امرأة عنيفة .. بين الإخراج والتأليف

د.سيد علي إسماعيل

كلية الآداب – جامعة حلوان

ـــــــــ

شاهدت عرض (امرأة عنيفة) للمخرج أبو بكر الشريف فاستمتعت به، ثم قرأت النص الذي كتبته صفاء البيلي، فاستمتعت به أيضاً! .. وعندما قارنت بين متعة المشاهدة ومتعة القراءة؛ أيقنت أن المنافسة الفنية بين العرض والنص - أو بين رؤية الكاتب ورؤية المخرج - ستظل مستمرة باستمرار وجود المسرح!! وهنا لمع في ذهني السؤال المُحيّر، الذي لم نجد له إجابة منذ عقود طويلة، وهو: إلى متى سيظل المخرج غير مُقيد بنص المؤلف من أجل إظهار رؤيته الإخراجية؟! وإلى متى سيظل المؤلف يؤلف دون الوصول إلى تأليف يطابق أو يقترب من رؤية المخرج؟! وإلى متى سيؤلف المخرج للمؤلف المسرحي؟ وإلى متى سيخرج المؤلف للمخرج المسرحي؟! ومهما حاولنا الإجابة على هذه الأسئلة .. لن نجد الإجابة الشافية!! ولو وجدناها سنجد من يبررها في صالح المخرج تارة، وفي صالح المؤلف تارة أخرى!! وأكبر دليل على ذلك .. حيرة (المتفرج/القارئ) أمام (امرأة عنيفة) بين متعة مشاهدة عرض المُخرج، ومتعة قراءة نص المؤلفة!!

يبدأ العرض بظهور امرأة منحنية على ماكينة خياطة، تقوم بخياطة ثوب نسائي، مع سماع مقطع أغنية عبد الحليم حافظ، ينتهي بهذه العبارات (لسة مشوار الحياة شايل لنا وقفات .. معالم في طريق الحب أحلى كتير من اللي فات) .. وهذا يعني أننا سنشاهد عرضاً متفائلاً، سيدفع بطلة العرض إلى تغيير حياتها إلى الأفضل، حيث إن ظهورها كخياطة مرتدية ملابس بسيطة، يدل على فقرها وبؤسها وإحباطها .. إلخ، وهذه الاستهلالة كانت موفقة من المخرج؛ لأنه نفذ – بصورة فنية - توطئة المؤلفة في نصها، عندما كتبت (الأرض ضيقة .. وأحلامي واسعة .. فما عساي أستطيع؟).

بدأ العرض .. وبدأت بطلته (رباب طارق) في الحركة والتحدث، فعلمنا أنها تتبرم من أي نظام! بل وتتمرد على أية قواعد أو تصميمات تُملى عليها!! فهي خياطة، ويجب عليها أن تنفذ للزبائن ما يطلبونه من تصميمات لملابسهم بغض النظر عن ذوقهم السليم أو غير السليم! وسبب تمردها هذا أزمة نفسية - بدأت في تذكرها وسردها - عندما عاتبت ابن المسئول الكبير وأصدقائه؛ لأنهم دائماً يخالفون القواعد ويكسرونها، حيث إنهم (يرفعون المفعول وينصبون الفاعل)!! هنا المشاهد يُصاب بالدهشة والاستغراب .. بل وبالاستهجان، ويتساءل: ما علاقة خياطة فقيرة – وربما جاهلة – بقواعد النحو والصرف؟! وماذا يؤلم هذه الفقيرة الجاهلة بأن البعض يرفع المنصوب وينصب المرفوع؟! ولكن لو علم المشاهد أن المؤلفة كتبت شخصية البطلة على أنها مُدرّسة لا خياطة، سيعلم السر في هذا الاهتمام بقواعد اللغة، وهذا الأمر لم ينتبه إليه المخرج!! فلو أراد المخرج أن يُغيّر من مهنة البطلة من مُدرّسة إلى خياطة – وهو محق في التغيير لأن مهنة الخياطة تستدر عطف المُشاهد وشفقته أكثر من مهنة التدريس – لو أراد المخرج هذا التغيير، كان لزاماً عليه أن يجد سبباً مقنعاً لأزمة البطلة النفسية يتوافق مع مهنة الخياطة، لا مع مهنة التدريس!! وبمعنى آخر نقول: كما قام المخرج بتغيير بداية العرض – كما جاء في النص – من مُدرسة منحنية على كراريس تُصححها إلى خياطة منحنية على ماكينة الخياطة، كان يجب عليه تغيير كل ما يتعلق بمهنة التدريس إلى كل ما يتعلق بمهنة الخياطة، وهو التغيير الذي نفذه بمهارة في الديكور والإكسسوارات .. إلخ، مما يعني نجاح المخرج في اختيار مهنة الخياطة، وإخفاقه في إقناعنا بأزمة البطلة كخياطة لا كمدرسة!!

