وثائق سرية تكشف سطوة مؤلفها عزيز أباظة

مسرحية شجرة الدر .. تعاند الرقابة بأمر الديوان الملكي

أ.د سيد علي إسماعيل

كلية الآداب - جامعة حلوان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشاعر الكبير عزيز أباظة (1898 – 1973م) - الذي يُعدّ خليفة أمير الشعراء أحمد شوقي في المسرح الشعري – له مسرحية بعنوان (شجرة الدّر)، نشرها عام 1951، وكتب إهداءها إلى أحمد شوقي قال فيه: "إلى شوقي الخالد أُزجي أثراً من هدْيه، ونفحة من وحيه، هدية تقدير وإكبار ووفاء". ونسخة المسرحية المطبوعة تحمل صفحة بعنوان (توزيع الأدوار) بها أسماء الممثلين، وهم: أمينة رزق، زوزو حمدي الحكيم، إحسان شريف، روحية خالد، سامية رشدي، أحمد علام، منسى فهمي، عبد العزيز خليل، حسن البارودي، فاخر محمد فاخر، فؤاد فهيم، علي رشدي، سعيد خليل، كمال حسين، عمر الحريري، شفيق نور الدين، عبد المجيد شكري .. إخراج فتوح نشاطي!!

هذه هي المعلومات المُتاحة عن هذه المسرحية، وهناك معلومات أخرى تخصّ الإخراج وظروفه .. مع أقوال الصحف عن عرض المسرحية، نشرها فتوح نشاطي في مذكراته الصادرة عام 1973 بعنوان (خمسون عاماً في خدمة المسرح). وهذا يعني أن المعلومات المنشورة في النص المسرحي، وفي مذكرات المخرج .. هي المعلومات الكاملة عن هذه المسرحية، ولا يستطيع إنسان أن يضيف عليها معلومة جديدة .. (إلا إذا) .. كانت هذه المعلومة .. سرّية ومجهولة ولم تُنشر منذ عرض المسرحية عام 1950، أو منذ نشر النص عام 1951!! وهذا هو الجديد!! ففي هذه المقالة سنتعرف – ولأول مرة - على الوثائق السرية المجهولة الخاصة بعرض مسرحية (شجرة الدر) لعزيز أباظة، التي عُرضت بدار الأوبرا الملكية يوم 26/10/1950!!

الرقابة ترفض

في يوم 3/10/1950 تقدم حلمي الحكيم سكرتير عام الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى بطلب إلى مدير إدارة المطبوعات بوزارة الداخلية – أي الرقابة المسرحية حالياً – وأرفق بطلبه نسختين مكتوبتين بالآلة الكاتبة لمسرحية (شجرة الدر) تأليف الشاعر عزيز اباظة .. من أجل التصريح بتمثيلها .. ولأول مرة في تاريخ الرقابة أجد رقيباً يكتب تقريراً رقابياً لنص مسرحي في ثماني صفحات من القطع الكبير .. وهو الرقيب (عبد السلام وفا)، الذي كتب تمهيداً لتقريره؛ أبان فيه أن أوضاع البلاد لا تحتمل أية فتنة أو اضطراب، وأن المعارضة تسعى إلى بلبلة الرأي العام. ويُعقب الرقيب على تمهيده هذا في تعجب قائلاً: "فكيف والحالة هذه يجوز التصريح بتمثيل رواية مسرحية تطّلع عليها الجماهير، وفيها ثلاثة تيجان تهوى بقتل حامليها؟ والحوار بين كل مقتل ومقتل لا يصوّر إلا عروشاً تترنح! وجيشاً ثائراً، وشعباً تغلي مراجله!! ومن ثم جاءت المسرحية سلسلة من المؤامرات أطراف حبكتها تارة من قادة الجيش وتارة من زعماء الشعب. والملوك بين هؤلاء وهؤلاء هدف مستمر لتلك الضربات التي تتركهم في النهاية صرعى بين تصفيق الجماهير!!".

