قضايا المسرح العربي عند يعقوب لنداو
المسرح في مصر نموذجاً
ـــــــــ
د. سيد علي إسماعيل
أولاً : الإطار العام
1 – الموضوع :-
يتناول هذا البحث موضوع " قضايا المسرح العربي عند يعقوب لنداو: المسرح في مصر نموذجاً". ويُقصد بقضايا المسرح العربي تلك الموضوعات المتعلقة بالمسرح العربي، من حيث عوامل النشأة والتطور والازدهار، والظروف المهيئة لكل مرحلة وسماتها. وكذلك الفرق المسرحية وطبيعة تشكلها، والمؤثرات خلف نجاحها أو تفككها، أو تأثيرها في خلق أشكال فنية محورة أو مكررة أو مبتكرة. وكذلك الموضوعات التي عالجها المسرح العربي في فتراته المختلفة، من حيث مضمونها أو تصنيفها، بين الإبداع والتعريب أو الاقتباس. وذلك في إطار رؤية المستشرق يعقوب لنداو Jacob M. Landau في دراسته لقضايا المسرح العربي بصفة عامة، وفي في مصر بصفة خاصة. تلك القضايا التي تناولها لنداو في كتابه الضخم (STUDIES IN THE ARAB THEATER AND CINEMA) الصادر بالإنجليزية عام 1958، الذي ترجمه أحمد المغازي عام 1972، تحت عنوان (دراسات في المسرح والسينما عند العرب). وقد اتخذت الدراسة ثلاث قضايا من قضايا هذا الكتاب، تمثلت في نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر.
واختيار الدراسة لهذه القضايا، جاء من أجل تجلية ومناقشة فكر لنداو في تناوله لهذه القضايا، وفقاً لمنهجه في تناول قضايا المسرح العربي منذ نشأته في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين. وذلك من خلال معايير الدراسة التي يتبناها البحث، والمتمثلة في أمرين، هما: مناقشة الشكل الفني، ومناقشة الموضوعات. وذلك من أجل التحقق من أهداف البحث المرجوة.
2 – أهمية الدراسة وأسباب اختيار الموضوع :-
تُعد دراسة المسرح بصفة عامة من الدراسات الدقيقة في مجال الآداب العالمية والمحلية، خاصة نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر، لكونها تتعلق بتاريخنا الفني والأدبي في الوقت الراهن. خصوصاً بعد هذا الكم الهائل من الدراسات التي نُشرت حديثاً، والتي أضافت الكثير من الأمور المجهولة في هذا الجانب. بالإضافة إلى نشر النصوص التراثية المسرحية، التي أجلت للدارسين موضوعات كانت في طي النسيان ([1]). وبناء على ذلك نجد دراسة لنداو للمسرح العربي – موضوع الدراسة – تُعد في نظر الكثيرين أول دراسة نُشرت باللغة الإنجليزية عن المسرح العربي، كما أن نتائجها تُعد – في نظر البعض - أدق النتائج في هذا الموضوع ([2]).
والدراسة ترى أن تناول لنداو للمسرح العربي في كتابه "دراسات في المسرح والسينما عند العرب" - بالإضافة إلى أهميته العلمية – يُعتبر أول مرآة تنعكس على صفحتها صورة المسرح العربي أمام العالم الغربي، باعتباره أول كتاب مكتوب بلغة أجنبية في هذا الموضوع ([3]). وبناء على ذلك تزعم الدراسة إن صورة المسرح العربي المرسومة في هذا الكتاب من وجهة نظر لنداو، هي الصورة الأساسية المطبوعة في أذهان الدارسين الغربيين. ومن المحتمل أن تصور لنداو للمسرح العربي في هذا الكتاب، يمثل ركيزة من الركائز الأساسية في كثير من الدراسات الأجنبية عن المسرح العربي! ويزيد هذا الاحتمال قوة، أن هذا الكتاب – بعد ترجمته ونشره في مصر – أصبح مرجعاً أساسياً في أغلب – إن لم يكن في كل - الدراسات العربية التي تناولت نشأة وتطور المسرح العربي ([4]).
ومن ثم فإن أهمية هذه الدراسة، تتمثل في مناقشة تصور لنداو لنشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر، بوصفه نموذجاً من قضايا المسرح العربي المتنوعة في هذا الكتاب. ومن ناحية أخرى تحاول الدراسة أن تلقي الضوء على حقيقة هذه القضايا، من وجهة النظر الاستشراقية. متمثلة في صورة رائد من رواد الاستشراق في هذا المجال، وواحد من الذين شكلوا التصور الغربي لواقع المسرح العربي في مصر، ومن ثم إبرازها في صورتها الواقعية وفي سياقها التاريخي. ومناقشة تصور لنداو لها وحكمه عليها، باعتباره مستشرقاً، لتتفحص الدراسة الحقيقة حول نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر. حتى تكون مرآة صافية تعكس للغرب وللعالم العربي، جانباً آخر من جوانب نهضتنا الفنية العربية. وليطلع القاريء على تصور لنداو في هذه القضايا، مع اطلاعه أيضاً على تصور الرأي الآخر.
