استخف بالجمهور وأنكر اللغة العربية وفضل النص على العرض: عثمان صبري .. شاب مسرحي مجهول ومجنون

أ.د سيد علي إسماعيل

كلية الآداب - جامعة حلوان

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

علاقة المسرح العربي بالشباب علاقة تاريخية! فلا مسرح بدون شباب، ولا شباب بدون مسرح! وأستطيع أن أقولها صراحة .. لولا الشباب ما كان للمسرح العربي من وجود!! فعندما جاءت فرقة سليم خليل النقاش اللبنانية لإدخال المسرح باللغة العربية – لأول مرة – في مصر، أعلنت ذلك جريدة الأهرام يوم 16/12/1876، واصفة الفرقة بمجموعة من الشباب العربي، قائلة: "يسرنا أن نرى من أبنائنا نحن العرب شُباناً أقدموا إلى ساحة هذا المضمار"!! وكانت الصحف دائماً تنعت جميع المسرحيين في بداية مشوارهم الفني بالشباب!! فيوسف الخياط عندما بدأ مع فرقته في مصر عام 1879، كانت الصحف تكتب اسمه وعمله هكذا (حضرة الشاب الأديب يوسف أفندي خياط مدير التياترو العربي)! وفي عام 1881 كانت الصحف تتحدث عن (حضرة الشاب سليمان أفندي حداد)! وفي عام 1882 تحدثت الصحف عن (جناب الشاب النبيه سليمان أفندي قرداحي)! وفي عام 1896 أعلنت الصحف عن (شركة التمثيل الأدبي بالإسكندرية بإدارة الشاب الأديب سليم أفندي عطا الله)! وهكذا كانت الصحف تعلن عن ظهور شباب المسرح ممن أصبحوا مشاهير، أمثال: جورج أبيض، ويوسف وهبي، وزكي طليمات.

والجدير بالذكر إن الصحافة كانت تتخذ الشباب وسيلة ناجحة للإعلان عن العروض المسرحية! فجريدة الأخبار يوم 2/12/1897 أعلنت عن تمثيل مسرحية (ثارات العرب) تعريب نجيب الحداد، قائلة: " ما يسر الخاطر رؤية الأدب رائجة سوقه، وشبابنا يختارون الجيد المنتقي، ويفرقون بين الغث والسمين. فهذه رواية (ثارات العرب) التي مثلها جوق إسكندر أفندي فرح أول تمثيل، أعجب بها الذين حضروا تمثيلها فطلبوا إليه إعادتها في هذا المساء وسيمثلها إجابة لطلبهم".

قضايا الشباب في المسرح

وإذا أردنا الحديث عن موقف المسرح العربي من قضايا الشباب ومشاكله، سنلاحظ عدم خلو أية مسرحية من وجود شاب أو شابة، بما يتطلب دورهما المسرحي من مواقف أو مشاكل أو تطلعات .. إلخ هذه الأمور! ولكن أهم مشكلة كانت تؤرق الطبقة الأرستقراطية في المجتمع المصري؛ كانت علاقة شباب هذه الطبقة بأوروبا! لأن أغلب شباب هذه الطبقة، كان لا بد له أن يستكمل دراسته في أوروبا، أو أن يتنزه في أوروبا، أو أن يجد مسوغاً ما؛ كي يسافر إلى البلاد الأوروبية! وهذه العلاقة بين الشاب المصري وأوروبا، لم تُعالج مسرحياً - بصورة مباشرة - في الربع الأول من القرن العشرين – حسب معلوماتي – إلا مرتين: الأولى، جاءت في عرض مسرحي بعنوان (المصري في أوروبا) عام 1913، والأخرى، جاءت في نص مسرحي مطبوع عام 1922 بعنوان (شُبّاننا في أوروبا)، وهو نص لم يُعرض على خشبة المسرح حتى الآن!

