جيــل السبعينيــات أدونيســي.. هــذا وهــم وتهمــة ملفقــة
حلمي سالم: لست مديناً للحداثة بشيء والحداثة ما يفعله الشعراء الحقيقيون
محمد الحمامصي
تشكل تجربة الشاعر حلمي سالم واحدة من أهم التجارب الشعرية المصرية التي برزت في مجموعة تجارب شعراء السبعينيات في مصر، ففي الوقت الذي استقرت بل توقفت تجارب أغلب هؤلاء الشعراء عند مناطق بعينها تجترها وتلوكها، استطاعت تجربة حلمي سالم أن تواصل مغامراتها التجريبية، مؤكدة أن هذا المنحي أحد أبرز خصوصياتها وفرادتها، وقد نجحت في أن تقدم صوتها الخاص والمتميز سواء علي مستوى قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، حيث تجمع بين القصيدتين في مختلف مراحلها، وقد كان نتاج هذه التجربة ثريا ومتنوعا تجاوز الخمسة عشر ديوانا، يمثل كل منها علامة مضيئة تضاف إلى رصيد الشاعر ورصيد الشعر المصري، وبالإضافة إلى ذلك الحضور الإبداعي القوي لحلمي سالم فهو يتمتع بحضور إنساني طاغ بين أبناء جيله والأجيال التالية عليه ليس لكونه مناصرا لتجارب الشعراء التالين عليه ولكن لأنه الأقرب روحا وإبداعا وإنسانية منها.
وحلمي سالم من مواليد 1952 قرية الراهب ـ المنوفية/ مصر، خريج كلية الآداب قسم الصحافة جامعة القاهرة، وصحافي بجريدة الأهالي ورئيس تحرير مجلة (أدب ونقد) المصرية.
من دواوينه (تحيات الحجر الكريم)، و(الغرام المسلح)، و(مدائح جلطة المخ)، و(الأبيض المتوسط )، و(سيرة بيروت)، و(فقه اللذة)، و(سراب التريكو)، و(يوجد هنا عميان)، وغيرها وفي هذا الحوار معه نتعرف على جوانب مهمة في مسيرته الشعرية والإنسانية وآرائه في مجمل التجربة الشعرية المصرية منذ انفجار حركة الشعر الحر في الخمسينيات وحتى الآن.
دور الشاعر
منذ بدأت الكتابة وحتى اللحظة الراهنة تواصل تجربتك المغامرة، لم تثبت أو تستقر كما فعل الكثير من أبناء جيلك.. لماذا اخترت المغامرة الدائمة طريقا؟
{ لا أستطيع وصف تجربتي أو مساري بالمغامرة كما تتفضل بالوصف لأنها جملة كبيرة وفي الوقت نفسه لا تعرف أهي ميزة أم عيب، هي ميزة جبارة لأنها بنت المقامرات الكبرى والشعر من المغامرات الكبرى، وفيها بالطبع عيب، عيب جبار هو أنك تراهن ولا تثبت ولا تلعب بالمكتوب به، ولكن على أي حال إن لم نعتبرها جملة إيجابية أو سلبية فطبعا، أرى أن المغامرة بتجربتي ـ وأحب وصف تجربتي بها ـ إذا جردنا المغامرة من الإيجابية أو السلبية بحيث تكون وصفا موضوعيا للتجربة.