3 – الدراسات السابقة :-
لم تُعنَ دراسة عربية سابقة - على حد اطلاعي – بقضايا كتاب يعقوب لنداو "دراسات في المسرح والسينما عند العرب" في مجملها بالنقد أو التفنيد أو المناقشة، ناهيك عن موضوع المسرح بصفة خاصة. ولكن أغلب الدراسات التي اعتمدت على كتاب لنداو كانت تنقل منه أموراً تعتقد في صحتها ([5]). وبالرغم من ذلك، فإن بعض الدراسات الحديثة ناقشت – على استحياء - عدة أسطر من كتاب لنداو ([6]). ومن الجدير بالذكر إن كاتب هذه السطور كانت له وقفة مع هذا الكتاب، فيما يخص ما ذكره لنداو عن مسرح يعقوب صنوع ([7]).
أما فيما يختص بالدراسات الأجنبية، فقد نشر فيليب سادجروف Philip Sadgrove كتاباً باللغة الإنجليزية عام 1996 بعنوان "The Egyptian Theater in the Nineteenth Century"، "المسرح المصري في القرن التاسع عشر" – لم يترجم حتى الآن حسب اطلاعي – اعتمد فيه على كتاب لنداو اعتماداً كبيراً، الأمر الذي حدا بالمؤلف إلى أن يُشيد بلنداو في مقدمته، قائلاً: "لقد لاقت دراسة المسرح العربي في القرن التاسع عشر اهتماماً كبيراً، خاصة في الأربعين سنة الأخيرة، وليس أدل على ذلك من الجزء الذي احتواه العمل الرائد الشامل ليعقوب لنداو في كتابه دراسات في المسرح والسينما عند العرب، الذي طبع عام 1958" ([8]). وهذا القول يعضد مزعم الدراسة من قبل، من أن كتاب لنداو يمثل الصورة الأجنبية الأساسية عن المسرح العربي أمام أعين الدارسين الأجانب، وأن رؤيته الاستشراقية هي الرؤية المعتمدة في نظر الباحثين الأجانب أيضاً.
4 – المادة عينة الدراسة ومعايير الاختيار :-
إذا كان هذا البحث قد حدد لنفسه موضوعاً عاماً يختص بقضايا المسرح العربي عند يعقوب لنداو، على اتساعه وتشعبه. فإنه في الوقت ذاته سيكون أكثر تحديداً، باختياره المسرح في مصر نموذجاً، وذلك من خلال قضايا نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر. لما يعتقده بأن لنداو لم يعكس هذه القضايا في كتابه – السالف الذكر – بالصورة المناسبة لمكانة هذا الفن في مصر، ولمكانة الذين على أكتافهم نشأ المسرح وتطور وازدهر. لذلك فإن مقتضى البحث العلمي يوجب تحديد المادة، التي من خلالها ستتم معالجة الموضوع بصفة عامة، والجزء المحدد بنشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر بصفة خاصة؛ وذلك من خلال الحديث عن المؤلف يعقوب لنداو ودراساته بصفة عامة، والمسرحية بصفة خاصة.
أ – المؤلف :-
حصل المستشرق الألماني يعقوب لنداو على درجة الماجستير من الجامعة العبرية في القدس، وعلى درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية من جامعة لندن. وعمل لنداو بالتدريس في الجامعة العبرية بالقدس، ومحاضراً زائراً في دراسات الشرق الأدنى في جامعات أمريكا، ومحاضراً عن دراسات الشرق الأدنى الحديثة في كلية القانون والاقتصاد بجامعة تل أبيب، وأستاذاً في قسم الدراسات الأدبية واللغوية لبلاد الشرق الأدنى في كلية الآداب بجامعة وين ستيت بمتشجن، وأستاذاً فخرياً للعلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس، وزميل مركز القدس للشئون العامة ([9]).
ويُعتبر لنداو واحداً من البارزين ضمن مجموعة المستشرقين المهتمين بالدراسات العربية والشرقية، وذلك بناء على ما أصدره من كتب ودراسات، منها: كتاب "الحياة البرلمانية والحزبية في مصر"، وكتاب "المترادفات وبيانها في النثر العربي الحديث"، وكتاب "الأدب العربي القديم والحديث" بالاشتراك مع البرفسور جب (Gibb)، وكتاب "اليهود في مصر العثمانية"، وكتاب "الأقلية العربية في إسرائيل"، وكتاب "اليهود العرب والأتراك"، ودراسة "أبو نضارة يهودي قومي مصري" ([10]).
ب – دراسات لنداو في مجال المسرح العربي :-
وإذا نظر البحث إلى دراسات يعقوب لنداو الخاصة بالمسرح العربي، سيجدها – لما بين يديه من مراجع – دراستين. الأولى، كتاب "دراسات في المسرح والسينما عند العرب"، والأخرى كتاب "المسرح الشعبي العربي في القاهرة سنة 1909: أحمد الفار ومسرحياته الشعبية"، بالاشتراك مع المستشرق الألماني الهولندي مانفريد فويديش Manfred Woidch، والصادر عام 1993 في بيروت ([11]). وهو كتاب به نصوص محققة لمسرحيات أحمد فهيم الفار، مع مقدمة ودراسة اشترك في كتابتهما المستشرقان لهدفين مختلفين.