وعزف الرقيب على وتر أوضاع البلاد المضطربة، تمهيداً لرفض التصريح بعرض المسرحية، حيث أبان أن الفكرة القائمة عليها المسرحية لا يجوز التصريح بها، ولا يجوز عرض أحداث المسرحية على الجمهور على الرغم من كون المسرحية تستند على وقائع تاريخية معروفة! وهنا لمسّ الرقيب نقطة مهمة في مجال توظيف المسرح للتاريخ، وجاء بتفسيرات عجيبة وتبريرات غريبة – من أجل إقناع المسئولين برفض المسرحية - قائلاً: "وأما الوقائع التاريخية فهي التي تُدرّس لطلبة المدارس لكي يحيطوا بها علماً من حيث هي وقائع خالية من مقومات التحبيز! وفضلاً عن ذلك فإنني أريد أن أنبّه إلى أن برامج التعليم التاريخي في مصر عندما أُعدّت كان للمستعمر دخل في إعدادها؛ فأعدّها كما يشاء ويهوى بالطريقة التي تحفظ عليه أمنه .. فإذا كان المستعمر وهو غير صاحب حق في البلاد قد راعى اعتبارات الأمن العام في الوقائع التاريخية التي تدرّس إلى فئة خاصة فجعلها غير ذي مغزى دراسي أو تكويني لعقلية النشء، أفلا ينبغي من باب أولى أن يراعي أبناء البلاد وأصحاب الحق فيها والحاكمون بإرادة الشعب في ظل العرش المُفدى تلك الاعتبارات .. فيمتنعون عن رفع الحواجز بين الشعب وبين وقائع تاريخية مشوّهة تُسرد بطريقة تُحبّز الجريمة في أسلوب شعري رائع!!".

ثم أورد الرقيب صفحات عديدة بها أمثلة من مواضع المسرحية، أيّد بها وجهة نظره، وأثبت استحالة تغيير هذه المواضع أو حذفها؛ لأن هذا يعني تحويل المسرحية إلى مسرحية أخرى، ناهيك عن كون المسرحية .. شعرية! ويُعلق الرقيب على ذلك – بأسلوب أدبي نقدي - مختتماً تقريره قائلاً: "لا يسعنا إلا أن نأسف على هذا الأسلوب الشعري الرائع الذي إذا لو كان قد وُجّه إلى مغزى مغاير وفكرة مخالفة لفكرة هذه المسرحية وابتعد عن المعاني السياسية؛ لشهد المجتمع نغمة ولوناً مسرحياً يُوحي بالتطور في قدرة مادة عزيز أباظة باشا الشاعر المسرحي الكبير. لذلك أتشرف برفع هذا التقرير ملتمساً التفضل بصدور الأمر برفض التصريح بتمثيل مسرحية شجرة الدر".

وتأكيداً على الحيادية، كلفت الرقابة رقيباً ثانياً بقراءة النص وكتابة تقرير آخر!! فكتب الرقيب عبد الحميد تقريراً طالب فيه تأجيل عرض المسرحية، قائلاً في ختامه: ".. وأرى أن هذه الرواية مع متانة وقوة شعرها وأسلوبها لا تصلح للتمثيل في الوقت الحاضر خصوصاً وأنه لا يمكن اقتضاب أجزاء منها فالموضوع متصل ببعضه لذا أرى تأجيل تمثيلها لوقت آخر".