وقد اخترت هذا الطريق لأني أعتبر أن هذا هو دور الشاعر، وبنظري ذلك هو مبرر وجود الشاعر، الشاعر ليس موجودا من أجل إعادة إنتاج الواقع أو خلقه، الأكثر من ذلك أنه ليس موجودا لكي يعيد تجارب الآخرين والتجارب الأخرى، وأيضا ليس موجودا ليعيد تجارب نفسه، لأني أظن ـ وهذه فكرة نظرية عندي ـ أن التقليد أو المحاكاة ذلك العيب الرهيب ليس فقط في محاكاة الواقع أو تقليده ولا في محاكاة شعر الآخرين وتقليده، ولكن في تقليد النفس كذلك وتكرارها، أنا لا أظن أن هذا دور الشاعر، والشاعر الذي يكرر نفسه أو ينتج من نبع وقع عليه ويظل ينتج فيه ويلوكه ويمجه طوال الوقت، هو شاعر ولكن ليس شاعرا خلاقا، وتلك ليست ضرورة الشاعر، زمان قالوا: الشعر ضرورة.. وآه لو أعرف لماذا؟ أظن أني أستطيع أن أقدم اقتراحا حول لماذا الشعر ضرورة لأنه ينبغي أن يجدد نفسه ويجدد الحياة ويجدد الشكل الأدبي الذي ينتج فيه، ذلك أصل نظري من مفاهيمي الخاصة التي قد تكون خاطئة وقد تكون صائبة. وهذا مرتبط بتربيتي وتنشئتي، فأبي كان من كبار تجار موالح، وكان يذهب لشراء (الجناين) من أصحابها، يشتري (الجنينة) ثمرا، والثمر بعده زهر مثل جناين البرتقال واليوسفي والمانجو وما شابه ذلك من موالح، وكان عليه طوال الموسم أن يرويها ويسمدها ويقلمها ويتعهدها طوال الموسم بالرعاية، ثم يبيعها فى السوق لوكالات الفواكه والموالح (وهو وحظه)، (يمكن أن تصاب الجنينة بشرد رهيب أو حر شديد أو برد شديد يطيح بثمرها ويخسر خسارته الكبرى )، كان أبي يدخل الجنينة ويقدر ما بها من ثمر بحدس التجار الكبار، ثم يقدر الثمن، ويقول بكم سيشتري الجنينة وإذا ظلت الجنينة جيدة وباعها للسوق سيكسب قرشين، ولكن لو أصابها برد أو حر شديد أو آفة أطاحت بثمرها أو نصفه يبقى خسر القرشين وعوضه على الله؛ هذه المقامرة اكتسبتها من أبي ذلك الرجل التاجر الكبير الأمي الذى كان فقط يقدر عدد الثمر بالجنينة بتقدير عدد الخطوط ويشتري الجنينة وهو وحظه، هذه المقامرة ما اكتسبته من أبي وهو أول درس تعلمته منه، كنت أذهب معه للجناين وأنا طفل عمري سبع سنوات، وأعيش معه أسبوعين أو ثلاثة أو شهرا أو اثنين.
أنا أحب التنوع ولا أحب للشاعر ولا لنفسي أن يثبت على حال وإجابة، أنا أفضل الحرث الدائم فى طرق جديدة وإذا حرثت في طرق ممهدة يمكن ألا تقدم شغلا جيدا لأنها طرق جديدة ولكن الحرث في سنتيمتر واحد في طريق غير ممهد وغير معبد خير من كيلو متر في طريق ممهد سواء أنت الذي مهدته أو الآخرون.
هنا فضيلة الطزاجة والاكتشاف والاقتراح والحفر بأخطائه وارتباكاته، كل حفر له ارتباكاته، ولكن الحفر بارتباكاته خير من السفلتة بمميزاتها.
هذه هي فكرتي ولذلك كثير من النقاد والشعراء يصفونني أو يصفون فكرتي بأنها عيب وهو أني ما ان أفتح طريقا حتى أغادره وأنا أعتبر هذا الكلام لو صح ميزة الميزات، أن تفتح طريقا ثم تغادره لتفتح طريقا آخر لا أن ترقد فيه وتجتره (وتمزمز فيه حتى يصبح كالليمونة الناشفة)، هذا سلوك لا أحبه، أحب الطريق الجديد بأخطائها عن الطريق المستوي المعبد بميزاته وسكونيته.