فلنداو يُعنى بالجانب المسرحي وبشخصية الفار في إطار توجهه التاريخي والأدبي. أما فويديش فإنه مستشرق لغوي همه اللهجات ورصدها جغرافياً، وتحليلها طبقاً لقواعد مناهج علوم اللغة. ومن ثم فإن كليهما وجد ضالته حسبما يخدم هدفه الخاص في نشر مسرحيات الفار، فهي تخدم اللغة العامية لفويديش وتخدم إبراز شخصية مسرحية بالنسبة للنداو. وعليه فإنها ليست دراسة شاملة للمسرح، هدف وموضوع الدراسة الحالية. وبناء على ذلك، وجد البحث أن الدراسة الأولى - "دراسات في المسرح والسينما عند العرب" - هي المتعلقة بعنوانه العام "قضايا المسرح العربي عند يعقوب لنداو"؛ وتمثل 100% من نتاجه في مناقشة قضايا المسرح العربي.
ومن الجدير بالذكر إن قضايا المسرح العربي في كتاب لنداو "دراسات في المسرح والسينما عند العرب"، والتي تمثل 100% من نتاجه، تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، الأول خاص بالسلفيات وتحديداً بمسرح خيال الظل، والثاني خاص بالمسرح العربي، والأخير خاص بالسينما العربية. وبما أن البحث معني بالحديث عن نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر، فإنه سيعالج الجزء الثاني، أي ما يُمثل 35% من نتاج يعقوب لنداو الخاص بقضايا المسرح العربي.
5 – المنهج والأدوات :-
في محاولة حثيثة، توصل البحث إلى اختيار المنهج التاريخي التحليلي، ليصل إلى أهدافه في صورة يسيرة وواضحة، وذلك من أجل دراسة نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر، معتمداً على دراسة – ما يُعرف بـ - الحقائق التاريخية من مصادرها الوثائقية المتوفرة، ثم تحليلها وتفسيرها. وذلك على الرغم من أن المعرفة التاريخية صعب الإحاطة بها من جميع جوانبها بسب وضع مصادرها ومدى مصداقية ما توفر منها. هذا بالإضافة إلى أن استخدام هذا المنهج سيُعين البحث في الحكم على الأعمال المسرحية، التي صاحبت النشأة والتطور والازدهار، في زمنها وعصرها، بناء على الآراء التي نُشرت عنها في الصحف السيارة، ليستدل البحث منها على لون التفكير السائد في عصر من العصور، وليوازن بينها وبين آراء لنداو، وتفسيره للقضية.
ومن هذا المنطلق تأتي قيمة أداة الدوريات – الصحف والمجلات - التي صاحبت نشأة وتطور وازدهار المسرح العربي في مصر، وكذلك النصوص المسرحية المنشورة منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. وبمعنى آخر، أن البحث سيلتزم في مناقشة قضاياه، بما توفر بين يديه من دوريات ووثائق ونصوص، صدرت قبل صدور كتاب لنداو "دراسات في المسرح والسينما عند العرب" عام 1958. حتى تكون المناقشة موضوعية ومنطقية، يستسيغها عقل القاريء، بقراءة الرأي والرأي الآخر، بناء على المادة العلمية المتاحة للرأيين في الزمن نفسه. حيث لا يوجد كتاب – على حد علمي – صدر في هذا الموضوع قبل كتاب لنداو، إلا كتاب الدكتور محمد يوسف نجم "المسرحية في الأدب العربي الحديث" عام 1956، ولكن لنداو ذكر إنه لم يطلع عليه بصورة دقيقة، ولم يستفد منه إلا في أضيق الحدود ([12]).
6 – أهداف الدراسة :-
بناء على المنطق العلمي، فإن لكل بحث علمي أهدافاً يطمح إلى تحقيقها، لذلك اختار الباحث موضوع "قضايا المسرح العربي عند يعقوب لنداو" واتخذ من "المسرح في مصر نموذجاً"، وعُني بالمنهج والأدوات سالفة الذكر، محاولة الوصول إلى:
أ – الوقوف على معيار التقسيم العام لمراحل المسرح عند لنداو.
1 – إطاره العام.
2 – مصادره في الرصد.
3 – منهجه في الاستنتاج.
ب – توضيح موقف لنداو من نشأة المسرح العربي في مصر.
1 – الشكل الفني.
2 – الموضوعات.
ج – الوقوف على رؤية لنداو لعوامل التطور المسرحي ومظاهره.
1 – الشكل الفني.
2 – الموضوعات.
د – الكشف عن مبررات ازدهار المسرح في مصر ومظاهره عند لنداو.
1 – الشكل الفني.
2 – الموضوعات.