وبناءً على التقريرين السابقين؛ كتب أحمد الفقي – رئيس قسم المسرحيات والأغاني والأسطوانات – مذكرة عامة برفض المسرحية يوم 12/10/1950 - ورفعها إلى مدير إدارة المطبوعات بوزارة الداخلية الدكتور عبد الباسط الحجاجي - قال فيها: "اطلعت على هذه الرواية، وعلى تقريري حضرتي الرقيبين. وأرى أن هذه المسرحية غير صالحة للعرض إطلاقاً؛ حتى ولو حذفنا كثيراً من أبياتها (فهي مسرحية شعرية)؛ لأن مجرى الموضوع يمسّ عرشاً من عروش مصر، في طور من أطوار تاريخها. ويمسّه مساساً غير لائق وإن لاءم التاريخ ووافقه. فليست كل الحقائق مما يُستطاع عرضه على الجمهور، خصوصاً ومجال التأويل والتلميح، فضلاً عن الغمز والتعليق، مجال واسع للمؤلف والمُشاهد. كما أساءت هذه المسرحية إلى دول شقيقة إساءة لا تجوز. هذه المسرحية ظروفها سيئة للغاية، ففي هذه الأيام بالذات نرى مصر تموج بأحداث جسام، وتكاد تكون أحلك أيامنا لولا القادرين على الإمساك بالزمام. فحرصاً على الصالح العام، ومحافظة على المحيط الأدبي من أي رجّة كانت؛ سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة، وهي مهمة الرقابة بالذات، لا نستطيع أن نصرح برواية في كثير من أبياتها تعريض بسمعة مصر، وكرامة مصر، وماليتها والإسراف في تبذيرها، وعرشها وملوكها، والتعريض بحياتهم الخاصة والعامة؛ فذلك مساس بأسمى مقام سواء أكان عن قرب أو بعد".

الباشا ونفوذه

رفض الرقباء مسرحية (شجرة الدر) المُقدّمة من الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى .. أي (الفرقة القومية)!! .. أي الفرقة الحكومية الوحيدة التي تُمثل الدولة، والتي تشرف عليها الدولة وتنفق عليها الأموال .. ألا يُوضع هذا في حُسبان الرقباء، ويكون شفيعاً للتصريح بعرض المسرحية بدلاً من منعها؟! وإذا لم يقتنع الرقباء بشفاعة مكانة الفرقة القومية للتصريح بعرض المسرحية؛ ألا يشفع لهذا العرض أنه سيُقام على دار الأوبرا الملكية؟! أي المسرح الذي يرعاه الملك فاروق بنفسه، ويحمل الصفة الملكية؟! إذن .. لم يشفع لهذه المسرحية مكانة الفرقة التي ستمثلها، ولا مكانة المسرح الذي سيعرضها، ولم يبق غير اعتبار واحد - لم يلتفت إليه الرقباء – وهو مؤلف المسرحية (عزيز أباظة) .. لأن عزيز أباظة صاحب مقام رفيع، إنه (باشا حقيقي) يحمل رتبة الباشوية!! ومن الصعب .. بل ومن المستحيل أن يُعامل معاملة المؤلفين المسرحيين العاديين!! لذلك يجب أن يُعامل بوصفه أحد باشوات مصر في زمن الملك فاروق .. آخر ملوك مصر من أسرة محمد علي باشا الكبير!! لذلك قام مدير عام المطبوعات بوزارة الداخلية الدكتور عبد الباسط الحجاجي بالاتصال التليفوني بالباشا عزيز أباظة، وأخبره بفحوى تقارير الرقباء وأسباب رفضهم للمسرحية! وهذا الاتصال يُعدّ تصرفاً غريباً في تاريخ الرقابة! حيث إننا لم نسمع – في يوم من الأيام - أن مدير الرقابة اتصل بأي مؤلف مسرحي وأبلغه بالملاحظات الرقابية، قبل إصدار القرار الرسمي بالترخيص أو بالمنع!