توزعت تجارب أبناء جيلك بين الاشتغال على الشكل تارة وعلى اللغة تارة وعلى المعنى تارة ولكن تجربتك اشتغلت على هذا الثلاثي اللغة والشكل والمعنى أو الدلالة في إطار خمسة عشر ديوانا من منظور ذلك الثلاثي، الأمر الذي يدعو لسؤالك عن المراحل أو الانتقالات بين أعمالك؟
{ أتمنى أن يكون رصدك ذلك صحيحا لأنه رصد مكرم لي، وأظن أنه صحيح إذا أخذت راحتي بالكلام، في شعري اشتغال على اللغة والشكل الفني والمعنى والموسيقى أيضا، بينما قيل ان من زملائي من اختص بدرب واحد اللغة أو المعنى والتأصيل فيهما، وإنما بالطبع لا أقول إن هذا خير من ذاك إطلاقا، ولكن أقول إن طريقتي التى تصفها بأنها متنوعة جاءت نتيجة اشتغلت على شتى المناحي المختلفة، والشعر عموما متعدد وكثير فلا لون واحد أو نبع واحد، وأنا لا أؤمن باللون الواحد أو النبع الواحد، أؤمن بالتعدد والتنوع، ولذلك تجد ملاحظتك على شعري.
أعتقد أني على غير ما يعتقد بعض زملائي، لا أعتقد اني مدين للحداثة بشيء ولا أعتقد أن الحداثة «روشتة» موجودة سلفا ينبغي علينا أن نطبقها، ولا أعتقد أن الحداثة تقف في مكان وينبغي علينا الذهاب إليها، إطلاقا، إني غير مدين للحداثة ولم أكتب لها شيكات على بياض، لأن عقيدتي أن الحداثة هي ما يصنعه الشعراء الحقيقيون، وليست مكانا مستقلا أو روشتة، ولا بد ان نذهب بها أو نلتزم بها.
وبالتالي هي تقبل تعدد تجلياتها، فالحداثة ليست الشغل التجريبي أو الشغل الموسيقي أو الشغل اللغوي وليست المعنى أو الغموض أو الوضوح وليست الثورة أو الوجودية فقط، الحداثة كل ذلك، النمط في كل شيء أن تصنع نصا جميلا، وعلى هذا فالحداثة ليست شريطا حديديا ينبغي أن نسير عليه، هي ما نسيره، ولا أتكلم عن نفسي بل عن كل الشعراء ابتداء من امرئ القيس وأبي تمام، الحداثة هي ما يسيره الشعراء الحقيقيون ويصبح الطريق وليس العكس، ولذلك تجد عندي بالفعل بعض الدواوين التى تهتم بالمضمون والمعنى مثل (سيرة بيروت) و(تحيات الحجر الكريم)، وتجد عندي دواوين اهتمت بالتجريب والتشكيل الفني واللغوى مثل (فقه اللذة) و(دهاليزي والصيف ذو الوطء) أو (البقية والحقائق)، وتجد عندي دواوين أخرى اهتمت بتكسير كل هذا مثل تكسير الموسيقى والموضوع والمضمون نحو الأشياء والتفاصيل الصغيرة واللغة اليومية مثل (سراب التريكو) وكذلك (دهاليزي والصيف ذو الوطء) الذي كتبته بين عامي 76 و,1977 لكن الفكرة التى أريد إضافتها أن شغلي التجريبي لا يخلو من مضمون أو معنى، وشغلي المعنوي لا يخلو من موسيقى ومن طرائق فنية ولعب لغوي. هذه النقطة التي أختلف فيها عن زملائي حتى التجريب المغرق لدي لا يخلو أبدا من موقف حتى ولو كان موقفا سياسيا مثل (الأبيض المتوسط)، وقصائدي التى تهتم بالمضمون والموقف السياسي أظن أنها لا تخلو من سمات جمالية وموسيقية مثل القصائد الخاصة بالانتفاضة الفلسطينية في (تحيات الحجر الكريم)، ولكن أظن أني عملت هذه القصائد بدلع لغوي مشهود ودلال موسيقي واضح وبتركيبات فنية.
والخلاصة أنني أشتغل على المعنى واللغة والموسيقى والشكل دون فصل أو عزل لأحدها عن الآخر، بينها جسور تفضي إلى بعضها البعض.