7 – أبعاد الدراسة :-
تقع الدراسة في محورين أساسيين، أولهما يختص بالإطار العام ويشمل ستة نقاط فرعية. تُعنى الأولى بتحديد الموضوع وشرح أبعاده، وتنصرف الثانية إلى بيان أهمية الدراسة وأسباب اختيار الموضوع. وتقف الثالثة أمام الدراسات السابقة للموضوع، حتى يتكشف جانب الجدة في نقطة البحث المتناول. وتتناول الرابعة المادة عينة الدراسة من حيث المؤلف والموضوع المعالج كماً وكيفاً، وكذلك معايير معالجة الموضوع، حتى تُسلم إلى الخامسة التي توضح منهج البحث في معالجة الموضوع بطريق علمي، في ضوء منهج له معاييره وأدواته الأساسية والمعينة، ومن ثم ما يُعين على إنجاز الهدف. أما النقطة السادسة فإنها تقف أمام أهداف الدراسة طبقاً لمعايير ثابتة وواضحة، حيث قسمت الأهداف إلى أربعة رئيسية. يعالج تحت كل هدف فرعان ثابتان – عدا الهدف الأول - كما وُضح في تقسيم الأهداف، بغية أن تتمكن الدراسة من اختبار أهدافها والوصول إلى نتائجها في ضوء محكات واضحة. ثم يأتي الأساس الثاني ليختص بالدراسة التحليلية ويشمل فرعين أساسيين: أولهما دراسة الموضوعات المقترحة للاختبار في أهداف البحث الأربعة بفروعها، وثانيهما يبلور النتائج التي توصل إليها البحث من خلال مناقشة الأهداف في ضوء معاييرها. ثم يأتي بعد ذلك ثبت بهوامش البحث، ثم قائمة المصادر والمراجع.
ثانياً : الدراسة التحليلية
أ – الوقوف على معيار التقسيم العام لمراحل المسرح عند لنداو.
1 – أ – إطاره العام
قسم لنداو معالجته لنشأة المسرح العربي في مصر وتطورها وازدهارها إلى قسمين. تناول في القسم الأول، الذي يمتد من الثلث الأخير للقرن التاسع عشر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، المعنون بـ "مصر في أيام إسماعيل"، تناول دور سليم خليل النقاش وأديب إسحاق ويوسف الخياط في نشأة المسرح العربي في مصر عام 1876. ثم تحدث بعد ذلك عن جهود يعقوب صنوع المسرحية ابتداءً من عام 1870 إلى عام 1872، مخالفاً بذلك التسلسل التاريخي – وذلك في حالة إثبات أن لصنوع نشاطاً مسرحياً عربياً في مصر – حيث يأتي ترتيب صنوع في بداية النشأة المسرحية عام 1870، قبل سليم النقاش عام 1876، وقبل يوسف الخياط عام 1877. وهذا الأمر سيبينه البحث في حينه. ثم جاء حديث لنداو بعد ذلك عن مرحلة التطور المسرحي في مصر، على يد سليمان القرداحي وإسكندر فرح والشيخ سلامة حجازي.
والبحث يرى أن لا غبار على التقسيم الموضوعي والتاريخي لهذه الشخصيات - من قبل لنداو– رغم مخالفته لترتيب الشخصيات تاريخياً إلا في أمر مهم للغاية، وهو عدم اشتمال هذا التقسيم على شخصيات مسرحية عربية، تُعد من أهم الشخصيات الفنية في تلك الفترة، والتي أثرت إيجابياً في مسيرة تطور المسرح العربي في مصر. مثل شخصية أحمد أبو خليل القباني، تلك الشخصية التي استمر عطاؤها الفني في مصر منذ عام 1884 إلى عام 1900 ([13]). وشخصية سليمان الحداد، الذي استمر نشاطه المسرحي في مصر من عام 1881 إلى عام 1912 ([14]). وأخيراً شخصية ميخائيل جرجس صاحب جوق السرور - الذي يُعتبر أول مصري يُكوّن أول فرقة مسرحية مصرية في تاريخ مصر - تلك الفرقة التي استمر إسهامها الفني في مصر اثنتي عشرة سنة من 1887 إلى 1899 ([15]).
أما القسم الثاني - والذي امتد منذ الحرب العالمية الأولى حتى منتصف القرن العشرين، والذي جاء تحت عنوان "سنوات ما بعد الحرب وممثلوها" – فقد تحدث فيه لنداو عن بعض الرموز المسرحية التي كان لها بصمات واضحة في تطور وازدهار المسرح في مصر، أمثال: جورج أبيض، وفاطمة رشدي، ويوسف وهبي، وعزيز عيد، ونجيب الريحاني، وعلي الكسار. والمُلاحظ أن هذا التقسيم لم يأتِ طبقاً للتسلسل التاريخي. حيث يأتي نشاط فرقة يوسف وهبي عام 1923، قبل نشاط فرقة فاطمة رشدي عام 1927، ونشاط فرقة عزيز عيد عام 1908، يأتي قبل نشاط فرقة جورج أبيض عام 1910، ونشاط علي الكسار عام 1914، يأتي قبل نشاط نجيب الريحاني عام 1915.
وعلى الرغم من ذلك، فلم يشمل هذا التقسيم رموزاً مسرحية، من الصعب تجاهلها في مرحلة تطور وازدهار المسرح العربي في مصر، مثل فرقة أولاد عكاشة التي استمر نشاطها المسرحي في مصر منذ عام 1909 وحتى عام 1928 ([16]). وكذلك فرقة منيرة المهدية التي استمرت في عملها المسرحي الغنائي في مصر منذ عام 1915 وحتى عام 1938 ([17]). وإذا كان المعيار التاريخي مضطرباً عند لنداو، فإن معيار التنميط الفني لم يسلم أيضاً من الاضطراب، حيث إن بدهيات المنهج العلمي تقوم على ثبات المعيار في اختبار الظاهرة للوصول إلى نتائج دقيقة.
