الأسئلة .. كانت البداية!

أ.د سيد علي إسماعيل

كلية الآداب – جامعة حلوان

ــــــــــــــ

عشرون عاماً مرّت على ظهور أول عدد من مجلة (البحرين الثقافية)! وكم كانت سعادتي عندما كُلّفت بكتابة مقدمة هذا العدد؛ كي أكتب عن الفكر البحريني، الذي لمست أحد جوانبه بصورة مبكرة في العصر الحديث، قبل ظهور (مجلة الكويت) عام 1928؛ بوصفها أول مجلة أدبية ثقافية، تهتم في موضوعاتها بأدب البحرين وثقافته، لا سيما الحديث عن بدايات التعليم وظهور المنتدى الأدبي.

فمن المعروف أن مجلة (المقتطف) (1876 – 1952م) - التي صدرت من بيروت في تسعة أعوام، ثم من القاهرة في سبعة وستين عاماً - حافظت في أبوابها الثابتة على (باب المسائل)، وهو باب لطرح أسئلة المشتركين، شريطة أن يذكر المشترك السائل اسمه ومكان إقامته! ومن ثم تقوم إدارة المجلة بنشر السؤال والجواب عليه!

وعندما تتبعت هذا الباب؛ لاحظت أن أهل البحرين بدأوا في طرح أسئلتهم منذ عام 1910؛ ولعله عام بداية اشتراك بعض مثقفي البحرين؛ لأن المجلة تشترط نشر أسئلة المشتركين، لا أسئلة القُراء! وأول سؤال من البحرين طرحه السيد مبارك الخيري، وفيه يقول: من هو إسحق الكندي صاحب الرسالة الدينية المشهورة، ولمن كان معاصراً من الخلفاء، ومن هو إسماعيل الهاشمي الذي كتب رسالة الكندي يدعوه فيها إلى الإسلام؟

وهذا السؤال المتشعب، يعكس فكر هذا المثقف البحريني، الذي طرح سؤاله بصيغة الأسئلة المجمعة، التي لا تحتمل إلا الإجابات الصحيحة المتفق عليها، دون اجتهاد أو تأويل! مما يعني جدية السائل وعدم قبوله بأي إجابة تحتمل المراوغة في الاجتهاد أو التأويل، بل هو يريد الإجابة المباشرة والصريحة؛ لأن سؤاله سؤال ديني!!

وفي فبراير 1911، سأل سليمان ملكي مدياتي – من البحرين - سؤالاً قال فيه: قرأت في المقتطف في السنة الماضية مقالة عن الحياة والموت لسلامة أفندي موسى، ذكر فيها أن سبب قصر حياة الإنسان هو القولون؛ لأنه يخزن العفونات. وقد جاء في سفر التكوين أن الإنسان كان يعيش إلى تسع مئة سنة أو أكثر، فكيف ذلك! وهل لم يكن في أولئك الناس قولون؟

وربما من يقرأ هذا السؤال، يتهم صاحبه بالسطحية والسذاجة؛ ولكن لو أمعن النظر في صيغة السؤال – ووضع في اعتباره زمن السؤال في عام 1911 - سيكتشف أنه أمام عبقري طرح أحد أسئلة التفكير المتمايز! أي الأسئلة التي تحتمل أكثر من إجابة، والتي تجبر الإنسان على استدعاء معلومات أوسع وأعمق مما هو منشور ومتعارف عليه بين الناس أجمعين! والدليل على ذلك أن محرر هذا الباب أجاب إجابة غير موفقة، كانت دليلاً على أن السائل هو الأستاذ ومحرر الباب التلميذ! فقد أجاب المحرر قائلاً: نعم إن التوراة تقول إن الناس كانوا يعيشون تسع مئة سنة أو أكثر. ويجب على المصدقين بها أن يصدقوا قولها، ولا يرتابوا فيه. ولا نرى سبيلاً لمعرفة السبب العلمي لطول العمر حينئذ، ولا داعي لمعرفة ذلك السبب؛ لأن الأمور الدينية لا تتوقف صحتها على وجود أسباب طبيعية لها، أو على معرفة أسبابها الطبيعية. فإذا شاء خالق الكون أن يعمّر الإنسان عشرة آلاف سنة فهو يستطيع ذلك، سواء وجد فيه قولون أو لم يوجد!