ومسرحية (المصري في أوروبا) – كما تحدثت عنها جريدة (الوطن) يوم 26/9/1913 – من تأليف نجيب ميخائيل بشارة، وهو رئيس الجمعية الأدبية العلمية، التي عرضت المسرحية في محافظة قنا المصرية. وقد حضر العرض أعيان قنا، ورجال القضاء والنيابة والطب والمحاماة، وتقدمهم مدير المحافظة حافظ بك حسن، وكامل بك إبراهيم رئيس النيابة، وحكمدار المديرية ومأمور الضبط! وقد وصفت الجريدة ليلة عرض هذه المسرحية، قائلة:

"وفي الساعة المعينة، رُفع الستار. ووقف حضرة رئيس الجمعية نجيب أفندي ميخائيل بشارة وافتتح الحفلة باسم سمو الخديوي المعظم، ثم شكر عن لسان الجمعية سعادة المدير وسعادة رئيس النيابة؛ لغيرتهما على دولة الأدب، ورغبتهما في تقدمها وتنشيط هذه الجمعية. ثم رحب بالحاضرين بقصيدة فيحاء. ثم بُدئ بتمثيل الرواية فأظهر أعضاء الجمعية الممثلون كل البراعة والاتقان، فتوالى لهم التصفيق الحاد ما بين برهة وأخرى، وخصوصاً لرئيس الجمعية ومؤلف الرواية نجيب أفندي ميخائيل بشارة؛ فإنه أجاد وأبدع حتى شهد له بذلك كل الحاضرين، لما أتاه من البراعة التامة في تمثيل دور (فهمي بك)، وخصوصاً في حالة موته. ثم إبراهيم أفندي صدقي مُمثل دور (مسيو جاك)؛ فإنه أجاد كل الإجادة. أما عبارة الرواية فقد سبكها المؤلف في قالب عربي بليغ، تظهر فيه منتهى البراعة. ومغزاها تتضمنه جملة من جُمل الرواية وهى. (إن الشاب متى ضل وهو في عهد ربوبته، فلن تقوّمه الأصقاع النائية، بل تزيد على فساده فساداً. وأنه إذا لم نستأنس من شبابنا الرزانة من صغرهم، فمن العار أن نطوح بهم وبصيت بلادنا للبوار). وقال عن أوروبا: (بأوربا من الشرور ما تقذى به أعين السما، ويندى له جبين الإنسانية، ويكفهر له وجه الشرف. كما أن بأوروبا ذخائر العلوم والعرفان، ومنبع الرقي والمدنية. فكل طباع وما تميل إليه). والخلاصة أن الرواية وقعت أحسن وقع فى نفوس الحاضرين؛ فلهجوا محلهم بالثناء على المؤلف والممثلين. وفى ختام الرواية قام الرئيس وشكر الحاضرين بقصيدة عامرة. ثم انصرف المدعوون وكلهم ألسنة عاطرة بالثناء على هذه الجمعية، التي ترقي الشبيبة وتهذب أخلاقها".

شُبّانُنا في أوربا

في ديسمبر 1923 نشرت مجلة (الهلال) المصرية خبراً – على هيئة إعلان – تحت عنوان (شُبّانُنا في أوربا)، قالت فيه: " قصة تمثيلية، تمثل حياة شباب مصر في أوربا، وضعها الأستاذ عثمان صبري. وهي تقع في نحو 400 صفحة، مهد لها المؤلف بمقدمة طويلة؛ بيّن فيها مزايا التمثيل، وحاجة البلاد إلى الدرامات التهذيبية، وضمّنها ملحوظات مفيدة، ودروساً اجتماعية قيّمة على الأسلوب التمثيلي الحديث". وخلافاً لهذا الإعلان؛ لم أجد كلمة واحدة منشورة عن هذه المسرحية المطبوعة، أو عن عرض مسرحي لها، أو عن مؤلفها عثمان صبري!!

ولحُسن الحظ أن نص هذه المسرحية – المنشورة عام 1922 – كان ضمّن مقتنياتي الخاصة؛ وكنت أنوي نشره والكتابة عنه منذ سنوات طويلة؛ ولكن سبقني إلى ذلك الأستاذ نبيل فرج، ونشر النص عام 2000 في أول عدد من سلسة (نصوص مسرحية) – التي تصدرها هيئة قصور الثقافة المصرية – فصرفت النظر عن نشر النص؛ ولكنني لم أصرف النظر عن الكتابة عنه؛ لأنه نموذج فريد، ليس في الكتابة المسرحية، بل في مقدمته – التي تدور حولها مقالتنا - فما جاء في المقدمة؛ يوقع القارئ في حيرة أمام كاتبها؛ حيث يشعر القارئ إنه تارة أمام رائد مجهول يستحق مكانة مرموقة في تاريخ المسرح المصري! وتارة أخرى يشعر إنه أمام مؤلف مغمور أراد الشهرة بهذا الكتاب! وتارة ثالثة يشعر بأنه أمام شاب مجنون في شطحاته وأفكاره!!

