صمت له كلامه .. وكلام غيره
أ.د سيد علي إسماعيل
كلية الآداب – جامعة حلوان
ـــــــــــــــ
الاثنين التاسع والعشرون من سبتمبر 2014 يوم مشهود في حياتي العلمية!! ففي هذا اليوم حضرت مناسبتين اشتركا معاُ في شيء واحد وهو (الظلم)!! الأول، إنني حضرت أطول جلسة في لجنة الترقيات العلمية، وفيها خضت حرباً ضروساً من أجل رفع ظلم لأحد المتقدمين للترقية، ونجحت في ذلك والحمد لله. وبعد الجلسة توجهت إلى مسرح الهناجر لمشاهدة عرض المونودراما (صمت له كلامه) من تأليف الدكتور (عبد الرحمن بن زيدان) ورؤية إخراجية لماهر سليم – تقبل الله حجه المبرور – وبطولة الفنانة (فاطمة محمد علي). وفي هذا العرض وجدت أموراً فنية .. حاولت طيلة ساعتين أن أجد لها مصطلحاً مخففاً حتى لا أصفها بالظلم .. ولكنني فشلت!! وعذراً لهذه المقدمة - وأرجو تجنبها الآن - ونقرأ معاً رؤيتي النقدية للرؤية الإخراجية لماهر سليم المبنية على الرؤية التأليفية للدكتور عبد الرحمن بن زيدان!!
نشر الدكتور عبد الرحمن بن زيدان كتيباً في سبعين صفحة بعنوان (صمت له كلامه)، به ثلاثة موضوعات: الأول مقدمة - أو (عتبة) وفقاً لقاموس ابن زيدان الصوفي التأملي – بعنوان (المرأة قناع وحقيقة المسرح العربي)، وهي مقدمة جيدة، أبان فيها المؤلف سبب تأليفه للكتيب، وظروف المرأة في المسرح العربي ومعاناتها وفقاً لتجربته معها. والثاني، مونودراما بعنوان (مقامات الجرح). والثالث، مونودراما بعنوان (صمت له كلامه)! والحق يُقال: إنني لم أقرأ الكتيب قبل رؤية العرض؛ لأن من طبيعتي ألا أقرأ أي شيء إلا إذا كتبت عنه، أو أنوي أن أكتب عنه .. حتى لا تؤثر قراءتي الأولى على أسلوبي – عندما أنوي الكتابة – أو يفتر حماسي، فلا أكتب من الأساس.
بناء على هذه القاعدة – ولأنني نويت الكتابة، بناء على رؤيتي للعرض – قررت قراءة نص (صمت له كلامه)، وفتحت الكتيب لأجد النص عبارة عن (إحدى عشرة صفحة فقط) من القطع الصغير (من ص 58 إلى ص69)!! تعجبت في البداية؛ لأن العرض استغرق 35 دقيقة، وهذا الزمن لا يتناسب من النص .. عموما قرأت الصفحات الإحدى عشرة فأصيبت بصدمة كبيرة، لعدم وجود أية صفحة من صفحات النص في العرض الذي رأيته!! وسريعاً فتحت صفحات النص الآخر (مقامات الجرح) لأجد بعض التطابق في بعض صفحاته .. فحمدت ربنا أنني وصلت إلى النص، ولا أعلم حتى الآن لماذا أخذ ماهر سليم عنوان (صمت له كلامه) ووضعه لنص (مقامات الجرح)؟!!
التفسير الوحيد – من وجهة نظري - إن ماهر سليم أراد (مقامات الجرح)، ولكن لو أعلن عنه .. ربما لن ينال الضجة الإعلامية المتوقعة من وجود اسم عبد الرحمن بن زيدان – بوصفه اسماً لامعاً – لا سيما وأن عنوان (صمت له كلامه) نال شهرة إعلامية كبيرة في الآونة الأخيرة بوصفه نصاً مسرحياً، فأراد ماهر سليم ألا يفقد هذا البريق للعنوان فأخذه عنواناً لعرضه، وترك العنوان الباهت (مقامات الجرح)، الذي لم ينل حظه إعلامياً حتى الآن!!
والجدير ذكره إنني قرأت نص (مقامات الجرح) البالغ من الحجم أربعين صفحة (من ص 16 إلى 56)، وهو حجم مناسب جداً للعرض .. وبعد القراءة، أصبت بخيبة أمل جديدة!! فالمخرج لم يعرض الأربعين صفحة كلها!! ولا حتى الثلاثين!! ولا حتى العشرين!! بل عرض (خمس عشرة صفحة فقط) من (ص 16 إلى ص 30)!! ويا ليته عرضهم كلهم وبنصهم .. بل عرضهم بعد اختصار سبع صفحات، فكانت محصلة عرض المونودراما التي ألفها الدكتور عبد الرحمن بن زيدان (ثماني صفحات فقط) بالتمام والكمال!! وهذه الصفحات الثماني مع لحظات الصمت والموسيقى والإضاءة .. إلخ، شغلت 50% من العرض، أما باقي العرض والذي يمثل الـ 50% المتبقية فقام بتأليفه – أو بإقحامه في العرض – ماهر سليم!!