وفي أكتوبر 1911، عاد السيد ناصر مبارك الخيري – من البحرين – وطرح سؤالاً، قال فيه: جاء في دائرة المعارف تحت عنوان البحرين ما نصه: "وفتحها أردشير بن بابك، ورمى ملكها نفسه من حصنه خوفاً منه". فمن هو هذا الملك الذي رمى نفسه، وفي أي سنة كان ذلك؟ وهذا السؤال يدل على أن السائل يميل إلى معرفة تاريخ بلاده، وتاريخ حكامها، مما يعني الاهتمام بالأعلام وبعلم الأنساب، وهو من العلوم الأصيلة عند العرب قديماً. كما أن هذا السائل، طرح سؤالاً آخر في العدد نفسه، قال فيه: من اكتشف مغاوص اللؤلؤ في الخليج؟ وعلى الرغم من أن الإجابة لم تكن محددة أو شافية، إلا أن السؤال يؤكد أن السائل مولع بتاريخ البحرين وبثروتها القومية المتمثلة في استخراج اللؤلؤ في هذه الفترة.

وبعد مرور ثلاث سنوات، تطور الفكر البحريني – ربما بسبب كثرة الاطلاع وانتشار المجلة بين المثقفين في البحرين – ففي مايو 1914 طرح عبد الله بن عثمان الشارخ سؤالاً، قال فيه: أكثرت الجرائد من ذكر صورة الجوكندا وسرقتها، فما هي هذه الصورة وما هو تاريخها؟ وهذا السؤال يعكس تطوراً مهماً في ثقافة المثقف البحريني؛ حيث إنه بدأ يهتم بالثقافة العالمية، ويتتبع أخبارها؛ حيث إن صورة الجوكندا أو (الموناليزا) كانت قد سُرقت من متحف اللوفر عام 1911 وبعد عامين أعادتها فرنسا من إيطاليا مع سارقها، الذي حُكم عليه بسنة واحدة سجن. والشاهد في الأمر أن المثقف البحريني أصبح يتتبع الأخبار العالمية فنياً وثقافياً سنة تلو الأخرى.

ومن الواضح أن عبد الله بن عثمان الشارخ، كان مثقفاً واعياً، فبعد سؤاله عن صورة الجوكندا، وجدناه يطرح سؤالاً آخر يستنكر فيه أحد مظاهر الجهل المنتشرة في المجتمعات العربية، وهو (الزار)، الذي يصف طبقة ممارسيه بالطبقة الجاهلة! وسؤاله كان محدداً بحقيقة إغماء بعض المشاركين في هذا الطقس الشعبي الغريب والمرفوض!

وإذا تركنا مجلة المقتطف، وذهبنا إلى أهم مجلة عربية ثقافية أدبية صدرت عام 1893 - ومازالت تصدر حتى الآن في مصر - وهي مجلة (الهلال)؛ سنجدها أيضاً تفرد باباً – شبيهاً بباب مجلة المقتطف – أطلقت عليه اسم (بين الهلال وقرائه). وفي هذا الباب أطل علينا مثقفو (قطر. البحرين) بأسئلتهم المتنوعة، لا سيما عائلة (المانع)! ومن المعروف أن هذه العائلة تقطن دول الخليج العربية، وتتمركز – حالياً – في قطر! ولكن من الواضح أن أغلب مثقفيها كانوا موزعين بين قطر والبحرين في أوائل القرن العشرين! فأغلب عناوين أصحاب الأسئلة المُرسلة إلى مجلة (الهلال) – وتحديداً من من عائلة (المانع) - كانت تُكتب هكذا (قطر. البحرين)، وفي حالات نادرة كانت تُكتب (البحرين) فقط دون (قطر)! مما يعني أن إقامتهم في هذه الفترة، كانت في البحرين أكثر منها في قطر!!

وأول سؤال منشور في مجلة الهلال من هذه العائلة، نُشر في مارس 1922، وطرحه صالح سليمان المانع، قائلاً فيه: نسمع بألقاب الكونت والمركيز والدوق إلخ عند الأوربيين، فنرجو أن تفيدونا كيف يحصلون على هذه الألقاب وهل هي وراثية؟ ولعل القارئ يستهجن طبيعة هذا السؤال؛ ويظنه غير مناسب لأهل البحرين أو الخليج بصفة عامة؛ والحقيقة عكس ذلك! فهذا السؤال له أهمية كبرى بالألقاب والأنساب، التي تعد عصب الحياة السياسية والاجتماعية في منطقة الخليج منذ بدأت الحياة العربية في الجزيرة العربية، ومازالت بالأهمية نفسها حتى الآن!!

