الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

ثقافة كاتم الصوت

فاطمة ناعوت

أنشَغِلُ بالدفاعِ عن قيثارتي، أكثر مما أعزفُ ألحاني، عبارةٌ قالها عبد الرحمن الخميسي ليلخّصَ حالَ معظم كتّاب العالم الثالث. وقديما قال يوسف إدريس إن الحريّات التي تُمنح لكلِّ الكتاب العرب مجتمعةً لا تكفي مبدعًا واحدًا. فالكاتبُ العربيّ يعي،منذ لحظة قبضه على القلم، أن سقفًا للخيالِ و حريّة الفكر يظلل كلمته إذا نشد السلامةَ لقيثارته وعدم المصادرةِ للحنِه.

ثقافة كاتم الصوت كتاب صدر حديثًا عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. العنوان الدالُّ للكتاب نحتَه مؤلفه الشاعر حلمي سالم، المهموم بقضايا الثقافة العربية وحرية الفكر، ليصفَ طبيعةَ الثقافةِ العربيةِ الراهنةَ، و منذ بداية القرن العشرين، قرن المصادَرات كما وصفه المؤلف، مفنِّدًا كمَّ القمع السُّلطويَ والدينيّ الذي كبَّلَ كُتّابَ ومفكري وفناني تلك الحقبة من تاريخ مصر الحديث.

يخلُص الكتابُ في الفصل الأول إلى المفارقة المدهشة أن القمع الفكريّ اطرِّد مع زمن هذا القرن، ومع اتساع سيادة الفكر الليبرالي على المجتمعِ المصري. فالنصف الأول من القرن الماضي قبل يوليو 52-وقتَ أطرقت مصر تحت مثلث الاستعمار والإقطاع والرأسمالية – كان أقل إزهاقًا للفكر المعاكس وأكثر وعيًا بحقِّ الآخر وحريته في التعبير عمّا كان عليه الحال في النصف الثاني من القرن ذاته، الذي شهد ثوراتٍ وطنيةً وحركات تحرّر كان من شأنها تسييد التعددية و الاعتراف بالآخر.و المسألة كلها تدور في فلك النسبيّ،لأن الكاتب صدّر في مقدمة الكتاب أن عقدًا واحدًا في القرن العشرين لم يخلُ من مصادرة. غير أنه ردَّ اختلافَ طبيعةِ الحركةِ الثقافيةِ في مصر، قبل وبعد ثورة يوليو، لا إلى المرَّد الإحصائيّ، الذي يقارن بين عدد المصادرات في الحقبتين وحسب، بل إلى طبيعة و جوهرِ الجدل والحوار الفكريّ في أول القرن وآخره.

ففي حين تمت ثلاثُ مصادراتٍ للرأي في أول القرن، إلا أن هالةً من الرقيّ والرفعةِ وسمتْ حواراتِ و سجالات تلك المرحلة،الملمح الذي ربما نفتقر إليه في زماننا الحالي. والمثال الأشهر على ذلك الجدل الرفيع- كما يقول حلمي سالم-الذي تم بين إسماعيل مظهر حينما كتب لماذا أنا ملحد؟و محمد فريد وجدي،حينما ردَّ عليه بأن كتب لماذا أنا مؤمن؟ و أحمد زكي أبو شادي حينما كتب عقيدة الألوهة.

والدلالة المريرة التي يخلص إليها الكاتب من تلك المفارقة كأن حكومات الاستعمار والرأسمالية و الإقطاع كانت أرفق بالمفكرين والمبدعين وأقل تعنتًا إزاء حرية الرأي من حكوماتنا الوطنية التحريرية.