وعكس هذا الموقف نجد نجاح المخرج في تجسيد صورة ابن المسئول الكبير، حيث وصفته المؤلفة – في نصها - بـ(الولد السمين الذي لا يدري من الدنيا غير الطعام والشراب والذي يظل طوال اليوم يأكل ويأكل)، فما كان من المخرج أن جعل البطلة تُمسك بدمية ممثلة لهذا الولد، ومن ثم – وأثناء حديثها – تحشر في ملابسه قطعاً من الأقمشة في نهاية كل جملة تلقيها في عنف وانتقام، فجاءت كل قطعة محشورة كأنها طعنة في جسد هذا الولد، تعبيراً عن موقفها من الظلم الذي وقع عليها بسببه.

هذا النجاح في التنفيذ الإخراجي استمر أيضاً، عندما نفذ المخرج لقاء البطلة مع المسئول الكبير – والد الابن السمين – الذي عنفها ووبخها وظلمها واتهمها زوراً وبهتاناً، وكان السبب في سجنها لمدة عامين!! هذا الموقف بين الظالم والمظلوم، أو بين الجلاد وضحيته، نجح المخرج في تنفيذه، عندما رمز لهذا المسئول الكبير بالدمية الخشبية صغيرة الحجم دلالة على تفاهته وصغر قيمته بوصفه ظالماً، أمام البطلة التي ظهرت مارداً - تتلاعب بالدمية - بوصفها مظلومة. كذلك عبر المخرج عن خواء الظالم، عندما وضع صورته – أي الدمية – في برواز خارجي مُعلق في الهواء، وهو برواز لصورة غير موجودة، مُعلق على حائط وهمي!! وبلغ المخرج ذروة نجاحه – في تأكيد دلالة هذا الموقف – عندما جعل دمية (الظالم/المسئول) تقف في دائرة ضوئية قاتمة اللون دلالة على قتامة الظلم مقابل وقوف (المظلومة/البطلة) في دائرة ضوئية فاتحة اللون دلالة على قوتها وثبات موقفها، رغم الظلم الواقع عليها!

أما مشهد التحقيق مع البطلة، فالنص كان أنجح من العرض!! فالنص أبان عن قوة البطلة في طرحها لقضايا عربية وقومية، مثل: الموقف من أسطول الحرية، وما يحدث في فلسطين، وما يحدث في العراق .. إلخ، أما العرض فتحدثت فيه البطلة عن قضايا حياتية محلية شخصية تتعلق بالمرأة مثل التحريض على السادة، وإدارة منزلها لاجتماعات مشبوهة، وتبرم المرأة من معيشتها بلا عدالة أو حرية أو نظام. وبقدر نجاح العرض في تجسيد المحققين بوضعهم في صورة (أقنعة/ماسكات) دخل براويز معلقة، بقدر نجاح النص عندما أنزل قفصاً حديدياً تتحدث من  داخله البطلة المتهمة، وما أيسر تنفيذ هذا – على المخرج – وما أقوى تأثيره على المشاهدين لو نُفذ كما جاء في النص!!

ومع استمرار العرض نجد البطلة تخرج من السجن باحثة عن عمل، فتجده في أحد المقاهي شريطة أن تفوز في لعبة الشطرنج! فإن فازت فستعمل في المقهى أسبوعاً بالأجر الذي تحدده، وإن خسرت ستعمل في المقهى أيضاً أسبوعاً؛ ولكن بدون أجر .. وهنا التحدي!! فتوافق البطلة وتبدأ اللعبة، وهنا تجتمع عدة عناصر فنية في الوصول إلى أقوى موقف تمثيلي – من وجهة نظري – في العرض بأكمله فقد كانت الإضاءة بارعة في اللون الأحمر الذي سُلط على البطلة ورقعة الشرطنج، عندما بدأت البطلة في إمساك أول قطعة لتبدأ اللعبة! وبقدر نجاح الإضاءة نجحت الموسيقى أيضاً عندما تعالت في درجات متلاحقة تصاعدية؛ وكأنها موسيقى حربية تعزف لحن بداية المعركة! ومع الإضاءة والموسيقى جاء أفضل أداء تمثيلي قامت به بطلة العرض، عندما التفتت في ثقة وشموخ واعتدال في الجسد أثناء الجلوس قائلة: (ها أنا ذا أمتلك شارة البدء لأول مرة .. وبإمكاني التحكم في رقعة الشطرنج كلها .. فلأعتبرها العالم)!!