ومن الملاحظ أن المثقف البحريني لم يكتف فقط بطرح الأسئلة – في هذه الفترة – وأراد أن يتخلى عن دور المتلقي، وأن يتقلد دور الأديب صاحب الرسالة والرأي ووجهة النظر! ففي يونية 1922 وجه صالح سليمان المانع ملاحظة إلى محرر المجلة، قال فيها: "حضرة محرر الهلال: قرأت في الجزء الخامس من السنة الثلاثين للهلال الأغر مقالة لحضرة الفاضل الأديب توفيق أفندي حبيب أتى بها على ذكر القهوة، ووصف أنديتها الغربية. وقد حداني ذلك إلى كتابة كلمة عنها في بلادنا".

وربما هذه سابقة لم تمرّ على المجلة من قبل! فالباب مخصص لطرح الأسئلة فقط، لا لإبداء وجهات النظر، أو لكتابة المداخلات في شكل مقالات!! ومن المؤكد أن إدارة مجلة الهلال، قدّرت هذه الجرأة من هذا المثقف، ووجدت في كلمته إضافة علمية وثقافية وأدبية مهمة؛ بدليل إنها نشرتها كاملة!! والجيد في الأمر أن الكلمة كانت في شكل مقالة قصيرة؛ أحسبها أول مقالة منشورة من مثقف بحريني – أو قطري - في مجلة الهلال! فحتى الآن لم أجد مثقفاً أو أديباً من البحرين أو من قطر، نشر (باسمه) موضوعاً في مجلة الهلال تحديداً، أو في أية مجلة مصرية قبل عام 1922!! ولأهمية الكلمة المنشورة – أو المقالة تجاوزاً – سأثبتها هنا كاملة؛ لأنها تُعدّ كتشفاً أدبياً مجهولاً منذ أكثر من تسعين عاماً!!