يحلل حلمي سالم في كتابه مفهوم التطرّف، الذي حتمًا ما يؤدي إلى الإرهاب، نافيًا كونه رهنًا على التيارات الدينية المتشددة وحسب،لكن نظرةً أكثرَ عمقًا تشير إلى تطرّف وسيادةِ الهيمنة الواحدية للنظام السياسيّ، وإلى تطرّفٍ اجتماعيٍّ ناجمٍ عن خلل في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للمواطن المصري بين ثراءٍ فاحش وفقرٍ مهين. مرةً قال لي صديقٌ أستراليّ إن مصر – بلد الأهرامات - هي البلد الوحيد التي غابَ عنها الهرمُ الاقتصاديُّ الشهير الذي يحتلُّ قاعدتَه العريضةَ متوسطو الدخل وقمَّتَه الضيقةَ بالغو الثراء، وإن ما يملكه أثرياءُ هذا البلد كافٍ لإصلاح هيكل الهرم المفقود.

ويضيف المؤلف إلى ألوان التطرّف والإرهاب السابقة،إرهابًا،هو الأشد إيلامًا وغرابةً وهو إرهاب النخبة المثقفة، حيث، كما يقول حلمي سالم مرّت تجارب وامتحانات وأزمات عديدة أثبتت فيها النخبة المثقفة أن أقسامًا منها لا تطيق الرأي الآخر لأقسامٍ منها، وتعمل جاهدةً لإخماد هذا الرأي أو إخماد أصحابه، على نحوٍ يعني أن جرثومة احتكار الصواب المطلق لا تعشش في ثنايا السلطة السياسية العربية ولا في طوايا الإسلام السياسي المتطرّف فحسب، بل هي كامنة في حنايا المثقفين.

يؤكد الكتاب على ضرورة (تفعيل) الشعاراتِ التي قفزت إلى الميديا الإعلامية بعد أحداث سبتمبر 2001 من قبيل تجديد الخطاب الديني و حوار الحضارات لا صدامها وتحسين صورة الإسلام في الإعلام الغربيّ مؤكدًا على إن تجديدَ الفكرِ بكلِّ ألوانِه هو ضرورةٌ عضوية لكل أمة حيّة كلونٍ من التفاعل الحيّ مع التحولات الدائمة التي تحدث في الأمة و العالم وعليه فإن تجديدَ الخطاب الدينيّ ضرورة تنتهجها الأمم الراغبة في التقدم بصرف النظر عن الرغبة في تحسين صورتها في عين الآخر.

