهما كانت الجهة التي تحملت هذا المبلغ، فالشاهد هنا هو إصرار الفنان على تأدية عمله رغم مرضه من جهة، ومن جهة أخرى رعاية مدير الفرقة للفنان!!

الوثيقة الثالثة مؤرخة في يونية 1957، وتتعلق بالفنانة القديرة (سناء جميلة) بطلة مسرحية (ست البنات)!! ففي إحدى ليالي العرض، شعرت الفنانة سناء بتعب شديد لا تعرف أسبابه؛ ولكنها تحاملت على نفسها، حتى مرت فصول المسرحية مرور السلحفاة. وفور نزول الستار خارت قواها وأغشي عليها وسقطت أرضاً!! فطلبت إدارة الفرقة سيارة الإسعاف، التي نقلتها إلى طوارئ الإسعاف بمرافقة الأستاذ رشدي. وبعد الكشف على الفنانة والاطمئنان عليها، وتشخيص الحالة بأنها إرهاق شديد في العمل، طلب الطبيب المعالج جنيهاً واحداً نظير الكشف الطبي! فدفع هذا المبلغ الأستاذ رشدي، وهنا تأتي الوثائق لتقول إن هذا الموقف له إيصالان: الأول من قسم الخدمة الطبية بجمعية الإسعاف العام الأهلية بالقاهرة، ويُفيد بأن الممثلة (سناء جميل) بالفرقة المصرية دفعت جنيهاً واحداً قيمة الكشف عليها عن طريق الأستاذ رشدي. والإيصال الآخر إذن صرف من ماليات الفرقة المصرية، ويفيد بأن الفرقة دفعت جنيهاً واحداً للأستاذ رشدي، وذلك – كما هو مكتوب – " قيمة الكشف الطبي على السيدة سناء جميل لمرضها أثناء التمثيل وذلك بواسطة طبيب الإسعاف".

 

هذه نماذج بسيطة؛ كي يتعلم الفنانون الآن من الفنانين السابقين الكبار أمثال (نعيمة وصفي، وحسين رياض، وسناء جميل)، كيف كانوا يتحملون المرض، ويضحون بصحتهم من أجل إسعاد الجماهير، التي تأتي كل ليلة لرؤيتهم وسماعهم في الزمن الماضي الجميل، الذي نتمى عودته في صورة متجددة من خلال شباب المسرح الموهوبين!!

المصدر: جريدة مسرحنا - عدد 407 - 18 مايو 2015
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 114 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

815,660