وقصيدة النثر
فى ضوء هذه الرؤية النابعة من العقل والقلب، كيف تنظر إلى تجربة إضاءة 77 الآن، فى ضوء منجزها حتى الآن، هل المقدمات أودت أو أفضت إلى النتائج المرجوة، مع الاعتراف بأن عددا من شعراء إضاءة والسبعينيين بشكل عام يهاجمون بشراسة من قبل شعراء الأجيال الجديدة وبعض شعراء الأجيال السابقة؟
{ جماعة إضاءة وجماعة أصوات وشعر السبعينيات عموما قدمت للحياة الثقافية في السبعينيات آن صعود هذه التجربة في رأيي منجزات نظرية كبيرة، هذه التجربة أعادت الاعتبار للشكل بعدما كان الشكل فيها قبل ذلك من عقدين مغدورا ومهمشا، فالمهم كان المضمون والموقف السياسي المتقدم والكفاح الوطني، تجربة إضاءة والسبعينيات عموما قالت إنه لا مضمون رفيع سيصنع قصيدة رفيعة وحده وإنما المضمون المتقدم ينبغي أن يردفه أو يتخلله أو يقدم من خلال تشكيل فني مرتفع أيضا، يعني أعادوا الاعتبار لقيمة الشكل، الشكل هو التفكير الفني للمضمون ليس حذاء أو قميصا يلبس منعزلا عن الجسد، وهو ليس قليل القيمة بل ذو دلالات مضمونية، ليس كوبا تضع به ماء أو خمرا أو عصير قصب ويظل كما هو، لا، الشكل في الأدب لغة وأنساق فنية، في أدب كل دنيا الشكل هو مضمون وتاريخ وحوامل اجتماعية ودلالات فلسفية، فأعدنا الاعتبار للشكل وأعدنا الاعتبار للغة وأعدنا الاعتبار التراث مثل التراث الصوفي والأشكال المهمشة والمغدورة والمطمورة من التراث.
تلك هي الدفعة النظرية الأولى والتي أظن أنها أحدثت تأثيرا جيدا في السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات وما رافقها من نصوص لهؤلاء الشعراء، وتبع ذلك مرحلة ثانية وأن مسار هؤلاء الشعراء أنفسهم اختلف، ففي لحظة الصعود يتكاتفون ويشيلون بعضهم البعض ويتقاربون بسبب التقارب النظري والوحدة النظرية في المنطلق الفكري الشعري، لكن مع استمرار إنتاج النصوص تتباين المواهب وتتخالف القدرات والكفاءات فيستمر شعراء ويثقل قدم شعراء ويتوقف شعراء نهائيا، وهذا ما حدث في تجربة إضاءة والسبعينيات عامة وهذا نجاح كبير، فليس هناك أي تجربة بالدنيا يصبح كل شعرائها نابغين وناجحين، جيل الخمسينيات الذي أنجز التحول الكبير لتجربة الشعر الحر لم يبق منه إلا شاعران هما صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وجيل الستينيات الذي قلب الدنيا لم يبق منه إلا ثلاثة شعراء أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبو سنة حتى يصبحوا ثلاثة أجنحة هى الثورية والتركيبية والرومانتيكية.
الجيل الذي يطرح ثلاثة شعراء بالنهاية جيل ناجح وأظن أن جيل السبعينيات بعد هذا المسار فرز أكثر من ثلاثة شعراء ناجحين فاعتبر ان الذين يهاجمون ذلك الجيل كانوا يريدون من العشرين شاعرا الذين صعدوا أن يصبحوا جميعا عشرين شاعرا ممتازا، وهذا تطلّب لم يتطلّبه أحد من تجربة أو تيار سابق، لماذا هذا الجيل الذي سينجب عشرين شاعرا ممتازا إن كان جيل أحمد شوقي لم يصعد منه إلا شوقي وحافظ إبراهيم.