ونتيجة لهذا الاتصال – المُريب - كتب المؤلف عزيز باشا أباظة خطاباً إلى الدكتور الحجاجي – في يوم الاتصال التليفوني نفسه 12/10/1950 - قال فيه: "عزيزي الدكتور الحجاجي بك .. تفضلت اليوم فنقلت إليّ بعض الاعتراضات التي وجهها حضرات الرقباء إلى مسرحية شجرة الدر. ويلوح لي أن حضراتهم قالوا في مذكراتهم إن المسرحية فيها غض من مكانة مصر. وهذا رأي أهون ما يُوصف به أنه عجيب! ولا شك عندي أن مرده ليس إلى سوء النية بطبيعة الحال؛ ولكن إلى عدم تتبع المسرحية والإحاطة بها. فالمسرحية – وهي أمامكم – تدور حوادثها في نطاقين: في خارج مصر، وفي داخل مصر. أما في خارج مصر فأعتقد أنه واضح فيها على صورة ظاهرة قاطعة ما كان لمصر من مركز ممتاز بين الدول. فلقد كانت قطب الرحى في الأحداث الدولية. فهي التي حطمت الحروب الصليبية، وهي التي أسرت من شنوا هذه الحروب، وهي التي رفعت عنهم الأسر بعد أن ضربت عليهم الفدية، ثم تجملت فعقدت معهم معاهدة الزموا فيها بوقف تيار الهجوم على فلسطين، واحترام أماكنها المقدسة. ومصر هي التي أدبت الأمراء الذين كانوا ولاة على مُلكها بالشام، وخرجوا على حكمها، ورفعوا السيف في وجهها. ومصر هي التي وقفت في وجه هولاكو الذي أخذ على عاتقه هدم الدول الإسلامية والقضاء على حضارتها. أما في الداخل فحوادث المسرحية دائرة حول نزاع بين معسكرين: المصريين من ناحية، والمماليك والترك والكرد من ناحية أخرى. وواضح أيضاً بصورة جلية قاطعة أن جهاد المصريين كان يهدف إلى التخلص من حكم هؤلاء المسيطرين في أرضها، والعابثين باستقلالها. هذه هي خيوط الرواية الرئيسية، يستطيع أن يفهمها هكذا كل ذي ذهن، وكل ذي عقل. فأين الغض من قيمة مصر. فإن يكن ذلك غضاً فأين إذن الأمجاد والمواقف المشرفة الخالدة. وأرجو أن يؤذن لي أن أقول إن رمي مؤلف الرواية بالغض من قيمة مصر، هو مجازفة بعيدة المدى. فليس المؤلف بمركزه ونشأته وبيئته بأقل حباً لمصر أو تقديراً لها من أصحاب هذا الرأي العجيب. ويلوح لي أيضاً أن حضرات الرقباء فزعوا من أن مؤلفاً عرض لحكم فُرض على مصر، ومرّ على زواله ما يزيد عن سبعمائة عام. وقد يُستطاع أن يُوصف هذا الفزع بأنه من عُقد النفس. وإلا فكيف يسوغ لمن يقدر نفسه أن يُقارن بين عهد حكم فيه ملوك من الطغاة، وبين عهود أخرى حكم فيها ملوك بمقتضى دساتير، وأسس نيابية، وأوضاع ديموقراطية. لهم حكومات مسؤولة. مسؤولة وحدها عن كل إدارة أو سياسة. مرّ حضرات الرقباء على قرابة من ألف وخمسمائة بيتاً في المسرحية، فجمعوا منها طائفة، قدموها كأمثلة يُفندون بها هذه الفكرة، التي وضحت في مذكراتهم، ولعلهم أوردوها تماماً على نظرية من يتلو (لا تقربوا الصلاة) ثم يسكت. وليت هذه الأمثلة أمامي فأردها إلى نصابها من الواقع ولكنني لازلت أذكر بعضاً منها [ثم يورد بعض الأمثلة، وبعدها يقول] هذه بعض الصور التي وعتها ذاكرتي من حديثكم، أردت أن أبعث بها إليكم لتكون تحت نظر معالي الوزير، وهو يبحث اعتراضات الرقباء. وأودّ أن أنهي إليكم أنني لا أعنى قط بتمثيل المسرحية أو وقف تمثيلها؛ وإنما الذي يعنيني هو أمر فريق من الفنانين كان جُلّ اعتمادهم الأدبي والمالي على أخوات هذه المسرحية التي قدمتها لهم من قبل".