ومن مظاهر عدم ثبات المعيار التقسيمي عند لنداو، تقسيمه المسرح إلى كلاسيكي وموسيقي وشعبي، وكل قسم لا يدخل تحت معيار مثيله! إذ الكلاسيكي لا يقابله الموسيقي أو الشعبي، ولكن يقابله الحديث، لو اعتبرنا المعيار يقوم على شكل أو موضوع. والشعبي لا يقابله الغنائي أو الكلاسيكي، إنما يقابله على معيار الموضوع أو المتلقي الخاص أو الفئة المثقفة. ليس هذا فقط وإنما من جانب آخر، يجب أن يكون المعيار واضحاً ومبرراً، في تناسبه مع المادة المنمطة. إذ التقسيم قد يقوم على حكم من جهة الموضوعات أو من جهة المشاهد. فمثلاً هل الشعبي لأنه يجذب القاعدة العريضة من الشعب، كما هو قصد لنداو، إذن سيكون في المقابل، طبقاً للمعيار أن هناك مسرحاً خاصاً كان موجوداً. وقس على ذلك باقي التقسيمات، وما يندرج تحتها من السمت الفني لتوزيع الفرق.
ومن ثم قد لوحظ أن لنداو في تقسيمه الموضوعي لهذا الجزء، لم يلتزم بمعيار منهجي علمي. فقد تحدث عن جورج أبيض من خلال تصنيف موضوعاته المسرحية إلى النوع الكلاسيكي. وفي المقابل لم يأتِ لنداو بفرق مثيلة أو مضادة لهذا النوع، حتى يقف القاريء على قيمة كلاسيكيات جورج أبيض. وربما هذا الأمر من قبل لنداو كان مقصوداً، حتى تكون نتائجه عن جورج أبيض نتائج نهائية. والأمر نفسه قام به لنداو عندما وضع فاطمة رشدي ويوسف وهبي ضمن المسرح الموسيقي، علماً بأن مسرحهما يُصنف ضمن مسرح الميلودراما Melodrama، بمفهومه الحديث المعتمد على الأحداث المفزعة والانفعالات المبالغ فيها والمصادفات المُتعمدة من أجل الإثارة والتوتر، وليس الميلودراما بمفهومها القديم ذات العلاقة بالمسرحية الغنائية ([18]).
كذلك كان الأمر مع المسرح الشعبي، الذي قصد به لنداو المسرح الذي يجذب الطبقات الشعبية من الناس، ولم يلتزم بمفهوم المسرح الشعبي بمعناه الاصطلاحي المعروف، الذي يعتمد على المأثورات الشعبية ([19]). ورغم ذلك لم يأتِ لنداو بمسرح شبيه أو مضاد لذلك المسرح، حتى يصح معياره، ويستطيع القاريء الوقوف على قيمة هذا المسرح بمقارنته بغيره أو بما يقابله. وبسبب ذلك اضطرب التقسيم الموضوعي عند لنداو، عندما ضم فيه عزيز عيد والريحاني والكسار. فكل مسرح من هذه المسارح له لون يختلف عن الآخر. فمثلاً عزيز عيد قدم الفودفيل Vaudeville، كما قدم الريحاني الفرانكوآراب Franco-Arabe، أما الكسار فقدم المسرحية الكوميدية الغنائية الشعبية. ومن خلال ذلك يتضح أن لنداو لم يلتزم معياراً موحداً في التقسيم، وهي خطوة في المنهج العلمي مبدئية لتحقيق شرعية أية دراسة.
2 – أ – مصادره في الرصد
ذكر أحمد المغازي – مترجم الكتاب – أن لنداو وضع أكثر من سبعمائة هامش في كتابه، تنوعت مراجعها بين الألمانية والفرنسية والإيطالية والعبرية والتركية والعربية والإنجليزية. وقد أثنى البروفسور "جب Gibb" على ذلك موضحاً أن لنداو كان يقرأ كل شيء بنفسه، وكان دقيقاً بدرجة متناهية ([20]). والبحث يرى أن لنداو استخدم بالفعل مراجع كثيرة ومتنوعة، ولكنها في الوقت نفسه لا تعتبر مراجع أصيلة ومباشرة، يستطيع الباحث الاعتماد عليها في استخلاص المعلومات الدقيقة التي تفيد موضوعه المعني.
فعلى سبيل المثال اعتمد لنداو في حديثه عن يعقوب صنوع، على كتابين حديثين طُبعا بعد عام 1953، ولم يأتِ بمرجع واحد معاصر لنشاط صنوع المسرحي – إن صح وجود هذا النشاط – في عام 1870 أو بعده ([21]). كما أنه اعتمد على كتب أدبية عامة - مثل تاريخ الأدب العربي لبروكلمان Brockelmann، وتاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان، وتاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ([22]) - في مواضع تحتاج إلى كتب دقيقة ومتخصصة في المسرح العربي، أو إلى دوريات معاصرة للأحداث. كما أنه نقل أسماء كتب، ربما لم يطلع عليها، فكتب أسماء مؤلفيها بصورة غير دقيقة، مثل كتاب "بغية الممثلين" لسليمان حسن القباني، الذي ذكره (سليمان حسن القرداحي) ([23]).