وهنا تأتي ذروة الصراع النفسي!! فالبطلة مظلومة بصورة دائمة .. من ابن المسئول تارة، ومن المسئول تارة أخرى، ومن محققي مكتب العمل تارة ثالثة، ومن القاضي الذي حكم عليها ظلماً ... ومن ومن ومن ... إلخ، أي أن العالم كله ظلمها بسبب نظامه!! فما هو موقفها عندما تُشكل العالم بنفسها، وتضع له نظاماً خاصاً بها من خلال تحكمها في رقعة الشطرنج .. أي تحكمها في عالمها المُفترض؟! وبكل أسف تفشل البطلة في وضع نظام عالمها، وتخسر اللعبة التي وضعت لها نظامها؛ وكأن العرض أراد أن يقول: إن النظام السياسي نظام مفروض علينا، لا نستطيع تغييره بصورة فردية، ولا نستطيع رسمه بصورة فردية!! فأي فرد يريد أن يُغير النظام المرسوم والمفروض سيفشل ويصاب بالإحباط، وهو الأمر الذي عبر عنه المخرج بإضافة مشهد الراديو – وهو غير موجود في النص – ذلك الراديو، الذي أذاع أخباراً محلية معاصرة، مثل: إضافة ثلاجتين للمشرحة تسع كل منها 120 جثة، وحبس مواطنين تجمهروا مع تعذيبهم، وإقامة مباراة كرة قدم وقت حظر التجول .. إلخ!!

ولو سرت في مقارنتي بين النص والعرض – لن أتوقف عن الكتابة – خصوصاً ظهور ذكريات الزوج، الذي عاش مع البطلة ثلاثين عاماً!! فأين دوره في حياتها منذ بداية العرض؟! وما موقفه ممن ظلمها؟! وماذا فعل أمام سجنها؟! ... إلخ، كذلك الحديث عن أم البطلة وأبيها، وإقحام كل أحداث العالم العربي والغربي في النص ...!! فقد شعرت بأن المؤلفة أرادت أن تضع كل مشاكل العالم المعاصر في هذا النص!!

وبالرغم من كثرة الأحداث في النص والعرض - ووجوب المقارنة بينهما، مع صعوبة تنفيذ ذلك في هذه الكلمة المقتضبة – إلا أنني سأتوقف عند ختام العرض، الذي جاء في نهايتين!! وأقترح على المخرج – في حالة إعادة العرض – أن يختتم عرضه بعد نهاية قصيدة (العراف الأعمى) لأمل دنقل، أي بعد سماع هذه العبارات: (لم نولد لنهز الدنيا .. لم نخلق لنخوض معارك ..  نحن ولدنا .. للإلهام .. للأحلام .. للصلوات)!! وهي أبلغ تعبير عن مضمون النص وفكرته ويحقق هدفه!! لا سيما وأن إخراج هذا المشهد كان مؤثراً للغاية .. فمع سماع القصيدة كانت البطلة تُسدل الستائر على جميع البراويز والصور في صورة متتابعة هادئة وموسيقى موحية بالنهاية، أي إخفاء ومحو كل ذكريات البطلة وتاريخها، وكل الأنظمة وكل القوانين! وصاحَبَ إسدال كل ستارة إظلام تام لكل برواز، أي كل ذكرى .. ولم يبق غير برواز واحد الذي أُسدلت ستارته الأخيرة مع إظلام أخر شعاع ضوئي ...... هنا انتهى عرض المخرج، وهو ختام قوي مُعبر مؤثر .. وغير منصوص عليه في النص!!

ولا أعلم لماذا أصرّ المخرج على استكمال عرضه – بعد ختامه القوي هذا - بختام النص، وما فيه من مباشرة تعليمية موجهة للجمهور، عندما وصفت البطلة العالم الآخر بعد الموت، قائلة: (لا بد أن الحياة هناك ستكون أفضل .. فهناك: لا مؤامرات، ولا بطاقات تهنئة، ولا تزوير، ولا أخطاء نحوية، ولا قتل، ولا سياسة، ولا أمن مركزي، ولا نظام، لا نظام .. هناك تنتفي الفلسفات العقيمة، والعقول الذاهلة .. هناك .. حيث لا يبقى سواه!!) .. والمقارنة بين النهايتين، ستصب في صالح المخرج! وربما كانت نهاية المؤلفة غير مقبولة العرض بعد نهاية المخرج، مما أوقع البطلة في خطأ لفظي .. أو (ذلة لسان)!! فبدلاً من قولها بعد نهاية كل شيء في العام الآخر: (حيث لا يبقى سواه)، أي لا يبق إلا الله عزّ وجل!! .. قالت: (حيث لا يبقى سواي)!!

لم يبق سوى ملاحظة أخيرة تتعلق بعنوان (العرض/النص) وهو (امرأة عنيفة)!! فالبطلة كانت عنيفة فعلاً؛ ولكنها عنيفة في رقتها .. وأنوثتها .. وهمساتها .. وحركاتها .. وخطواتها .. وكلماتها .... فأي عنف هذا؟!! الحقيقة أننا قرأنا وشاهدنا امرأة لم تُظهر أي عنف في أي موقف طوال العرض أو النص، والوصف الذي ينطبق عليها، إنها امرأة: متمردة أو مظلومة أو بائسة أو محبطة .. إلخ

sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 283 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

783,513