الوزير يتدخل

بالرغم من أهمية الخطاب السابق؛ لأنه أثر فني وأدبي مجهول للشاعر عزيز أباظة، إلا أنه يُشير إلى أمر خطير - غير مسبوق – وهو تدخل وزير الداخلية عبد الفتاح حسن باشا لفحص تقارير الرقباء، وبحث أسباب رفضهم للمسرحية!! وهذا يعني أن نفوذ عزيز باشا كان قوياً لدرجة تدخل الوزير بنفسه في فحص التقارير الرقابية!! وهذا الأمر لم نعلمه إلا من خطاب عزيز أباظة! مما يعني أن مدير الرقابة نفسه لا يعلم أن الوزير سيتدخل في الأمر! مما يعني – وجود احتمال - بأن إتصالاً تمّ بين عزيز أباظة ووزير الداخلية!!

وعلى الفور كتب الدكتور عبد الباسط الحجاجي – مدير المطبوعات – مذكرة تفصيلية بالموضوع كله، رفعها إلى معالي الوزير يوم 14/10/1950، لخّص فيها ما سبق، وأضاف معلومات جديدة مهمة لم نكن على علم بها، ومنها: أن الفرقة المصرية أعلنت عن موعد عرض المسرحية، وهو يوم 16 أكتوبر 1950 قبل أن تحصل على ترخيص الرقابة بعرضها على الجمهور!! وأن الفرقة أرسلت نسختين لا يُمكن قراءة إحداهما!! فاضطرت إدارة المطبوعات لانتداب موظف للذهاب إلى الفرقة وإحضار النسخة الخطية الأصلية، وقام الرقباء بالسهر على هذه النسخة الوحيدة، وكتبوا تقاريرهم، التي تضمنت أسباب الرفض السابقة! وأضاف المدير عليها أسباباً جديدة، منها: أن المسرحية تندد بإفلاس خزائن مصر، وتصور مصر وشعبها تصويراً مزرياً في ناحية الهتاف لحكامها والرضا بالذل والاستكانة. والإساءة إلى دولتين شقيقتين هما الشام والعراق.

واختتم الحجاجي تقريره قائلاً: "وقد أبدى سعادة المؤلف في أحاديثه المختلفة وجهة نظره فقال: إن هذه الرواية تمثل ناحية تاريخية معروفة، قد وُضعت منذ أكثر من سنتين. وأنها تبين حالة ملوك من الطغاة لم تكن في عهدهم دساتير، ولا أوضاع ديمقراطية. وأن في روايته (العباسة) و(عبد الرحمن الناصر) كثيراً من هذه الأمثلة. ويذكر أن هذه حقائق تاريخية معروفة، وقد أبدى سعادته استعداده لإعادة بحث هذه المسرحية بوجوده مع المختصين؛ ليشرح لهم أغراضه، وأنه لا يمانع في اتخاذ تغييرات بسيطة إذا كانت لا تمسّ جوهر الرواية. وأرى أن يُعاد النظر في هذه التمثيلية بواسطة لجنة تُؤلف من خيرة موظفي المطبوعات المتخصصين. على أن يكون ذلك بحضور سعادة المؤلف للبحث في إحداث التغييرات المطلوبة، وحذف العبارات المُعترَض عليها، أو استبدالها حتى لا يتغير المعنى. على أن تُخاطب الفرقة المصرية بوزارة الشئون فوراً لإرجاء عرض هذه التمثيلية بضعة أيام، حتى يتم التغيير المطلوب".

عُرضت هذه المذكرة على وزير الداخلية – في يوم كتابتها نفسه بتاريخ 14/10/1950 – فكتب الوزير عبد الفتاح حسن تأشيرة أعلاها، قال فيها: "اتصل بنا اليوم تليفونياً سعادة عزيز باشا أباظة. ونظراً لورود الرواية إلى إدارة المطبوعات من بضعة أيام، لم يتيسر مراجعتها مراجعة دقيقة؛ قد تمّ الاتفاق على أن سعادة المؤلف سيعمل على إرجاء تمثيل المسرحية إلى يوم الاثنين 23/10/1950 إلى أن تُستكمل الأسباب الفنية لعرضها، وتتم مشاهدتها ثم يصدر الأمر بعد ذلك في شأنها".