وللأسف الشديد سيقع كل من لم يقرأ النص، ضحية هذه اللعبة، وسيظن أن المؤلف الدكتور عبد الرحمن بن زيدان هو الذي كتب عن الثورة المصرية – وبصورة مباشرة دون ترك مساحة للمشاهد كي يفكر أو يُعمل خياله - ونادى بشعارها (عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية)، ثم سخر منه وألف مقطعاً غنائياً ينهيه بتشويه الشعار قائلاً: (عيش حرية .. حلاوة طحينية)!! ناهيك عن إظهار بؤس الشعب المصري، وفساد نظامه، الذي أظهره عبد الرحمن بن زيدان – هكذا سيظن المشاهد – عندما تحدث في العرض عن العيش - أي الخبز - الذي به مسامير ويأكله الشعب صامتاً بعد معناة الحصول عليه في طوابير العذاب المرهقة! وكذلك الحديث عن الحرية المصرية ذات الأشواك! والسخرية من انتشار حملة الشهادات العالية وهم في بطالة منذ سنوات طويلة!! والطامة الكبرى كانت في السخرية من رجل الدين الملتحي بلحية بيضاء والمرتدي للملابس البيضاء والممسك بالسبحة البيضاء، والذي يدعو بأدعية دينية تنتهي بدعاء عن الليل. وهنا قامت الممثلة بحركة غير مناسبة عندما قلدت رجل الدين في دعائه، وعندما جاءت عند كلمة الليل، كررتها عدة مرات مع المط والتطويل والعض على الشفاة والغمز بالعين دلالة على الليل وما يحدث فيه من أمور جنسية!!
لم يتوقف العرض عند إلصاق كل هذه الأمور بمؤلف النص عبد الرحمن بن زيدان، بل جعله يغوص في أعماق الثورة المصرية، وما يحدث الآن من اعتقال وقبض على المتظاهرين، مع ذكر لقائمة الاتهامات المعروفة لأغلب المتظاهرين!! وهذه الأقوال والإشارات ربما توصم ابن زيدان بأمور لا علاقة له بها، مع تركيز العرض على أبيات الشاعر هاشم الرفاعي من قصيدته الشهيرة (رسالة في ليلة التنفيذ)، ودلالة أبياتها - على من ينتظرون الإعدام حالياً – والتي تقول:
أبتاه ماذا قد يخطُّ بنانــي والحبلُ والجلادُ ينتظرانـي
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجـُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِهــا وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفانـي
سَتَمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ في هذا وتَحمِلُ بعدَها جُثمانـي
والحقيقة إن الدكتور عبد الرحمن بن زيدان بريء من كل هذه الأمور؛ لأنه لم يكتبها، ولم ينشرها في نصه!! أما صاحبها فهو (ماهر سليم) .. ومن هنا يأتي تفسير المكتوب في الإعلانات .. فالمكتوب ليس العبارة المعهودة .. العرض من إخراج ماهر سليم!! ولكن المكتوب هو أن ماهر سليم هو صاحب (الرؤية الإخراجية)!! وهي عبارة مطاطة للهروب من المسئولية!
وحتى لا أكون متحاملاً على ماهر سليم وحده، فإنني ألقي اللوم أيضاً على الدكتور عبد الرحمن بن زيدان؛ لأن ماهر سليم لا يجرؤ على فعل ما فعله بالنص دون موافقة المؤلف ذاته، أو على أقل تقدير منحه كل الصلاحيات ليفعل بنصه ما يريد!! لا سيما وأن موافقة ابن زيدان على ذلك موجودة وبصورة رسمية - لماهر سليم ولغيره من المخرجين – عندما كتب في مقدمة كتيبه، قائلاً: "المسرحية عبارة عن مونودراما تسبر بكلامها حياة امرأة تكلم عذابها، وحالاتها، ويبقى مخرج هذه المونودراما هو الكاتب الثاني لهذه الحالات حسب رؤيته لهذه التجربة الكتابية، وإبداعه لها".