هناك ظلم وضيق فى النظر لجيل السبعينيات، يطالب أن يكون جميع شعرائه مميزين وهو طلب مستحيل في الأجيال.. جيل السبعينيات أفرز أربعة أو خمسة شعراء مميزين أعتقد أن هذا فضل وكفاية، وفي ظني أن هذا الحرث والفحت والحراك الذي أحدثه شعراء السبعينيات في السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات كان له أثر كبير على الأجيال الثلاثة التالية الثمانينيات والتسعينيات واللحظة الراهنة، على غير ما يزعم أصحاب هذه الأجيال الثلاثة، حيث يزعمون أن جيل السبعينيات سد مسار القصيدة الحديثة وعطلها ولم يستفد من جيل السبعينيات وأغرق في اللغة والمجاز وكل هذا غير صحيح، وفي ظني في كثير من عمل السبعينيات هو كان بذور عمل الأجيال الثلاثة التالية، والأجيال التالية كبرتها وروتها وجعلتها مسارا كاملا ولكن بذورها أين هي؟ هي في عمل جيل السبعينيات، جرأة الاقتحام وكسر أي معبد هذا ما صنعه السبعينيون لمن تلاهم من أجيال بصرف النظر عن مستوى الكتابة والمستوى الفني. إنما اجتراء نطح الحيطان الذي صنعه للأجيال التالية هو جيل السبعينيات، نحن نطحنا الحيطان ورأسنا نزفت الدم، والأجيال التالية خبطت الحيطة وفلقتها، لكن أول خبطة في الحيطة كانت في رأس السبعينيين وهي التي مكنت الأجيال التالية من الاجتراء والتقّحم والاجتراح وغيره.
وما أريد قوله هو أن الهجوم الذي يحصل من الأجيال التالية على شعراء السبعينيين ليس في موضعه وليس مفيدا ولا عادلا وأدعوهم لإعادة النظر في هذا، لأنه في الحقيقة كل هذه الأجيال الاربعة تعد تجربة واحدة وأظن ان تجربة الحداثة من السياب حتى الآن تجربة واحدة بتقلباتها وتموجاتها، قوس التجريب قوس واحد بتموجاته من السياب حتى محمد الحمامصي.
أدونيــس والحداثة، كيف ترى تأثيرهــما على جيلك أو الحداثة التي أتــى بــها أدونيــس كيف ترى تاثيرهـما على تجربــة جيـل السبعينـيات؟
{ هذا افتراء آخر أو وهم آخر يطيب لي أن أتفحصه وأفنده الآن، أولا أدونيس ليس أبا الحداثة عموما أثناء صعوده في أوائل الخمسينيات، لأن قبله كان هناك جبران وغيره، وليس صاحب الحداثة بالنسبة لنا، إن التحول الجبار الذي حدث في حياتي حدث عندما قرأت كتاب (النبي) لجبران، وكنت فى السنة الثانية بالمرحلة الثانوية في مدرسة عبد المنعم رياض الثانوية للبنين في شبين الكوم، وكنت قبلها أكتب الشعر العمودي وأكتب الأغاني، وأقرا للمنفلوطي وعلي محمود طه وأحمد شوقي، تلك أولى الانقلابات الأساسية في حياتي الشعرية، ثم صلاح عبد الصبور وأدونيس وهكذا، أدونيس شاعر كبير جدا استفدنا منه في آرائه وتنظيراته الجريئة في ما يختص بالشعر والشكل والموقف من التراث، وأحب ان أضيف هنا ـ وخصوصا ان الذين يتهمونا بالأدونيسية يريدون القول اننا وأدونيس ضد التراث العربي وهذا كلام غير صحيح ـ لم يشتغل أحد مع التراث العربي كما اشتغل أدونيس وأنت تعلم هذا، وأدونيس هو كل متقدم وكل مستنير، وهو لم يتخذ موقفا من التراث، هو ضد المتخلف من التراث ومع المتقدم من التراث، وكلنا هكذا، يعني أنت مع أبي تمام وضد أشياء متخلفة لا أريد الخوض في مناطق دينية ليست مضبوطة، لكن أي مستنير الآن ليس ضد التراث تماما ولا معه تماما، الذي مع تراثه كلية هو رجل ماضوي، والذي ضد تراثه كلية هو رجل عدمي، وكلاهما شذوذ وعبث، والموقف الصحيح من التراث هو القطيعة المعرفية الصحيحة هي تمثله وإدراكه ومعرفته وفرزه وتعميق أو تأييد أو إضافة أو تتويج أو تنوير الجانب المضيء فيه، وتنحية أو نقد أو دفن المظلم فيه، وهذا ما فعله أدونيس وطه حسين والطهطاوي ومحمود إسماعيل ونصر حامد أبو زيد وما فعله كل مستنير شاعرا كان أو مفكرا، هذه واحدة وهناك جزء من الوهم وهو أننا كلنا كل شعراء السبعينيات تأثرنا بأدونيس، وهذا غير صحيح من الناحية التطبيقية، حسن طلب لم يتأثر بأدونيس أبدا وكذا محمود نسيم ومحمد سليمان، وحسن طلب كان متأثرا بالبياتي والتراث القديم، ومحمود نسيم شيء مختلف، أمجد ريان لم يتأثر بأدونيس، هكذا، واحد أو اثنان هما اللذان يمكن أن تنطبق عليهما هذه الشبهة وهما عبد المنعم رمضان وأنا وأحمد طه.