التصريح المشروط

وتنفيذاً لتأشيرة معالي الوزير، جلس عزيز أباظة مع الرقيب عبد المنعم شميس، وتم الاتفاق على حذف مجموعة من الأبيات، وإجراء تبديل بعض الكلمات في بعض الأبيات الشعرية الأخرى، مثل: استبدال كلمة (حكومات) بدلاً من (حُكّام)، وكلمة (الحُكم) بدلاً من (العرش)، وكلمة (الولاة) بدلاً من (الملوك)، وكلمة (الطغاة) بدلاً من (الملوك)، وكلمة (أشياع) بدلاً من (أحزاب)، وكلمة (حفنة) بدلاً من (أمّة)! وهذه الأمور أثبتها الرقيب في تقريره، ووافق على تمثيل المسرحية.

وفي مساء يوم 21/10/1950، عُرضت البروفة النهائية للمسرحية، وحضرها الرقيب وكتب تقريراً – رفعه إلى مدير المطبوعات عبد الباسط الحجاجي - أثبت فيه أن الفرقة لم تلتزم بالملاحظات الرقابية، واختتم تقريره قائلاً: ".. الأبيات التي اعترضت عليها الرقابة قيلت كما هي! وملاحظاتنا على الفصل الأخير وخاصة المشهد الختامي فإنها تشمله بأجمعه وقد جاء على المسرح كما هو في صلب الرواية بدون حذف أي بيت". فما كان من المدير إلا أن رفع الأمر إلى وكيل الوزارة؛ ولكن نفوذ الباشا كان أقوى من الجميع، فوجدنا المدير يكتب تأشيرة أسفل التقرير – مؤرخة في 24/10/1950 – قال فيها: "عُرض على سعادة وكيل الوزارة، وقد رؤي التصريح بتمثيل هذه الرواية بعد مشاهدة سعادته لها في دار الأوبرا الملكية وبعد أن تمت التعديلات المطلوبة بحضور سعادة المؤلف وموافقته عليها".

وهذه التأشيرة تعني أن الفرقة عرضت المسرحية عرضاً خاصاً – أو بروفة نهائية مرة أخرى – أمام وكيل الوزارة، وبحضور المؤلف عزيز أباظة، والتزمت الفرقة بكافة الملاحظات الرقابية سواء بالحذف أو بالتعديل، وتأكد وكيل الوزارة من عدم وجود موانع رقابية في المسرحية، وتأكد أيضاً عزيز أباظة، ووافق على الحذف والتعديل ... هكذا تقول التأشيرة!! وبالفعل أصدر مدير المطبوعات عبد الباسط الحجاجي يوم 24/10/1950 التصريح الرسمي بالموافقة على عرض مسرحية (شجرة الدر)، واستلم هذا التصريح سكرتير عام الفرقة حلمي الحكيم!

يوم الافتتاح

تم افتتاح عرض مسرحية (شجرة الدر) يوم 26/10/1950 بدار الأوبرا الملكية، وحضر العرض الوزراء والأدباء والعلماء والأعيان، وكان افتتاحاً مهيباً! ووسط الجماهير التي شاهدت العرض، كان يجلس الرقيب عبد السلام وفا! كان حاضراً لمشاهدة العرض ليس للاستمتاع به؛ ولكن من أجل مراقبته! وبعد انتهاء العرض، ووسط تصفيق الجماهير - دلالة على نجاح المسرحية – انصرف الرقيب، ليقوم بعمله؛ فكتب تقريراً في أربع صفحات، قال فيه:

"حضرت حفلة افتتاح مسرحية شجرة الدر، وقد لاحظت أن جميع ما أشارت بحذفه الرقابة لم يُلتفت إليه، وجاء كما هو في صلب المسرحية!". وبدأ الرقيب في إثبات الملاحظات المتعلقة بحوالي ثلاثين بيتاً شعرياً بين حذف وتعديل، ثم قال: "هذه هي الأبيات التي رأت الرقابة حذفها وتعديل بعضها. ومع ذلك، ومع قلة عددها بالنسبة لكثرة الأبيات التي جاءت بالمسرحية، والتي كان يجب حذفها؛ فإن القائمين على أمر الفرقة المصرية لم يذعنوا لتنفيذ التعليمات. ولست أدري فيما كانت المجهودات التي بُذلت في مراجعة المسرحية، ومحاولة التوفيق بين مختلف الرغبات؛ إذا كانت النتيجة هي إصرار هذه الفرقة على تمثيل المسرحية بدون حذف أو تغيير في بعض الألفاظ. ولقد لاحظت أن الجمهور قد تأثر كثيراً في مشهد طرد الملكة من القصر. وكذلك كان حماس الجمهور بالغاً عندما ذُكر البيت الآتي: (هي الأقدارُ من تُهْمِلْهُ يُخفقْ – ومن تَلْحظه يَقْدُمْه النجاحُ). وكذلك في كثير من المواقف التي تتحدث عن طغيان الملوك وسطوتهم. وكذلك كان المشهد الذي ظهر فيه الملك وهو يشرب الخمر ويترنح ثم انتهى بقتله مشهداً مثيراً ينبغي معاودة النظر في أمره. لذلك أتشرف بعرض هذا التقرير رجاء التفضل باتخاذ اللازم".

هذا التقرير كان مفاجأة كبيرة! ومن المؤكد أن مدير المطبوعات عبد الباسط الحجاجي جنّ جنونه، عندما قرأه!! بدليل تأشيرته عليه، قائلاً: "حضرة الأستاذ الفقي .. للتوجه شخصياً للأوبرا وملاحظة ما يُلقى على المسرح ومطابقته للنسخة المعتمدة من عدمه، وكتابة تقرير فوراً للعرض".

كلمة .. سري

في يوم 30/10/1950 كتب الرقيب أحمد الفقي تقريراً - رفعه إلى مديره الحجاجي - قال فيه: "بناءً على الإشارة الخاصة بتوجهي إلى دار الأوبرا الملكية للوقوف على مدى مطابقة ما يُلقى على المسرح لتعليمات الرقابة ..... أذكر لعزتكم أن جميع التعديلات التي تقررت بصفة نهائية، وجميع الأبيات التي حُذفت لم تلاحظها الفرقة على الاطلاق. ومن الأسف أنه حتى تلك الأبيات التي اتفق معنا سعادة المؤلف على حذفها بل حذفها بيده قد أُلقيت على المسرح. فأرجو سرعة الاتصال بسعادته في هذا الشأن. كما أرجو الاتصال بالقائمين على شئون الفرقة المصرية فوراً ولفت نظرهم – بطريقة رسمية – كفرقة مسرحية إلى أن القانون والواجب يحتمان تنفيذ تعليمات الرقابة تنفيذاً دقيقاً. ولا سبيل إلى التلاعب أو التهاون أو التقصير في تنفيذ تلك التعليمات".

ومن الواضح أن الرقابة بدأت تكشر عن أنيابها، عندما شعرت أن الفرقة لا تبالي بها وبتعليماتها - بل وتتلاعب بها - معتمدة على نفوذ المؤلف الباشا!! فقام مدير المطبوعات عبد الباسط الحجاجي بكتابة خطاب رسمي إلى مدير الفرقة المصرية يوم 31/10/1950، قال فيه: "لاحظت رقابة المسرح بشأن مسرحية شجرة الدر أن هناك عبارات وأبيات مما رأت الرقابة حذفه أو تعديله أنه لم يُحذف أو يُعدل. وبديهي أن القانون والواجب يحتمان على الفرقة مراعاة تعليمات الرقابة بدقة تامة. فنوجه النظر إلى ذلك قبل اتخاذ أي إجراء رسمي آخر".