وصف الكتاب

إذا أردنا أن نصف الكتاب من حيث الشكل، سنجده من القطع المتوسط يقع في 411 صفحة! وجاء على غلافه الآتي: (مجموعة روايات صبري التمثيلية، تأليف عثمان صبري، ليسانسيه في الحقوق، جزء1، شباننا في أوروبا، مع مقدمة الكتاب، مبحث في فن التمثيل، 1922)! والنص المسرحي يشغل نصف الكتاب 200 صفحة تقريباً، والنصف الآخر عبارة عن مقدمة نظرية. والكتاب بأكمله مكتوب على فترات زمنية متفاوتة! فالمقدمة بها تاريخان، والنص المسرحي مكتوب في تاريخ ثالث، والكتاب تمّ تحضيره للنشر في تاريخ رابع، وتمّ نشره بالفعل في تاريخ خامس، وهذه التواريخ الخمسة تنحصر بين عامي 1916 و1922، وربما هذا الأمر يُفسر لماذا يشعر القارئ بالحيرة أمام أفكار هذا المؤلف الشاب، كما جاءت في مقدمة كتابه؟ كما سنين ذلك فيما بعد!!

المؤلف

حاولت بكل وسيلة ممكنة معرفة معلومات عن مؤلف الكتاب الشاب (عثمان صبري)، فلم أفلح في ذلك! وأصيبت بإحباط شديد؛ لا سيما وأن المؤلف من المشاهير – هكذا اعتقدت - بناء على عنوان كتابه (مجموعة روايات صبري التمثيلية)! وكأن شهرته كافية بأن يقول اسمه فقط (صبري) ليعرفه الجميع! كذلك مؤهله الدراسي (ليسانسيه في الحقوق) عام 1922، وقيمة هذا المؤهل في هذا التاريخ! ناهيك عن مفاجأة ضخمة وجدتها في آخر صفحة منشورة في نهاية الكتاب، تحت عنوان (مؤلفات المؤلف)! التي تشير إلى أن الكتاب الذي بين أيدينا؛ ما هو إلا الجزء الأول من مجموعة أو مؤلفات صبري التمثيلية البالغة عشرة أجزاء!!

فالجزء الثاني من مؤلفاته التمثيلية، يشتمل على مسرحية (على من الذنب) مع مقدمة كبيرة! والجزء الثالث مسرحية (العقدة) مع مقدمة. والجزء الرابع مسرحية (العذارة أو عطيل الحديث). والجزء الخامس مسرحية (الشرف المصري)، والجزء السادس مسرحية (الحاج عمر). والأجزاء السابع والثامن والتاسع لروايات تاريخية عربية. والجزء العاشر لرواية (الحرب)! كل هذا الإنتاج المسرحي، يُضاف إليه – كما جاء في صفحة مؤلفات المؤلف - كتاب بعنوان (خيالات)، وهو مجموعة مقالات خيالية، ويُضاف إلى ما سبق أيضاً كتاب أخير، وهو (خوار شاب)، وهو مجموعة أفكار ومقالات وأراء حديثة، مع بحث انتقادي عن الشعر العربي، وقصص مصرية متنوعة!!

كل هذا الإنتاج الغزيز زاد من إحباطي؛ لأنني لم أجد معلومات عن هذا المؤلف الشاب الخطير! وحاولت أن أجد أية إشارة عن أي مؤلف من هذه المؤلفات، فلم أفلح!! وكدت أتوقف عن كتابة المقالة؛ لولا عبارة صغيرة منشورة أسفل العنوان الكبير (مؤلفات المؤلف) – لم انتبه إليها في بادئ الأمر – تقول هذه العبارة (تحت الطبع)!! أي أن هذه المؤلفات (جميعها) تحت الطبع!! أي إنها لم تُطبع في وقتها، ولم تُطبع فيما بعد! فما هي إلا مشاريع كان ينوي المؤلف الشاب إنجازها، أو أنها كانت جاهزة للنشر؛ ولكنها لم تُنشر .. كما سنلاحظ فيما بعد!!

مفهوم وفوائد التياترو

إذا أردنا الحديث عن مقدمة الكتاب، سنلاحظ أن المؤلف يتقن الفرنسية إتقاناً كبيراً، ولديه حصيلة معرفية كبيرة عن المسرح الفرنسي، وعن الكتب المنشورة بالفرنسية عن تاريخ المسرح في أوروبا؛ حيث كان كثير الاقتباس من الفرنسيين! وإحقاقاً للحق يجب أن أعترف بأن الجزء الأول من (روايات صبري التمثيلية)، اشتمل على مقدمة نظرية؛ تُعدّ كتاباً عربياً مسرحياً نظرياً غير مسبوق! حيث لا يوجد كتاب منشور باللغة العربية عن تنظير المسرح قبل عام 1922!!