والملاحظ أن لنداو تحدث عن نشاط مسرحي لكثير من الشخصيات والفرق المسرحية بصورة تاريخية، إلا أنه لم يعتمد في ذلك على الدوريات العربية والمصرية المصاحبة لتاريخ هذا النشاط يوماً بيوم. علماً بأن هذه الدوريات تمثل المصدر الأساسي للنشاط المسرحي في مصر بصفة عامة. وإذا كان لنداو اعتمد على بعض هذه الدوريات، إلا أن البحث يظن أنه اعتمد عليها بصورة غير مباشرة، عن طريق ذكرها في بعض الدراسات الأخرى، دون أن يطلع عليها بنفسه. ومثال على ذلك جريدة الشعب التي نقل عنها من خلال مرجع أجنبي ([24]). كما لاحظ البحث أن المواضع القليلة التي ربما يُفهم منها أن لنداو اطلع على أصل الدورية، كان اطلاعه عليها بصورة انتقائية، أو ربما اطلع على المتوفر منها خارج مصر، لأنه اعتمد على دوريات مهمة في سنوات لا علاقة لها بالنشاط المعاصر للفرق المسرحية في وقتها. فمثلاً نجده اعتمد على مجلة المصور عام 1947 عندما تحدث عن المسرح في مصر عام 1882، واعتمد على مجلة روز اليوسف عام 1954، عند حديثه عن المسرح في مصر عام 1905 وهكذا ([25]).
كما يُلاحظ أيضاً أن لنداو اعتمد على دوريات صدرت – تقريباً - في النصف الثاني من القرن العشرين، رغم أنه تحدث عن نشاط مسرحي بدأ في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وانتهى في النصف الأول من القرن العشرين. ومن هذه الدوريات في مصر: الكاتب، الكاتب المصري، آخر ساعة، أخبار اليوم. وفي خارج مصر: جريدة الشرق الأدنى، مجلة الشرق الجديد، الجريدة العبرية (الأرض)، جريدة الجزائر الحرة. وفي مقابل ذلك لاحظ البحث أن لنداو اعتمد بصورة أساسية على النشرات والدوريات الأجنبية الصادرة خارج مصر، أكثر من أية نشرة أو دورية صدرت داخل مصر. ومن ذلك: جريدة الدراسات اليهودية، نشرة كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن، جريدة العالم الإسلامي الفرنسية، نشرات معهد برلين للغات الشرقية، نشرة مجلة مكتب الدراسات المصرية بلندن، مجلة الشرق الحديث الإيطالية ([26]).
3 – أ – منهجه في الاستنتاج
منهج يعقوب لنداو في كتابه "دراسات في المسرح والسينما عند العرب" - كما أوضحه أحمد المغازي مُترجم الكتاب – هو المنهج العلمي للبحث الفني، الذي يتمثيل في ذكر الأسباب التي تمهد للنتائج الخاصة بقضايا الكتاب، أو ما يطلق عليه منهج الاستقراء من المقدمات للوصول إلى النتائج، بحيث يكون رأيه واضحاً بلا مواربة. وينتهي المترجم إلى خلاصة مفادها، أن لنداو قدم عملاً يتصف بالكمال كله، أو عملاً لا يؤاخذ ([27]). وفي مقابل ذلك، يرى البحث أن عدم اعتماد لنداو على مراجع ومصادر ودوريات معاصرة لأحداث المسرح العربي، كان له نتائج غير دقيقة في كتابه، واضطراب في الأحداث ونقص شديد فيها. وهذا الأمر سيتضح بصفة خاصة في مرحلة نشأة المسرح العربي في مصر. كما أن عدم اعتماد لنداو على الدوريات العربية في مقابل الدرويات الأجنبية، جعل أحكامه ونتائجه تميل إلى الرؤية الغربية للمسرح العربي، مما نتج عن ذلك التزامه بفكرة ثابتة، بأن كل تطور أو ازدهار للمسرح العربي في مصر، كان الفضل فيه يعود إلى الأجانب.
كما أن قيام لنداو بانتقاء شخصيات دون أخرى، تبعاً لمعايير غير واضحة، أثر بلا شك على نتائجه، كما أعطى انطباعاً لدى القاريء بأن الصورة الموجودة عن المسرح العربي في كتاب لنداو، هي الصورة الحقيقية لهذا المسرح. وهذا الأمر غير صحيح، حيث إن لنداو رسم صورة مختلفة تماماً عن الصورة الحقيقية. وربما كان الانتقاء من قبل لنداو مقصوداً، لتشويه الصورة الحقيقية للمسرح العربي. هذا بالإضافة إلى وقوع لنداو في اختلافات كثيرة في التسلسل التاريخي للشخصيات أو في الأحداث، حيث قدم أشخاصاً على آخرين، وجاء بأحداث قبل أحداث. وهذا الأمر ربما أيضاً كان مقصوداً لأغراض أخرى، سيبينها البحث في حينها.
