يدور حديث المسرحيين هذه الأيام حول ظاهرة عرض المسرحيات على مسارح الدولة؛ دون أن تمرّ نصوصها على لجان القراءة المختصة!! وبوصفي أستاذاً جامعياً وباحثاً، ليس من حقي الوقوف مع أو ضد هذه الظاهرة؛ لأن وقوفي مع طرف ضد طرف، يعني أنني أنحاز بصفة شخصية، وهذا الانحياز ضد صفة الباحث الأكاديمي!! وعلى الرغم من هذا؛ فإنني أستطيع أن أخدم الموضوع بصورة بحثية أكاديمية، من خلال ما أمتلكه من وثائق تتعلق بهذا الموضوع منذ أكثر من ستين عاماً!! فماذا لو كشفنا النقاب عن أحد أعلام لجان القراءة، واطلعنا على نماذج مما كتبه من تقارير قراءة عن نصوص كانت مقدمة إلى مسرح الدولة من أجل إنتاجها!! ومن خلال هذه التقارير، يستطيع القارئ أن يقارن بين ما كانت عليه لجان القراءة زمان، وما آلت إليه الآن!! ومن خلال المقارنة تظهر الفوارق، ويستطيع القارئ أن يصل إلى الحقيقة، التي ستصل بلا شك إلى الفنان فتوح أحمد؛ بوصفه المسئول الأول عن مسارح الدولة، وما يُقدم عليها من عروض لم تُعرض بعض نصوصها على لجان القراءة المختصة!!

في أربعينيات القرن الماضي، كانت الفرقة المسرحية الوحيدة التابعة للدولة، هي (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى)، وكان عضو لجنة قراءة النصوص فيها، هو المخرج القدير (فتوح نشاطي)!! الذي أملك في أرشيفي الخاص تقارير قراءة موقعة منه بالعشرات، تصنع كتاباً مع تقارير غيره من النقاد القُدامى، أمثال: د.محمد مندور، و د.عبد القادر القط، و د.رشاد رشدي، وسعيد خطاب .. إلخ. وسأنتقي تقريرين فقط من تقارير فتوح نشاطي:

التقرير الأول في عام 1946، وهو عن مسرحية (إبراهيم باشا) لعلي أحمد باكثير، وما أدراك من هو المؤلف الكبير علي أحمد باكثير!! كتب فتوح نشاطي تقريره بأن سرد ملخصاً للمسرحية، وتحت عنوان (الحبكة)، قال: "ضعيفة لا تدرُّج فيها ولا تقدّمة للأشخاص ولا ذروة، وتُفتقد فيها الأزمة، فهي أستعراض تاريخي أكثر منها رواية مسرحية بالمعنى والحركة الخارجية ... إلخ". وتحت عنوان (ملائمتها لرسالة الفرقة)، قال: "ملائمة من حيث طرقها لموضوع جليل". وتحت عنوان (الأسلوب)، قال: "بليغ؛ ولكنه أقرب إلى الأسلوب التاريخي منه إلى الأسلوب الحركي المسرحي". وتحت عنوان (تصلح أو لا تصلح)، قال: "لا تصلح في وضعها الحاضر"!!

التقرير الثاني في عام 1948، وهو عن مسرحية (أميرة الأندلس) لأمير الشعراء أحمد شوقي بك!! كتب فتوح نشاطي في تقريره – بعد سرد الموضوع - عن (حبكة المسرحية): "بطيئة، ومتفرعة، ويغلب عليها طابع القصة". وقال عن (الأسلوب): "أسلوب شوقي المنير". وتحت عنوان (ملاحظات عامة عن الرواية)، قال: "كثرة سرد الحوادث الفرعية والملاحظات التفصيلية عن حياة ذلك العصر والشرح والإسهاب يحرم هذه التمثيلية من التركيز المسرحي. كما أننا نبحث فيها عبثاً عن تلك الشخصية الإيجابية التي نعلق بها ونصفق لكل ما تصنع. فالبطولة معدومة أو تكاد، وجميع شخصيات الرواية تقع عليهم الأحداث فلا يقاومونها، أو يُحكى لنا أنهم قاوموها ثم خذلوا في هذا النضال". وتحت عنوان (تصلح أو لا تصلح)، قال فتوح نشاطي (لا تصلح)!!

هذان التقريران، يعكسان لنا شجاعة لجنة القراءة – متمثلة في فتوح نشاطي – الذي لم يهتم بقيمة أو مكانة المؤلف (علي أحمد باكثير، وأحمد شوقي)، وقالها صريحة أن عملهما غير صالحين لفرقة الدولة!! ولم يتعسف في رأيه، ولم يكذب ولم يناور!! حيث أعطى كل عنصر حقه في التقرير بما للنص من إيجابيات وما عليه من سلبيات، مفضلاً مصلحة المسرح وأهمية العرض الذي سيتم إنتاجه في مسرح الدولة على أية مصلحة أخرى!!

وللعلم فهذه التقارير سرية، ولا أظن أن فتوح نشاطي – رحمه الله – كان يتخيل أن يوماً ما سيأتي، وننشر علناً - بعد سبعين سنة - ما كتبه هو بصورة سرية!! وهذا يعني أن ما كتبه كان حقيقياً وعلمياً ونابعاً من إخلاصه لعمله وعلمه خدمة لمسرح الدولة!! ولو كانت مساحة المقالة أكبر؛ لكنت سردت لك فحوى تقارير عجيبة وغريبة، لا يمكن تخيلها!! ومنها تقرير رفض نص المسرحية العالمية (بستان الكرز)؛ لأنها لا تصلح لنا!! ورفض مسرحيتي (الأفاعي) و(المتمردة) لمحمود كامل المحامي الذي كان يشغل الساحة المسرحية طوال ثلاثين سنة بكتاباته ونقده المسرحي!! ومسرحية (الإسكندر الأكبر) لسنية قراعة. وأخيراً نجده يرفض نص مسرحية (ألكترا) من ترجمة الدكتور طه حسين!! ناهيك عن توصياته بقبول بعض النصوص ولكن بعد تدخله في الإصلاح والترجمة والتعديل والتبديل، وكان ينص على الضغط على المؤلف ليرضخ إلى التعديل المطلوب تحقيقاً لمصلحة عروض مسرح الدولة، ومن أمثلة ذلك: مسرحية (المدرسة الحديثة) للدكتور محمد عبد السلام الجندي، و(المجانين في نعيم) ليوسف الحطاب، و(الحاكم بأمر الله) لإبراهيم رمزي!!

 

 

 

المصدر: جريدة (مسرحنا) - عدد 404 - بتاريخ 27/4/2015
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 276 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

815,580