فمثلاً بدأ المؤلف بتعريف مصطلح التياترو نقلاً عن فاجيه، قائلاً: " فن التياترو هو فن أدبي غرضه تصوير الحياة الإنسانية مستعيناً بسائر الفنون في تكمله وتتميم ذلك التصوير". ومن هذا المصطلح انطلق المؤلف في حديثه عن المسرح الفرنسي وتاريخه، وأنواع المسرحيات فيه .. إلخ. ثم تحدث عن (التياترو التمثيلي)؛ ويقصد به خشبة المسرح وما يُعرض عليها من عروض مسرحية! وتحدث كذلك عن (التياترو الأدبي)؛ ويقصد به النصوص المسرحية، التي تُقرأ قبل أن تُمثل!! وخلاصة ما وصل إليه المؤلف من المقارنة بين النوعين، أو بين العرض والنص، إنه ينتصر للنص المسرحي على حساب العرض. ومن ثم وجدته يتحدث عن فوائد النص المسرحي، ومنها:

إنه ألذّ أنواع التسلية العقلية والأدبية، وأكبر مُعلم للإنسان؛ لأنه يعرض عليه عادات وتقاليد وتاريخ البشرية، فيستفيد الإنسان من تجارب السابقين، وكأنه عاش أضعاف عمره! وفي المقابل يستطيع الإنسان أن يثور على الرذيلة ويتجنبها عندما يشاهدها تُعرض أمامه على المسرح في أبشع صورة لها، فينفر منها ويتجنبها. هذا بالإضافة إلى أثر المسرحيات الفكرية والانتقادية والاجتماعية في حركة العقول والحياة الاجتماعية وفي التشريع والقوانين!

وبالإضافة إلى ذلك يقول المؤلف في مقدمته: "وكم كانت الروايات الوطنية أفعل في تحميس الجماهير، وبث روح الحمية والوطنية في صدور الشعب، والتوحيد بين القلوب من مقالات الجرائد وخطب كبار الساسة والوزراء ..... وكم للروايات التاريخية من أياد بيضاء في نشر التاريخ وسير عظماء الرجال في قالب جذاب لذيذ بين الجماهير التي تجهله، أو التي لم تدرسه بتوسع حتى جعلت دار التمثيل من هذه الوجهة مدرسة تاريخ للشعب".

المظاهر المسرحية

تعرض المؤلف للحديث عن غريزة الإنسان في التعبير التمثيلي منذ أقدم العصور، وضرب أمثلة بالشعب المصري؛ ولكن الأمثلة كانت غريبة نوعاً ما، وأسلوب المؤلف كان مستهجناً، وغير مقبول! ومن أمثلة ذلك، قوله: "عند عامة المصريين الجهلة نوعاً من هذه الأنواع، هو الندب بالدفوف عند النساء. فهذا عبارة عن قصيدة محزنة أو مرثية ملحنة تُنشد مع نقرات الدفوف يصحبها شيء من الرقص والحركات المخصوصة ..... كذلك هو الذِّكْر [أي التواشيح والأناشيد الدينية المصاحبة لحركات وإيماءات جسدية] الذي يعمله القرويون (الفلاحون)، بل هو أقرب إلى أوبرا راقصة لما فيه من إنشاد وحركات. وترى أن الباعث إليه هو نفس الميل الطبيعي الإنساني الذي أوجد التمثيل الديني في أوربا في القرون الوسطى".

التمثيل في مصر

تحت هذا العنوان، تحدث المؤلف عن أحوال المسرح المصري؛ حيث أكد على أن الفرق الموجودة هي فرقة جورج أبيض، وفرقة أولاد عكاشة، أما فرقة عبد الرحمن رشدي فليست منتظمة في عملها! ويخرج المؤلف من ذلك بنتيجة وجود كساد في سوق التمثيل في مصر!! ولا أعلم لماذا تجاهل المؤلف وجود فرق أخرى كثيرة، مثل: فرقة نجيب الريحاني، وفرقة علي الكسار، وفرقة منيرة المهدية، وفرقة سيد درويش .. إلخ، وهذه الفرق كانت تعمل في تلك الفترة، بل وكانت أشهر من فرقتي جورج أبيض وعكاشة؟!