وأخيراً لاحظ البحث في نتائج لنداو، بناء على عدم اعتماده الدقيق على مراجع معاصرة للأحداث، وقيامه بحذف أحداث وشخصيات، وتقديم وتأخير لبعض الأمور، وتقسيماته التاريخية والموضوعية المبنية على معايير مضطربة غير واضحة، لاحظ البحث أن لنداو ربما قام بذلك قصداً من أجل أهداف معينه في ذهنه، ترمي إلى إبراز الديانة اليهودية في حالة وجودها بين الأديان السماوية الأخرى مثل الإسلامية والمسيحية. وإذا كان الأمر يخص الإسلام والمسيحية، فلابد أن تتقدم المسيحية أولاً. وإذا تحدد الأمر في الإسلام فقط، فلابد أن يصوره بصورة غير لائقة. وإذا تنافست الجنسيات في أمر من الأمور، فلابد أن يكون الأجنبي متفوقاً وماهراً على العربي. وإذا كان الأمر يخص الجنسيات العربية، فالسوريون لهم السبق عن المصريين. وإذا تحدد الأمر للسوريين فقط، فلابد أن يقلل من شأنهم. وإذا تحدد الأمر في المصريين فقط، فلابد أن يهمش دورهم.
ب – موقف لنداو من نشأة المسرح العربي في مصر.
1 - ب – الشكل الفني.
عرض لنداو - في حديثه عن نشأة المسرح العربي في مصر - لأول مجموعة قامت بالتمثيل المسرحي، وهي فرقة سليم خليل النقاش الشامية، الذي قدم إلى مصر مصطحباً معه الكاتب المسرحي أديب إسحاق والممثل يوسف الخياط. ويُفسر لنداو قدومهم إلى مصر، بأنهم هاجروا من الشام عام 1876 هرباً من الاضطهاد الديني في بلادهم. ولكون مصر كانت مستقرة آنذاك، وقاطعة بخطى نحو الحداثة. فقد جعلوها قبلتهم ومتنفس طموحهم الفني، وفي الوقت ذاته طمعاً في سخاء الخديوي إسماعيل ([28]). ولم يعرج لنداو على كيفية تشكل هذه الفرقة وتكوينها الفني، كل ما هنالك أنه توقف مع الفرقة في أول ظهورها بمصر.
ونشأة المسرح العربي في مصر بهذه الصورة التي نقلها لنداو، تظهر لنا أن أول جماعة قامت بذلك كانت جماعة مضطهدة دينياً في وطنها، التي هجرته إلى وطن آخر أملاً في الأمان، وطمعاً في مال الخديوي. وكأنها جماعة مغلوبة على أمرها، أرادت العمل في أي مجال خارج وطنها، من أجل البقاء. وهذه الصورة لها وجه آخر، نقلته لنا بعض الدوريات والنصوص المسرحية المطبوعة، التي صاحبت نشأة هذه الجماعة في الشام وفي مصر.
وهذا الوجه يقول: إن سليم خليل النقاش زار مصر في أواخر عام 1874، وشاهد أوبرا (عائدة) باللغة الإيطالية على مسرح الأوبرا الخديوية. كما لاحظ اهتمام الخديوي إسماعيل بهذه الأوبرا على وجه الخصوص، فلما عاد إلى بيروت قام بتعريبها وطبعها عام 1875، وصدّرها بقصيدة مدح للخديوي إسماعيل، تلتها مقدمة نثرية أفاض فيها الشكر والامتنان لذات الخديوي ([29]). وهذا التصرف من قبل سليم النقاش، يدل على حُسن تفكيره وتصرفه العملي والعلمي، اللائق بكرامة الأدباء والكُتاب. فقد استطاع أن يبرهن للخديوي إسماعيل بأنه كفؤٌ لتحمل مسئولية إدخال المسرح العربي إلى مصر، بتعريبه لهذه المسرحية.
ونتج عن ذلك قيام الخديوي بتكليف سليم النقاش بمهمة إدخال المسرح العربي إلى مصر. فقام النقاش بطبع مسرحيته الثانية (ميّ) عام 1875 أيضاً - وقبل قدومه إلى مصر - وفي مقدمتها أقرّ بأنه عرض على الخديوي أمر إدخال المسرح العربي إلى مصر، ومن ثم وافق الخديوي ([30]). وربما هذا يفسر لنا أن سليم النقاش لم يكن خالي الوفاض فنياً حين قدم مصر، وإلا لما كان الخديوي قبل تكليفه بالمهمة. ولكن سليم النقاش يعود إلى أسرة لها تاريخها الفني، الذي يعني وعي سليم النقاش وخبرته في تشكيل فرقة مسرحية. وليس أدل على ذلك من أنه قدم، مُشكلاً فرقته ومختاراً موضوعه المعرب، الأمر الذي يعني وعيه بالاختيار الفني.