يقول صالح سليمان المانع، تحت عنوان (مشارب القهوة): " القهوة أو شراب البن حلال بإجماع العلماء، ولم يرد ما يستدل به على تحريمها. وقد أخطأ من قاسها بالخمر المجمع على تحريمه والمتفق على مضاره. وفي الحديث (كل مسكر حرام) والقهوة مهما شربت منها وبالغت في تعاطيها لا يشتم منها رائحة سكر. بل بالعكس تجد بها راحة ونشاطاً تستعين بهما على السهر للعبادة وما أشبه ذلك. ويختلف شكل القهوة في بلاد العرب عن الشكل المعروف في بلاد الغرب. فالقهوة في الغرب عبارة عن مسحوق البن يضاف إليه قليل من السكر ويمزج بالماء فيشربونها على هذه الطريقة. أما في بلادنا فيشربون القهوة وحدها وقد يضيفون إليها بعد غليها شيئاً من البهار كالزعفران والقرنفل ليكون لها بذلك أريج طيب. وليس في بلادنا (قهوات) عامة يجتمع فيها الناس لشرب القهوة فإن الخاصة لا يرون ذلك ملائماً لعاداتهم ولو فرضنا أن وجدت (قهوة) فإنهم يستنكفون من الجلوس فيها ولا يستحسنون غشيانها لما يرونه من الحطة بقدر الذين يؤمون (القهوات). على أنهم يغلون القهوة في البيوت ويجتمع الأصدقاء في المنازل لتعاطيها وشربها. وللقهوة شأن عظيم عندهم فهي أول ما يقدم للضيوف وهم يجلبون منها الشيء الكثير وتباع منها كميات عظيمة بأثمان باهظة فقد يبلغ ثمن كيس البن مائة وعشرين روبية أي سبعمائة وثمانين قرشاً مصرياً. وللعرب عناية خاصة بالقهوة فهي مقدمة على كل غذاء لا سيما في البلاد النجدية فقد يعدونها من القوت الضروري لقوام الأبدان ولست أبالغ في قولي أن النجدي يقدر أن يصبر عن الطعام أياماً أما القهوة فلا يستطيع الصبر عنها. لذلك تجد الواحد منهم لا يرحل ولو مرحلة قصيرة إلا وأواني القهوة معه ولا يزوره أحد إلا ويقدم له القهوة. وقد يرون منقصة عظيمة فيمن تزوره ولا يقدم لك القهوة. ولشدة اهتمامهم بأمر القهوة قد أفرد كل واحد منهم في منزله غرفة خاصة بالقرب من الباب الخارجي يجتمع بها مع أصدقائه ومعارفه كل يوم لتناول القهوة. والغرفة المخصصة للقهوة يطلق عليها اسم المجلس أو الديوانية وهي كبيرة تسع كثيرين وتفرش بالسجاد العجمي وفي جوانبها مقاعد وثيرة صفت عليها وسائد محشوة بالقطن ومغطاة بالشال الفاخر أو الحرير المزركش. وفي صدر المجلس حفيرة مستطيلة الشكل ومبنية بالجص تسمى (الوجار) وفي تلك الحفيرة مما يلي الجدار تصف أواني القهوة وفي مقدمها توقد النار التي تغلي عليها. وأواني القهوة مؤلفة من الأشياء الآتية: (الدلال) (المحماس) (النجر) (المبخر). والدلال اسم جمع والفرد دلة وهي ثلاث أسماؤها كما يأتي: خمرة، لقمة، مزل. ولكل منها وظيفة خاصة فالخمرة أبريق مستطيل على شكل أسطواني لخزن الماء الذي تعمل منه القهوة ويخمر به حثلها بعد الغلي، واللقمة أصغر من الخمرة يفور بها الماء وتطبخ فيها القهوة، والمزل أبريق صغير من النحاس الأصفر البراق يصب فيه زلال القهوة ويسقى منه الذين يؤمون المجلس. والمحماس الأداة التي يغلي عليها البن. والنجر الهاون الذي يدق به حب البن بعد نضجه. والمبخر المجمرة تملأ ناراً ويوضع فوقها العود القماري يستنشقه الزوار عند انصرافهم. وقد يجتمع القوم في تلك المجالس يتحادثون ويتسامرون والنار توقد بينهم والقهوة تغلي أمامهم وقد يستحسنون ذلك ولا يرون للقهوة لذة ما لم توقد النار بينهم وتعمل القهوة أمامهم".

ومن الملاحظ أن هذه المقالة – أو المداخلة – المنشورة، كانت فاتحة خير على مثقفي البحرين فيما بعد؛ حيث لاحظت تنوعاً كبيراً في نوعية أسئلتهم المطروحة، ومنها سؤال ناصر الخيري – من البحرين في أكتوبر 1922 – الذي تساءل عن أسباب الصراع بين أسبانيا ومراكش، وطالب المجلة بذكر كلمة إجمالية عن مراكش وأحوالها السياسية، وقد استجابت له المجلة بالفعل! وفي مارس 1923 وجدنا سؤالاً أدبياً من محمد عقيل خنجي – من البحرين – يقول فيه: من هم أكبر شعراء العرب في الجاهلية والإسلام؟ وفي يولية من العام نفسه، سأل عبد الله سليمان المزروع – من البحرين – عن معنى كلمة (فهرست)، وهل هي عربية أم أعجمية؟ ويعود صالح بن سليمان المانع – في يناير 1924 – ويسأل عن فكرة الجندي المجهول! وفي إبريل من العام نفسه، يسأل أخيراً محمد أمين الخنجي – من البحرين – عن أسباب موت عبد الله بن المقفع ... إلخ الأسئلة المتنوعة والمنشورة، والتي تحتاج إلى بحث دقيق لتتبعها!

 

وبناءً على ما سبق، أقول: هذه إطلالة سريعة عن كيفية بداية تكوين الفكر الثقافي والأدبي عند مثقفي البحرين في بدايات القرن العشرين؛ ذلك التكوين الذي مهد الطريق لظهور المجلات الثقافية والأدبية في منطقة الخليج عامة، وفي البحرين خاصة! فالأسئلة التي أثارها مثقفو البحرين في مجلتي المقتطف والهلال منذ عام 1910 نتيجتها المنطقية – أيها القارئ - هذا العدد الذي تحمله بين يديك الآن من مجلة (البحرين الثقافية)!!

المصدر: مجلة (البحرين الثقافية) - عدد 77 يوليو 2014

التحميلات المرفقة

sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 146 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

757,208