يتناول الكاتبُ ثورة يوليو بالتحليل السياسيّ والاجتماعيّ راصدًا الأسباب وراء فشلِها في طرح نظرية اجتماعية/أيديولوجية/سياسية واضحة المعالم.فقد كان مجلس قيادة الثورة – الذي ينتمي أعضاؤه إلى طبقة البرجوازية الصغيرة ذات الطبيعة المتذبذبة -مزيجًا فكريًا متعدد المشارب متناقضها من إسلاميين، شيوعيين،و ليبراليين، الأمر الذي لم يسمح بصقل منهجٍ نظريٍّ وحيد يتفق عليه الكل، والاكتفاء بالتنظير للأهداف الستة المعروفة للثورة.غير إني أرى أن هذا الملمحَ التعدديّ لقادة مجلس قيادة الثورة كان من شأنه خلق عقل قياديّ وتنظيمي وتخطيطيٍّ واسع الرؤية لا ينطوي على النظرة الواحدية الجامدة، عقل كهذا كان حريّ به أن يحقق ثورةً ناجحةً مرنةَ المنهج لو اكتملت على نحوٍ صحيّ.يضيف الكاتب لأسباب فشل الثورة الطابعَ العسكريتاري، بتعبير صلاح عيسى،الذي كرسَّ للتعامل قمعيًا – حدَّ التصفية الجسدية - مع التيارات المناوئة فكريًا. يقدم الكتاب أطروحته عن ثورة يوليو ليلقي الضوء على طبيعة قادتها وكيف سيتعاملون مع التيارات الفكرية و الأدبية والثقافية التي أفرزتها تلك الحقبة.إن عدم انتظام أيديولوجيا محددة للثورة جعلها تتسم بالطابع التجريبيّ غير الممنهج الذي يجنح نحو التجربة والخطأ. دفعها هذا التجريب إلى التأرجح بين المعسكرين الاشتراكيّ و الإمبريالي، حلّتِ الأحزابَ السابقة عليها و أبقتْ على الإخوان المسلمين حتى حادثة المنشية 54 التي جعلت مجلس قيادة الثورة ينتبه إلى خطرها فدفعت بهم إلى المعتقلات و المقاصل، انتهجت مسلكا علمانيا حين أعلنت الأزهر مؤسسةً رسمية وجامعةً مدنية تستمد منه الصفة الشرعية الدينية على ألا تمنحه سيادةً لاهوتية، كما إنها رفعت لواء الاشتراكية بغير أن تنتهج منهجها الاقتصادي الاجتماعيّ الفكريَ الكامل فكانت النتيجةُ رأسماليةَ الدولة بغير ملكيةٍ عامة لوسائل الإنتاج كما هو مفترض. وكان من أخطر مظاهر هذا الطابع التجريبيّ البرجماتيّ للثورة، كما يقول حلمي سالم هو الفصل بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية. ليكتشف المثقفون أن انكسارة حزيران الأسود كانت نتيجةً لمقايضة الديمقراطية الاجتماعية بالديمقراطية السياسية، لأن تلك الاجتماعية لو تحققت بالفعل لا سبيل إلى حمايتها إلا بالديمقراطية السياسية.يفند كتاب ثقافة كاتم الصوت ثورة يوليو 52 على نحوٍ دقيق راصدًا بموضوعية شديدة إيجابياتها وسلبياتها على كل الأصعدة، سياسيا واجتماعيًا واقتصاديًا و ثقافيا و فنيًا، مؤكدًا أن أجلى أخطاء الثورة، والذي ندفع ثمنه حتى الآن، هو البند الذي ينص على دين الدولة في الدستور، الأمر الذي يجعل من غيرِ المسلمين غيرَ مصريين أو على الأقل مواطنين من الدرجة الثانية وهو ما يناقض دستور ثورة 19 الذي قال الدين لله والوطن للجميع. كما أكدّ الكتاب أن سلبيات الثورة لم تنشأ جميعها من داخلها لكن بعض رموز الثقافة وقتها قد ساهم في تأكيدها واستشراء مضارها بل والتبرير لها أيضًا.على إنه على الجانب الثقافي، أكدَّ حلمي سالم على مساهمة الثورة في ترسيخ عددٍ من القيم والمنجزات الثقافية الإيجابية، مثل إنشاء أول وزارة للثقافة عام 58 وكذا العديد من المؤسسات الثقافية، تطبيق مبدأ حق التعليم لكافة أبناء الشعب، المساعدة على تعميق ملمح الواقعية في الأدب الذي يهتم بالقضايا الاجتماعية عوضًا عن الحسِّ التحريري و الرومانتيكي الذي وسم أدب ما قبل الثورة،انتعاش المسرح والسينما وحركات الترجمة، تحويل الأزهر إلى جامعة مدنية علمانية تدرّس العلوم الدنيوية والإنسانية لا التشريعية الثيوقراطية فحسب، و التأكيد على الطابع المدنيّ والعلمانيّ في شتى أمور الحياة.

ويختتم المؤلف هذه الحقبة بعرض شهادتين توثيقيتين هامتين،إحداهما تجسد أزمة جيل الخمسينيات الذي كُسرَ حُلمه في حزيران المرير، وهي قصيدة مرثية العمر الجميل لحجازي، والثانية شهادة المؤرخ والصحافي صلاح عيسى من كتاب مثقفون وعسكر تلك الشهادة التي تناولت حقبتين تمثلان أخطر المنعطفات في تاريخ مصر الحديث، فترتيّ الناصرية والساداتية إذ تؤرخ لستينيات وسبعينيات و أوائل ثمانينيات القرن الماضي.يتناول الكتاب أيضًا بالنقد والتحليل أطروحة عادل حسين حول منهج التراثيين الجدد أو المعاصرة المؤصلة كما سماها عادل حسين في كتابه نحو فكرٍ عربيٍّ جديد فيحلل الكاتب هذا المنهج الذي نظّر له مفكرون خارجون من أصول فكر ماركسي، ويرى حلمي سالم أن هذه الظاهرة أحرى بها أن تُتناول بالبحث و الدراسة و الحوار حيث يقول: والحق أن هذه الظاهرة لم تأخذ بعد حقها من البحث والتفسير والتحليل في حياتنا الفكرية الراهنة:من حيث مبررات هذه الانتقالة الكبيرة شبه الكاملة، وظروفها النظرية والاجتماعية وآفاقها المستقبلية.