هذا التجاهل من قبل المؤلف؛ كان له ما يبرره! حيث أراد إقناع القُراء بوجود كساد – بسبب قلة عدد الفرق المسرحية – وبالتالي يفسح المجال لما أراده لنفسه من مصالح شخصية سنكتشفها فيما بعد!! وحول أسباب هذا الكساد قال المؤلف: "أما سبب ذلك الكساد والانحطاط فهو أن الجوقات تشتكي من إهمال الجمهور لها. والجمهور يشتكي من انحطاط الممثلين والمؤلفين، والمؤلفون يشتكون من الأجواق والجمهور معاً".

وبدأ المؤلف بعد ذلك يُفصل كل سبب على حدة، حيث إن (الجمهور) يقول: "لمَ ندفع نقودنا ونضيع وقتنا متضجرين في دور التمثيل الأدبية والأجواق لا تقدم لنا إلا روايات سخيفة تافهة وتمثيلاً رديئاً منحطاً ومناظر رثة قبيحة". و(الأجواق) تقول: "كيف نتقن تمثيلنا ونحسن انتخاب رواياتنا ونجدد مناظرنا ونكلفها وكل هذا يحتاج للمال. وأنت أيها الجمهور لا تشجعنا ولا تؤم دورنا كما أن ذوقك الفني منحط إلا من تلك الروايات السخيفة المنحطة فنياً. ولئن التمسنا لك روايات راقية خذلنا المؤلفون ولم يقدموا لنا منها شيئاً ونحن لا نصرف المصاريف ونمثل لنشاهد أنفسنا طبعاً. ومادامت الصالة خالية فستظل جيوبنا خالية ويكون القعود بنا أولى".

وأخيراً يقول (المؤلفون): "إنكم معاشر الأجواق لا تعطونا إلا أجوراً بخسة لرواياتنا فكأننا نعمل لإرباحكم. وإذا تجاوزنا عن ذلك ورضينا بالكتابة خدمة للأدب والفن فقدمنا لكم رواية تافهة تليق بذوق الشعب السقيم، قام النقاد والطبقة المتعلمة يسلقوننا بألسنة حادة على سخافة تلك الرواية، وإن قدمنا لكم رواية أخلاقية أو اجتماعية راقية فنياً، رفضتموها قائلين (إنها ما تمشيش لأن الجمهور لا يفهمها ولأنكم أنتم أيضاً لا تفهمونها غالباً)! كذلك الجمهور لا يشجعنا على كتابة الشيء الراقي الفني الذي فيه صالحه ورقيه؛ بينما نراه يتهافت على التمثيل الهزلي والخليع والريفو السخيفة تهافت الظمآن على الماء فلا نجد بداً حيال ذلك من تحطيم أقلامنا والخلود إلى الكسل والدعة".

المسرح التجاري

وضمن مشاكل المسرح في مصر – في تلك الفترة – تطرق المؤلف إلى شيوع ظاهرة المسرح التجاري! حيث لاحظ أن الفرق المسرحية تختار النصوص بناء على عدة أسئلة، منها: هل هذه المسرحية ستنعش شباك التذاكر أم لا؟ وهل عرضها سيكون مربحاً في القاهرة والإسكندرية فقط أم سيكون في الأقاليم أيضاً في حالة عرضها في طنطا وملوي وقنا؟! فإن كانت الإجابة بنعم .. يقبلون النص، والعكس صحيح، دون النظر إلى قيمته الفنية والأدبية والأخلاقية!

وبعد أن طرح المؤلف مشكلة المسرح التجاري في مصر، قدم اقتراحين – في صورة علاجين لهذه المشكلة – الأول، قيام بعض أغنياء مصر بتجميع رأس مال معقول لتأسيس شركة، غرضها تمثيل المسرحيات الراقية من خلال الكفاءات الفنية، شريطة الاعتدال في تحديد أسعار الدخول دون النظر إلى مبدأ الربح والخسارة!! وعلى الرغم من مثالية هذا الحل؛ إلا أن المؤلف تراجع عنه لعدم إمكانية تنفيذه؛ حيث اكتشف إنه ضرب من النظريات العقيمة والأماني الوردية، ويُعدّ حلاً غير عملي!!

لهذا السبب اقترح المؤلف الحلّ الآخر – أو العلاج الثاني – وهو قيام الشركة السابقة – من خلال رأس مال الأغنياء – بطبع كتب حول كل مفردات العملية المسرحية من خلال: تاريخه وأنواعه ونظرياته ونقده، ونصوص المسرح المصري والقومي والعربي .. إلخ. وبعد طباعتها، كما قال: "تتدولها الأيدي فيتولد منها ذلك التيار الفكري التمثيلي، ويوجد الذوق التمثيلي في الجمهور"!