وإذا كان تصور لنداو صحيحاً عن هجرة جماعة سليم خليل النقاش من الشام إلى مصر، فهذا يعني أنهم قاموا بإنشاء المسرح العربي في مصر دون استعداد كافٍ لهذه المهمة، بدليل قوله: "وتدلنا السجلات المتناثرة التي تتحدث عن سيرتهم وتقدمهم في مصر، بصفة عامة، أنهم شرعوا في الحال، في تأليف المسرحيات وعرضها" ([31]). وبناء على ما أورده البحث - فيما سبق - يتضح أن كتابة المسرحيات من قبل سليم النقاش لم تكن في مصر، بل كانت في بيروت وقبل عام من قدوم جماعته إلى مصر عندما عرّب أوبرا (عائدة) وطبع مسرحية (ميّ). وهذا الأمر ينطبق أيضاً على أديب إسحاق، الذي ترجم مسرحية (أندروماك) لراسين عام 1875، قبل قدومه إلى مصر ([32]).
أما شروع هذه الجماعة في عرض المسرحيات في الحال – بناءً على قول لنداو – فهذا الأمر له وجه آخر أيضاً، يقول: إن سليم النقاش بعد حصوله على موافقة الخديوي إسماعيل بإدخال المسرح العربي إلى مصر، قام في بيروت بتحضير وتدريب مجموعة متكاملة للعمل المسرحي، وكان مقرراً لها الوصول إلى مصر لمباشرة عملها في أكتوبر 1875، لكن ظهور وباء الكوليرا في الشام أجلّ وصولهم إلى العام التالي. فاستغل سليم هذه الفترة في صقل تدريب جماعته، وقام بعرض مسرحيتي (ميّ) و(البخيل) في قاعة بطرس ببيروت ([33]). وبعد انتهاء الوباء، وصلت الجماعة إلى ميناء الإسكندرية في نوفمبر 1876 ([34]). وبناء على ذلك، تزعم الدراسة بأن نشأة المسرح العربي في مصر على يد سليم خليل النقاش، كانت نشأة منظمة. تم التحضير لها بصورة لائقة بأحد الكُتاب المسرحيين، وتتوافق مع مكانة مصر الفنية والأدبية. ولم تكن ناتجة عن جماعة مهاجرة، تبحث لها عن أي دور من أجل استمرار الحياة، كما تصورها لنداو.
وإذا تخطى البحث هذه النقطة، إلى بداية عمل الفرقة في مصر، سيلاحظ أن لنداو صورها كبداية متعثرة، قائلاً عنها: "لم تستطع الفرقة أن تقف فوق أرض ثابتة أو تنهض على قدم المساواة في منافستها للفرق المحلية ذات الخبرة" ([35]). والبحث يظن أن لنداو كان يقصد منافسة الفرق الأجنبية لا الفرق المحلية. لأن الفرق المحلية تعني الفرق المسرحية المصرية. وهذا الأمر يعتقد البحث أنه لم يحدث تاريخياً، حيث إن جماعة سليم النقاش كانت أول فرقة مسرحية عربية في مصر ([36])، والمنافس لها في ذلك الوقت كان الفرق الأجنبية التي كانت تعرض أعمالها على مسارح الأوبرا والكوميدي الفرنسي والأزبكية ([37]). وهكذا يقوى احتمال أن لنداو – في قوله السابق – كان يقصد الفرق الأجنبية لا الفرق المحلية. ومن الممكن إيعاز هذا الأمر إلى المُترجم لا إلى لنداو. حيث أكد لنداو في موضع آخر أن جماعة سليم النقاش وقت وجودها في مصر، كانت الفرقة الوحيدة، وقد أخذت تكافح ظروفها من أجل بقائها ([38]).
لكن ذلك يكشف لنا من جانب آخر أن البناء الفني الخاص بتكنيكات الفرقة للقيام بعملها كان على درجة عالية من الوعي الفني، الأمر الذي لم يلحظه لنداو طبقاً لمنهجه الاستقرائي، حيث إنه لو طبق المنهج الاستقرائي بشكل دقيق لوصل إلى نتيجة عكس ذلك، فإذا كانت الفرقة تعلم أنها قادمة إلى ساحة نشطت فيها الفرق الأجنبية المسرحية، فكيف تجرؤ هذه الفرقة على العرض أو القدوم أصلاً دون أن ترى في نفسها الاستعداد الفني الكافي واللائق؟ ولو أنها جاءت مطرودة وهاربة كما صورها لنداو لما جرؤت – أيضاً – على عرض أمرها على الخديوي معلنة التحدي والمنافسة، غير أن تصور لنداو لهذه الفرقة بتلك الطريقة يخدم استنتاجه من حيث كونها فرقة بادئة وضعيفة التشكيل ولم تقوَ بعد على المنافسة وسط الزخم الفني الكبير.
ومهما يكن من أمر نشاط هذه الفرقة، إلا أن عمرها كان قصيراً. ويفسر لنداو ذلك بسبب سقوط جميع مسرحياتها، مما جعل قطباها سليم النقاش وأديب إسحاق يتجهان إلى الصحافة، ليتولى أمر الفرقة بعد ذلك يوسف الخياط ([39]). وعلى الرغم من صدق هذا القول في الشكل، إلا أن هناك رأياً يخالفه في المضمون. فلم تسقط جميع مسرحيات فرقة سليم النقاش، بل العكس هو الصحيح، حيث استمر عرضها من قبل فرق أخرى عقوداً طويلة – كما سيتبين لاحقاً – هذا بالإضاف
ساحة النقاش