ومهما كان الاتفاق بين المؤلف والمخرج، ومن منهما جار على حق الآخر، وهل هذا الجور كان بالاتفاق أو بالاختلاف – لا سيما وأن المؤلف لم يحضر عرضه!! – فإن المتعارف عليه أن المخرج يجب أن يكون أميناً على نص المؤلف! أما أن يأخذ ثماني صفحات من أربعين، ويستكمل عرضه بعبارات وشعارات آنية مستغلاً ظروف البلد وأحداثها السياسية، ليقول إنه عرض عرضاً ثورياً، وأن يُكتب اسمه ضمن أصحاب العروض الثورية .. إلخ، فهذا أمر غير مقبول؛ لأنه مبني على تشويه أول نص للدكتور عبد الرحمن بن زيدان يُعرض في مصر!!
وإذا تطرقت إلى بقية عناصر العرض أقول: إن المخرج ظلم الممثلة المتألقة (فاطمة محمد علي)، عندما حبسها في النصف الأول من العرض داخل كرسيها المتحرك – وهو الأمر الذي حدده ابن زيدان في نصه، ولا أعرف لماذا تمسك به المخرج في حين لم يتمسك بأمور كثيرة في النص – فالممثلة ظلت تلقي الحوار إلقاء دون أية حركة درامية؛ بوصفها معاقة – مهما حاولت جاهدة التعبير بيدها وبملامح وجهها – والدليل على ذلك، إنها في النصف الثاني من العرض – تأليف المخرج – تخلصت من كرسيها – أو سجنها الدرامي – وانطلقت في الحركة المعبرة والغناء الجميل، وحركات اليدين بصورة تعبيرية أوبرالية، استطاعت أن تبرهن على قدرتها التمثيلية، التي سلبها منها المخرج في النصف الأول .. ذلك النصف الذي لم ينجح فيه المخرج، عندما جعل أغلب أدائه في عمق المسرح – آخر نقطة بعيدة – فانقطع تواصل الجمهور مع الممثلة التي كانت تتحدث جالسة بعيدة عن نظرنا فلم نر تعبير وجهها، وبعيدة عن آذاننا فلم نسمعها بصورة جيدة!!
أما الحديث عن السينوغرافيا ومفرداتها، فسنجد الإضاءة المعبرة لمحمد عبد المحسن – في أغلب أوقات العرض – وبالأخص في انتقاء ألوان الإضاءة المعبرة عن المواقف الدرامية، ونفسية المرأة وحديث ذكرياتها .. فالإضاءة الحمراء للخوف، والبيضاء للفرح .. إلخ. والانتقاد الوحيد الموجه للإضاءة – ويوجه أيضاً إلى الأزياء – هو عدم تناسب توجيه البقعة الضوئية – الدائرة – بإضاءة بيضاء على الممثلة المرتدية لملابس بيضاء أيضاً، مما أعاق الرؤية العاكسة على عيون المشاهدين، وأدى إلى أن أغلق المشاهد عينيه حماية لها من شدة انعاكس الضوء الأبيض، أو أشاح بوجهه بعيداً .. وفي الحالتين ضاعت الرؤية ولحظة التواصل عند المشاهد. وفي مقابل ذلك هناك إيجابية جيدة للإضاءة عندما تلاحمت مع لوحات ديكور منذر مصطفى في هارموني متجانس أضفى جواَ مناسباً مع مضمون العرض في بعض أوقاته، لا سيما لحظات المشاعر والذكريات عند المرأة المعاقة!!
بقى أمران: الأول هو المخرج المنفذ (يوركا)، الذي لا أعلم هل حافظ على أسلوب المخرج ماهر سليم – الذي يؤدي فريضة الحج الآن – أم أنه غيّر في الأسلوب؟! والأمر الآخر هو أن الممثلة (فاطمة محمد علي) – بعد العرض – لاحظت أنها تسير بصورة غير طبيعية – وكأنها مصابة في قدميها!! فهل هذه الإصابة كانت ذا تأثير سلبي على أدائها، لا سيما في النصف الأول أثناء حبسها في الكرسي المتحرك أم لا؟!!
رأيي الأخير فيما شاهدته وقرأته عن (صمت له كلامه)، هو: أن العرض ينتقص من اسم الدكتور عبد الرحمن بن زيدان ومكانته المسرحية؛ لأنه تشويه كبير لنصه المنشور! ولا أعلم هل تم هذا التشويه بعلمه أم بدون علمه! لا سيما وأن التشويه لم يكن في النص فقط، بل كان في مكان العرض!! فالعرض لم يتم على مسرح الهناجر الرئيسي – كما يعتقد القارئ – بل كان في قاعة المعارض الجانبية .. وعدد كراسيها المتنقلة بالأيدي – غير المثبتة – لا تتجاوز الثلاثين!! وأخشى أن يقول قائل: ربما لم يجد المخرج في نص ابن زيدان ما يحفزه كي يخرجه بصورة تتناسب معه كعرض مسرحي متكامل!! سأرد عليه وأقول: وما الدافع الذي جعل ماهر سليم يختار هذا النص؟؟
ساحة النقاش