ثم يقدم حلمي سالم قراءةً نقدية في كتاب اغتيال العقل للمفكر السوري د.برهان غليون و يناقش أزمة النهضة العربية وأزمة الثقافة المعاصرة.ثم ينتقل إلى مقدمة في فقه اللغة العربية وهو الكتاب الذي توفر على إعداده د. لويس عوض لمدة عشرين عاما، وصدرَ بالفعل عن هيئة الكتاب المصرية عام 80 ليتم مصادرته بعد مدة وجيزة بمعرفة لجنة الفتوى بالأزهر، الكتاب الذي يتتبع منشأ اللغة العربية وأصولها التي تشتبك مع أصول اللغة الهندية، وكذا يتناول بالدرس ال logos،أي المبدأ العقلاني في الكون وكلمة الله في الفلسفة اليونانية القديمة ويثير من جديد القضية التي تنازعها الفقهاء قديما حول مدى ارتباط القرآن باللغة العربية وبالتالي حداثته، أو ارتباطه بكلمة الله وعقله قبل الخليقة،أي في اللوح المحفوظ وبالتالي قِدَمه الأمر الذي يؤدي إلى كوْنِ اللغة العربية قديمة قدم الخليقة ذاتها، و يؤمِّن لويس عوض على قول المعرّي، وهو أحد المنحازين للمعتزلة، في مقولة أن القرآن والعربية محدثان الأمر الذي ينزع عن اللغة العربية قداستها ويجعلها محض لغةٍ مثل كل اللغات نشأت بمعرفة الإنسان وتتطور بمعرفته أيضًا.. ويتوقف حلمي سالم عند تلك المفارقة التاريخية: إن ما قَبِلَه المجتمعُ العربيّ قديما كمادة جدلٍ وحوارٍ بين الأشاعرة والمعتزلة حول أزليةِ وقداسةِ اللغةِ العربية أو استحداثها ومساواتها باللغات الأخرى، هو ما يرفض الأزهر اليوم مجرد مناقشته في كتاب، ويصادر و يجهض من أجل ذلك فكر أحد أهم المفكرين العرب لويس عوض.يتناول بعد ذلك كتاب ثقافة كاتم الصوت قضيتيّ علاء حامد وسعيد العشماوي مقارنًا بين محاكم التفتيش الكنسية في العصر الوسيط في أوربا القرن ال 17 قبل الرينيسانس، وبين الأزهر كقلعةِ علم وتنوير في القرن ال21 أو كما ينبغي له.

يعرض الكتاب أيضا لقضية ناجي العلي الذي أثار اغتياله في لندن الرأي العام العالمي. ويفرد حلمي سالم فصلا عن اغتيال فرج فودة على أيدي فردين من جماعة الجهاد بوصفه أحد العلمانيين المهاجمين للتطرف الديني المتشدد، ويتوقف الكاتب عند رأي الغزالي –أحد الأئمة المستنيرين – الذي أقرَّ بإهدار دم فرج فودة غير أنه أشار إلى خطأ التنفيذ إذ كان يتوجب القصاص منه بمعرفة الدولة لا الأفراد! وينهي حلمي سالم هذا الكتاب البانوراميّ الغنيّ، الذي يستعرض تفاصيل أغلب المصادرات الفكرية و الإبداعية والجسدية عبر قرن كامل من تاريخ مصر، بفصلٍ يخلُص إلى أن المصادرة الوحيدة التي لم تتم وأحرى بها أن ترى النور،هي مصادرة المصادرة.

الكتاب: ثقافة كاتم الصوت
الكاتب: الشاعر حلمي سالم
اصدار: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

 

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 115 مشاهدة
نشرت فى 1 نوفمبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

127,695