وهذا الاقتراح – من وجهة نظر المؤلف – هو الأنسب؛ لأن طباعة المسرحية مثلاً، يحتاج إلى تكلفة أقلّ بكثير من عرض المسرحية على خشبة المسرح! كما أن الجمهور يدفع قليلاً لاقتناء النص وقراءته، بينما يدفع كثيراً لمشاهدة عرض هذا النص على خشبة المسرح! ويضيف المؤلف على هذه المزايا – بالنسبة لطبع النصوص المسرحية – مزايا أخرى، قال عنها: "كما أنها تسد في الآداب العربية الثغرة التمثيلية المفتوحة فيها، بل ربما ربحت منها الشركة الطابعة، وكذلك قد يُمثل هذه الروايات بعض الطلبة وأندية غواة التمثيل بل الأجواق أيضاً فيساعدون على انتشارها".

أنواع النصوص المسرحية

بعد أن انتصر عثمان صبري للنص المسرحي، وفضّله على العرض، بدأ يوجه نصائحه إلى كُتّاب المسرح بوجوب تضامنهم وتعاونهم على ترقية المسرح، "ورفع مستوى ذوق الجمهور ولو بالاحتيال عليه في بادئ الأمر بإدماج أشياء تستهويه في مؤلفاتهم"! وبرر ذلك بأن الجمهور مثل الطفل، الذي لا يتقبل الجد إلا إذا كان محاطاً بالهزل والفكاهة! كما فسّر عثمان صبري ظاهرة تراجع مؤلفي المسرح في مصر عن الكتابة، ونسيان الجمهور لأسمائهم وأسماء مسرحياتهم؛ لأن هؤلاء المؤلفين لم يدخلوا ميدان التأليف المسرحي من بابه الطبيعي، وهو طباعة نصوصهم المسرحية، بغض الطرف عن كونها عُرضت على خشبة المسرح، أو لم تُعرض!!

وبناءً على ذلك، حدد المؤلف ثلاثة أنواع للمؤلفين المسرحيين، مبرراً فشل مسرحياتهم قائلاً: "الأول أن تكون روايته أدبية فنية راقية فلا يتذوقها جمهورنا لسقم ذوقه وتسقط الرواية، إذ أن سواد الجمهور الأعظم من طبقة أرقى من الأمية بقليل، هي أبعد طبقات البشر عن فهم الفن والجمال وتقدير المسرات العقلية، لا يعجبون إلا بروايات تشبه روايات السينما البوليسية والوقائعية، ومثل هذا المؤلف واجبه أن يطبع رواياته خدمة للأدب المصري.

الثاني أن تكون روايته من تلك الأنواع التجارية، التي تجاري وتوازي دائرة الآداب والفن ولا تدخل فيها، أي تلك الأنواع المزيفة التي عليها طلاء الآداب دون جوهرها، وهي التي لا هم لها إلا مجاراة الجمهور في أذواقه وعقليته ولا غرض لها إلا تفكهته وتسليته وإضحاكه أو التأثير عليه وتهييجه واستفزازه إلى نوبات عصبية للتصفيق الحاد ولا قصد لمؤلفيها إلا إرضاء رؤساء الجوقات بتشغيل شباك التذاكر والتكسب الشخصي من ورائها، فلمثل هذا المؤلف أنصح بتقديم رواياته على المسارح المصرية الآن وبدون تأخير لأنه لن يجد لها مكاناً آخر ولا زماناً آخر يقبلان تمثيلها (لأني أرجو أن لا يدوم الحال على ذلك). كما أني أبشره بالربح والمال ولكن في نظير ذلك يجب أن لا يؤمل مطلقاً في المجد والمقام الأدبي. لقد رضى أن يكون مهرجاً ومسخاً للشعب يتقاضى أجر عمله بسخاء. فحسبه ذلك فلا يطلب المزيد.