وفي اليوم التالي أرسل المدير الحجاجي رقيباً لمراقبة العرض المسرحي، ومتابعة أثر الخطاب الرسمي، الذي حمل – لأول مرة – تهديداً مباشراً للفرقة؛ فذهب الرقيب وحضر العرض، وكتب تقريراً - في أعلاه كلمة (سري) – قال فيه: "بناءً على أمر سعادة المدير أمس توجهت إلى مسرح الأوبرا الملكية لمراقبة مسرحية شجرة الدر، وملاحظة حذف وتعديل ما قررت الرقابة حذفه. وقد تقابلت مع الأستاذ حلمي الحكيم والأستاذ فتوح نشاطي مُخرج الرواية؛ فأفهمني بأن الأستاذ صلاح ذهني وكيل دار الأوبرا الملكية أبلغه أن سليمان بك نجيب مدير الأوبرا اتصل بسعادة حسن يوسف باشا رئيس ديوان جلالة الملك؛ للتوسط لدى معالي وزير الداخلية لإبقاء الحال على ما هو عليه، وعدم حذف شيء من الرواية. فأخطرهم سعادته بأن يمثلوا الرواية كما هي بدون حذف حتى يحضر سعادته اليوم (الأربعاء) ويراها بنفسه وحينئذ سيقرر ما يراه سعادته بعد مشاهدة الرواية شخصياً".

وما جاء في هذا التقرير من أسماء ولقاءات وعلاقات ووساطات .. يُفسر لنا لماذا كُتبت كلمة (سري) أعلى التقرير! كما يوضح هذا التقرير أيضاً مدى نفوذ مؤلف المسرحية عزيز باشا أباظة، وقوة علاقاته بالقصر الملكي، تلك العلاقة التي جعلت رئيس ديوان جلالة الملك فاروق، يتوسط لاستمرار العرض المسرحي دون حذف أو تعديل لأية ملاحظة رقابية كُتبت من قبل جميع الرقباء!!

الوثيقة وقيمتها

ومما سبق يتضح أننا حصلنا على وثائق مهمة، ربما تجعلنا نُعيد التفكير في أمور كثيرة، منها: هل كانت الرقابة مُحقة في تقاريرها السرية، التي طالبت فيها بحذف أبيات وتبديل أبيات أخرى؟؟ وهل يحق لأي رقيب – مهما بلغت ثقافته وقدرته النقدية والأدبية – أن يحذف أبياتاً شعرية أو يُعدّل فيها، وهي أبيات متداخلة في سياق حوار مسرحي شعري؟! وهل الشعر مثل النثر نحذف منه كلمة أو نستبدل معنى بمعنى آخر؟! وهل بالفعل قام عزيز أباظة بتشويه صورة مصر والشام والعراق في هذه المسرحية؛ كما قال الرقباء؟! ولو صح هذا .. فبماذا نُفسر نجاح العرض تاريخياً وفنياً، وهو النجاح الذي وثّقه فتوح نشاطي في مذكراته – (خمسون عاماً في خدمة المسرح) – عندما نقل إلينا أقوال الصحف ومقالات النقاد، التي أكدت أن العرض كان ناجحاً بكل المقاييس الفنية والأدبية؟!

 

أما الصحيح – والذي تمّ فيما بعد – هو استشراف عزيز أباظة لمستقبل مصر السياسي!! ألم يعترض الرقباء على المسرحية، لأنها تُشير إلى زوال النظام الملكي في مصر؟! وهذا ما تمّ عندما انتهى النظام الملكي بعد عرض المسرحية بعام ونصف! ولا أريد أن أحمّل المسرحية أكثر مما تحتمل؛ ولكن المصادفة وحدها تجعلني أعيد النظر في موقف الرقيب (عبد السلام وفا)، عندما رفض المسرحية لأن أحداثها تتعرض لممالك عربية ثلاث .. عروشها تترنح، وتيجانها تسقط، وجيوشها تثور، وشعبها يغلي .. إنها ممالك مصر والعراق وسورية!! فهل كان عزيز أباظة – في مسرحية (شجرة الدر) - يتنبأ بالربيع العربي قبل حدوثه بستين عاماً؟! .. ربما!!

المصدر: سيد علي إسماعيل - وثائق سرية تكشف سطوة مؤلفها عزيز أباظة: مسرحية شجرة الدر .. تعاند الرقابة بأمر الديوان الملكي – مجلة (كواليس) الإماراتية – عدد 35 – يولية 2013 – ص (98 – 105)

التحميلات المرفقة

sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1000 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

815,662