جيل السبعينيات أدونيسي تهمة ملفقة.
وإذا كانت تنطبق على اثنين أو ثلاثة فقط عبد المنعم رمضان وأنا وأحمد طه فهذا ليس تأثرا، فأنا شخصيا تأثرت بصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ثم إن التأثر فى بداية الطريق الشعري بشاعر كبير وارد، ما المشكلة، من لم يتأثر بالسياب، عندما يشتد عود الشاعر ويمتلك صوته الخاص يغادر هذه التأثرات، هذا ما حدث معنا تجاه أدونيس، نحن الآن نصنا الشعري مختلف عن أدونيس بالطبع، نحن تخلصنا من التأثير، ولكن يظل بالنسبة لنا شاعرا كبيرا شأنه شأن الشعراء الكبار الآخرين، نحن لا نعزله، هذه العزلة صنعها المنتقدون، هو شأنه عندنا شأن بدر شاكر السياب وسعدي يوسف وصلاح عبد الصبور، إنما الآن هذه التهمة أصبح فيها شيء من التساهل واللاواقعية.
وطوال الوقت نختلف مع أدونيس كما اختلفنا مع الكبار الآخرين مثل حجازي وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب، والآن نختلف مع أدونيس في الطابع التجريدي العقلاني فى شعر ادونيس وأنا شخصيا أستغربه، وابتعاده عن اللمسة الحسية السابقة، هذه الحسية التي كانت قائمة في قلب التجريدية التي كانت تعصم هذا الشعر من التجريدية المغرقة كما يحدث الآن، أنا أظن أن أغلب شعر السبعينيات ليس فيه هذه التجريدية، في شعرنا طزاجة وحيوية وسخونة.
هل وصلت التفعيلة الى طريقها المسدود ام ما تزال قادرة على العطاء دون تحديد جيل... بمختلف أجياله، هل بدأت التفعيلة تكرر نفسها لا تجديد أو تطوير، ما تعليقك؟
{ أنا أتصور أننا كمجتمع طوره التاريخي الآن هو أننا لم ندخل العصر الحديث بعد أو دخلناه تواً... نحن في طور الانتقال أو ننتقل أو انتقلنا من الطور التقليدي القديم للمجتمع، الطور الإقطاعي، أو ما يسميه السياسيون المرحلة الإقطاعية، فنحن بشيء من التساهل والتجاوز نستطيع وصف مجتمعنا أنه مجتمع حديث فيه مصانع وقطارات وطائرات وبرلمانات ودساتير ومجالس شورى وإنترنت... الخ، نحن مجتمع حديث لا هو تقليدي ولا ما بعد حديث، نحن مجتمع حديث مع الرأفة والتساهل، لا تزال مناطق وأجزاء كثيرة جدا من مجتمعنا لم تدخل الحداثة بعد وتخضع للتقليدية الغارقة، ولكن بشكل عام نقول إننا في الـ100 عام الأخيرة نحن مجتمع حديث، فإذاً مجتمع متنه وعموده الفقري حديث وله هامشان هامش تقليدي يتمثل في جدي وجدك اللذين لا يزالان يعيشان على لمبة الغاز بإرثهما التقليدي، وهامش ما بعد حديث يتمثل في شباب وبنات مصر الجديدة والمعادي ومن يستخدمون الإنترنت وعبدة الشيطان وسباقات السيارات والخيل، هذا توصيفي للمجتمع، ونحن كمثقفين نقاتل من أجل أن يصبح المجتمع حديثاً حقيقة، ثم ننتقل إلى مجتمع ديموقراطي أو ليبرالي أو