الثالث أن تكون روايته منحطة سخيفة من كل وجهة فهي لا ترضي أحداً مطلقاً لا عالماً ولا جاهلاً، ولا فنياً راقياً ولا غير فني منحطاً، وأنصح لمثل هذا أن يحرق روايته؛ ولكن بما أنه لن يعرف قيمتها الحقيقية مطلقاً (وكلما ازداد جهله ازداد زهوه وغروره) بل ربما تنخدع بها بعض الجوقات فتقدمها للجمهور فتزيد ذوقه بذلك سقماً وتسمماً لأننا كثيراً ما شاهدنا مثل تلك الروايات السخيفة على المسارح المصرية، لذلك أرى أن الطبع أولى بمثل هذا المؤلف حتى يحكم عليه النقاد التمثيليون وتظهر سخافته للقراء فيكفي الممثلين عناء تحضير الرواية والمشاهدين عناء الانتقال والسآمة والضجر وخسارة ثمن التذاكر، ويكفي نفسه أيضاً سماع شتمهم وسبهم إياه".

وهكذا أكدّ المؤلف الشاب عثمان صبري على أهمية طباعة النص المسرحي، وحتى يقنع القًراء بوجهة نظره، ضرب المثل بنفسه، قائلاً: (لذلك أطبع رواياتي التمثيلية ولهذا أرجو المؤلفين الراقين أن يحذوا حذوي فيطبعوا رواياتهم)! وحتى يعضد المعنى أكثر، قام بمقارنة معاني المؤلف المسرحي وأهدافه عندما يطبعها في كتاب، ويقرأها القُراء، وبين إلقائها من على خشبة المسرح على الجمهور، قائلاً: " أيها السادة المؤلفون التمثيليون يجب أن تثبتوا بنات أفكاركم على صفحات الكتب، يحاسبكم عليها معاصروكم وخلفكم، ولا تنزووا هكذا بهذا الفن الشريف الحيوي في الزوايا؛ لأنه لا فائدة من إلقاء مؤلفاتكم ليلتين أو أربعاً أو أربعين من على ألواح المسرح وسط جمهور غير أدبي، تدخل كلماتكم من أذنه اليمين لتخرج من اليسار. يجب أن تخطوها باللسان على صفحات القرطاس، لا أن تخطوها باللسان على صفحات الهواء. حرام أن يظل التأليف التمثيلي كالكلام الذي تطلق عليه العامة مَثلها (كلام طايح بن رايح)".

معلومات عن المؤلف

قلت فيما سبق: إنني لم أجد أية معلومات عن عثمان صبري! ومن الواضح أن عثمان نفسه يعلم إنه غير معروف – وقت نشره لكتابه الأول والأخير – لذلك وضع في مقدمته معلومات بسيطة، ربما تكشف لنا جانباً من حياته! ومن هذه المعلومات إنه كتب مسرحية (شباننا في أوروبا) وهو في سن التاسعة عشر من عمره عام 1916؛ مما يعني إنه وُلد عام 1897. كما أنه ذهب إلى المسرح لأول مرة في حياته، وهو في سن التاسعة - أي عام 1906 – بصحبة والده؛ لمشاهدة عرض مسرحية (اللص الشريف)، التي عرضتها فرقة الشيخ سلامة حجازي بدار التمثيل العربي.

وعن مؤلفاته، صرّح عثمان صبري إنه كتب مسرحية على سبيل التجربة، وهو طالب في المدارس الثانوية؛ ولكنه مزّقها، ثم كتب مسرحية (شباننا في أوروبا) بعد حصوله على الشهادة الثانوية، ثم كتب مسرحية كوميدية بعنوان (الخلاعة)، وقدّمها لفرقة أولاد عكاشة؛ ولكن الفرقة أضاعتها ولم تمثلها، وكانت النسخة الأصلية والوحيدة المكتوبة بخط اليد! ثم كتب مسرحية (على من الذنب؟)، وهي مقتبسة من هارفيو. ثم كتب مسرحية (العقدة) وهو في سن العشرين – أي عام 1917 - وفي العام التالي 1918، كتب مسرحيات: (العذراة) أو (عطيل)، و(الشرف المصري) و(الحاج عمر).

أفكار جنونية

نلاحظ مما سبق إننا أمام مؤلف مسرحي له تفكيره الخاص، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا؛ ولكننا نحييه لأنه تطرق إلى أمور لم نتصور أن شاباً في مثل عمره - وفي عام 1922 – يستطيع تناولها في كتاب منشور! كما أن كتابه هذا يُعدّ مؤلفاً غير مسبوق بما اشتمل عليه من مقدمة نقدية تنظيرية، تُعد كتاباً في حد ذاتها، إذ تبلغ مائتي صفحة!! ولكن هذا الإعجاب بهذا المؤلف الشاب، يتصدع أمام بعض الأفكار غير المنطقية، والتي تصل إلى درجة الجنون في التفكير، ومنها قوله:

" لا أسعى بكتابي هذه وراء المال كما يفعل بعض الكتاب؛ فالمال لا يُرجى في هذا البلد من شق القلم وإنما من حربة المحراث ومستودع التجارة، كما إني لا أسعى بذلك وراء الشهرة وإلا لألّفت ما يرضي السواد الأعظم من الشعب. إني لا أكتب إلا ما يرضي ضميري، وحسب ما تُمليه عليّ نفسي، وما أرى فيه المصلحة العامة مع انطباقه على مبادئ الفن الصحيح الراقي، دون أي اهتمام بذوق الجمهور، ولا التفات إلى حكمه. وكيف أعبأ بجمهور جاهل أحتقر عقليته؟ إني أجهل وجود شيء اسمه الجمهور، أو الرأي العام في مصر. فإذا لم يُعجب الجمهور برواياتي هذه سواء في قراءتها أو في تمثيلها، ولا إخاله إلا كذلك، فهذا لا يزري بها؛ لأنه متى كان حُكم الجمهور حُكماً يُعتد به، حتى ولو كان جمهوراً راقياً، فما بالك بجمهور جاهل متأخر كهذا؟".

وهذا الشطط في القول من قبل هذا الشاب المسرحي غير مقبول مهما حاول تبريره، قائلاً فيما بعد: "لست أول من طبع كتاباً قبل أوانه، وهو عالم بأنه لن يقبل عليه الجمهور إقبالاً كبيراً .. أطبع هذه الروايات لليوم الذي يتهذب فيه ذوق الجمهور المصري، ويأخذ في تذوق الفنون واللذة الأدبية. لليوم الذي يوجد فيه مسرح مصري فني راق، يتهافت عليه الجمهور بشغف واهتمام، ولا أدري متى ذاك اليوم، وإنما أظن أنه سيكون بعيداً إذا ظل الحال كما هو عليه الآن".

وفي ختام مقدمة الكتاب، تحدث عثمان صبري عن أسلوبه في كتابة مؤلفاته المسرحية، حيث بدأ أولاً باللغة العربية الفصحى لمسرحياته الثلاث الأولى، ثم كتب بقية مسرحياته بالعامية المصرية! وانتصر المؤلف للعامية كثيراً، بل وقارن بينها وبين الفصحى بصورة غير مقبولة - تجعلنا نشك في توجه هذا الشاب غريب الأطوار - قائلاً:

" قد مضى على اللغة العربية الفصحى عشرات السنين، نحاول إنهاضها من كبوتها، وهي تأبى إلا خوراً وقعوداً. ونعالجها من أمراضها، وهي تزداد مرضاً وانتكاساً؛ كأنما جو القرون الحديثة لا يوافقها، فإما أن نُعجل بشفائها (ويصعب ذلك جداً مع وجود تلك الأمّية الساحقة في البلاد وجمود علماء اللغة) وإما أن نقتلها أو نتركها تحتضر بين طلبة الدين والآداب وعلماء الدين والفقهاء؛ باعتبار أنها لغة ميتة كاللاتينية واليونانية القديمة، ثم نأخذ في توجيه عنايتنا إلى وضع قواعد وقواميس للغة العامية المرنة الفنية لاستعمالها في التآليف والكتابة عامة، فنحطم ذلك الحاجز الذي كان يفصل العامة عن الخاصة، ويقرب عقول الأمة المظلمة من مصباح العلم والأدب".

 

لم يكتف هذا الشاب المسرحي بهذا الانحراف في التفكير، بل زاد عليه جنوناً غريباً، عندما أسهب في موضوع اللغة، قائلاً: " إن عندي لبراهين وانتقادات واقتراحات ونظريات كثيرة في هذا الموضوع، تتلخص في برهنة أن اللغة العربية ليست لغة المصريين؛ وإنما هي لغة أمة أسيوية بادت حضارتها تقريباً، وأن المصري الذي يكتب بها؛ كأنه يكتب بأي لغة أجنبية أخرى كالفرنسية أو الإنكليزية" ........... لا تعليق!!

المصدر: استخف بالجمهور وأنكر اللغة العربية وفضل النص على العرض: عثمان صبري .. شاب مسرحي مجهول ومجنون – مجلة (كواليس) الإماراتية – عدد 36 – أكتوبر 2013 – ص (82 – 87)
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 462 مشاهدة
نشرت فى 30 يناير 2014 بواسطة sayed-esmail

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

776,480