اشتراكي، سمه كما تشاء وفقا لأغراضك، على هذا الضوء أرى أن الشعر متنه أو عموده الفقري هو تجربة الشعر الحر، وله أيضا هامشان هامش تقليدي وهامش ما بعد حديث، الهامش التقليدي هو هامش من يكتبون الشعر التقليدي والعمودي، وهامش ما بعد الحديث هو ما نكتبه نحن شعراء قصيدة النثر، هذا توصيفي السيسيولوجي للأمر، وبالتالي أنا أكتب قصيدة النثر وكذلك أنت لكني لست متناً للمجتمع، أنا نقطة متقدمة فيه، ومتنه هم أصحاب قصيدة التفعيلة وله هامشان القصيدة العمودية التي تعبر عن الهامش التقليدي في المجتمع، وقصيدة النثر تعبر عن الهامش ما بعد حديث في المجتمع، وقصيدة التفعيلة تعبر عن متن الحديث، لذلك من الناحية الفكرية لا أرى أن قصيدة التفعيلة استنفدت دورها التاريخي، هي تستنفد دورها التاريخي عندما ينتقل هذا المجتمع، هي لا تزال الممثل الشرعي للمجتمع الحديث، نحن متقدمون خطوة عنه، بالطبع نحن أفضل منه لكن لا نمثله كله، نمثل شريحة منه شريعة بالطبع مثلها مثل الشريحتين الأخريين، لكن نحن لا نمثل المتن بالضبط، لا يزال هناك من لم يصــل لشــوقي ولا عــبد الصــبور، هناك من يرى عبد الصبور كافرا وملحدا و...
ومن الناحية الفكرية السيسيو ثقافية لا أرى أن قصيدة الشعر الحر استنفدت نفسها بعد، ولكن من الناحية الفعلية شعراؤها ضعاف في مصر أو استنفدوا قدراتهم، وقد يقيد الله لها شاعرا كبيرا يستعيد لها طاقتها الموسيقية، لكن هذا غير حادث الآن، شعراؤها في مصر على الأقل إما استنفدوا تجربتهم الريادية، وإما ما زالوا مستمرين ولكن طاقتهم الموسيقية التفعيلية فقيرة أو ضيقة أو مجترة، ولكن من الناحية الفلسفية هي لن تستنفد حتى ولو كان بجانبها تيارات أجد أو أجرأ وأحدث مثل تيار قصيدة النثر، هي في بعض البلاد العربية لن تستنفد، مثلا عند محمود درويش الذي ما زال يواصل اختبارات الطاقات الموسيقية لقصيدة التفعيلة، ينجح مرة ويجتر مرة نعم، لكن ما زال جهده متواصلا، أما عندنا فلا، وما يجعلك تقول إنها استنفدت وجودها أن الشعراء عندنا في مصر (يا بطلوا) يا قدرتهم متوسطة..
هذا وصفي للخريطة الاجتماعية الثقافية التي أموضع فيها تصوري، حتى لا نفهم الأمر خطأ، ونتوهم أن قصيدة النثر هي التعبير عن المجتمع الراهن، غير صحيح، قصيدة النثر هي تعبير عن مجموعة من الأشخاص في المجتمع الراهن يمثلون الطليعة أو ما بعد الطليعة، إنما المجتمع كله، الـ70 مليونا (اللي لسه فيهم ناس لم يصلوا لأحمد شوقي)، لا.. لكي تحدد موضع شكل أدبي ما انظر لأصله في المجتمع فهو ما يعبر عنه، فإذا وجدته ضعيفا أو جزئيا فهو لم يعد المتن الرئيسي للمجتمع، حتى لو كان موجودا على السطح لكنه ليس المتن الرئيسي للمجتمع.
القاهرة