الجابري والدعوة الإسلامية العقلانية
الأهالي : 16 - 06 - 2010
يمكن النظر إلي مشروع محمد عابد الجابري (1935 - 2010)، المفكر المغربي الذي رحل منذ فترة وجيزة، من ثلاث زوايا أساسية:
الأولي.. باعتباره جزءا من ثورة «الأطراف» العربية علي «المراكز» البارزة في الثقافة العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، إذ شهدت هذه العقود صحوة تجمعات ثقافية وفكرية تسعي إلي أن تشارك المراكز الثقافية التاريخية الكبيرة «القاهرة، بغداد، دمشق، بيروت» في صنع ملامح الفكر العربي الحديث، فظهرت أدوار ثقافية لبلاد المغرب العربي وليبيا، كما ظهرت أدوار ثقافية لبعض بلاد الخليج العربي، كالسعودية والكويت والبحرين وقطر واليمن.
الهدف هو كسر احتكار «المشرق العربي» لإنتاج الفكر والثقافة، ولعل هذه الزاوية هي ما أشار إليها صادق جلال العظم، حينما ذكر أن الجابري أوجد توازنا في الفكر العربي بين المشرق والمغرب بعد أن ظل المغرب لفترة طويلة يعتمد علي المشرق العربي، خاصة علي مصر، ولذلك فإن مساجلات الجابري من ناحية وجورج طرابيشي وحسن حنفي من ناحية ثانية أعادت إلي الأذهان المساجلات الفكرية بين المغرب والمشرق عبر حوارات ابن رشد والغزالي.
الثانية.. باعتباره جزءا من إعلاء الذات العربية الإسلامية في محيط هادر من الثقافة الفرانكوفونية، في ضمن سياق استيقاظ الثقافة المغاربية ضد التبعية الفرنسية «من جراء الاستعمار الطويل» باتجاه تعريب التعليم والتفكير والكتابة والفنون، وقد تميز الجابري «بين النخبة المغاربية التي حملت عبء المساهمة المغاربية في الثقافة العربية المعاصرة» بأنه قاوم الجاذبية الفرنسية،فضلا عن مقاومة الجاذبية الأمازيجية، فتجاوز - في عملية مركبة واحدة - التغرب والشوفينية معا.
الثالثة.. باعتباره الحلقة الثالثة من حلقات المشروع الفكري النهضوي العربي الحديث، فإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد شهد إسهامات رواد من مثل رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، وإذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد شهد إسهامات طه حسين وسلامة موسي وعلي عبدالرازق، فإن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد إسهامات الحلقة الثالثة التي برز من بين نماذجها: حسين مروة والطيب تيزيني وصادق جلال العظم ومحمود أمين العالم وجورج طرابيشي وعبدالله العروي وأدونيس وطارق البشري وحسن صعب وعابد الجابري وغيرهم، علي اختلاف منطلقاتهم المنهجية بين المادية الجدلية والليبرالية والإسلامية. ولقد كان من حظ الحلقتين السابقتين أن باشرتا مشاريعهما الفكرية في ظروف أفضل من ظروف الحلقة الثالثة، الحلقة الأولي واكبت بواكير بناء محمد علي للدولة الحديثة، مترافقة مع صعود طبقات جديدة ووعي قومي وليد، في تزامن غني مع التفاعل بين الشرق والغرب «علي رغم الطابع الاستعماري للحملة الفرنسية». والحلقة الثانية نشأت في غضون المرحلة الليبرالية «برغم الاحتلال الإنجليزي والقصر» حيث الأحزاب السياسية العديدة والتيارات الفكرية المتنوعة، وحيث نضوج الطبقة الوسطي والصغيرة نضوجا تمخض عن ثورة شعبية أو شبه شعبية عام 1919 بمصر وهبات مماثلة في بعض البلاد العربية، أما الظروف التي صعدت فيها مشاريع الحلقة الأخيرة، فقد كانت أصعب وأسوأ.. أنظمة الحكم الوطنية أممت العمل السياسي والفكري، وصادرت تنوع الطبقات، واحتكرت النظر والعمل والاجتهاد، وحبست الآلاف من المثقفين «يمينا ويسارا»، وانتهي سعيها بهزيمة قاصمة في 1967، بعدها ذهب المسار إلي تفسخ رأسمالي شائه، تعانقت فيه السلطة مع الثروة عناقا فاحشا.
هذه الظروف العسيرة جعلت المشاريع الفكرية التي قدمها مفكرو هذه الحلقة الثالثة تعمل في شروط مضادة معاكسة.. فمن جهة تضاءلت مساحة الحرية التي يتحرك فيها العقل «بما جعل بعض المشاريع تلفيقية، تسعي إلي التوفيق بين فكرها التنويري الخالص وفكر البرجوازية الصغيرة العسكرية الوطنية الحاكمة»، ومن جهة ثانية فإن الهزيمة القاصمة دفعت الناس إلي التماس العزاء في السماء والآخرة، عبر مناخ تكاثرت فيه تيارات الإسلام السياسي المتعصبة «بما جعل بعض المشاريع تلفيقية تسعي إلي التوفيق بين فكرها التنويري الخالص وفكر التيارات الدينية السلفية المدعومة بثورة البترول العربي»، ومن جهة ثالثة فإن النظم العسكرية الوطنية وتطوراتها الرأسمالية المتوحشة الفاحشة، قد صفت الطبقات الصاعدة التي يمكن أن تمثل «حاضنة» لهذه المشاريع التنويرية مما جعل معظم هذه المشاريع مجرد رؤي نظرية ثمينة، لكنها تسبح في الهواء الطلق منزوعة عن القوي الاجتماعية الحاملة والحامية.
العقل العربي المستقيل
يمكن الإشارة إلي أركان مشروع الجابري الرئيسية في النقاط المختزلة التالية:
1- معظم القراءات السابقة للتراث هي قراءات سلفية غير موضوعية وغير تاريخية، وتنهض علي قياس الشاهد علي الغائب، وهي بذلك، قراءات تراثية للتراث، وعليه فلابد من إقامة قطيعة حاسمة مع القراءات القديمة.. القراءة السلفية لأنها تسقط المستقبل علي الماضي، ومع القراءة الليبرالية لأنها استشراقية أوروبية مغرضة ترد التراث العربي إلي أصول غير إسلامية، ومع القراءة الماركسية لأنها قراءة أيديولوجية جامدة.
2- تعرية النموذج العربي وفضح الدور الاستعماري له، القائم علي المركزية الأوروبية والفاشية واستغلال الشعوب، وهو ما يعني حاجتنا إلي نموذج أصيل يتلافي مخاطر التبعية «للغرب الصالح» مثلما يتلافي مخاطر التبعية «للسلف الصالح»، المفتاح هنا، هو مناهضة «العقل العربي المستقيل» الذي يسعي إلي تكرار الماضي وإعادة إنتاج القديم.
3- تقسيم العقل العربي إلي: عقل «البيان» وعقل «العرفان» وعقل «البرهان» والكشف عن أن الهيمنة كانت للعقل البياني «المنطلق من البداوة والنقاء اللغوي»، الانحياز هنا، لعقل «البرهان».
4- لا ريب أن المشروع النهضوي العربي الحديث قد أنجز بعض النجاحات، كتحقيق الاستقلال الوطني، وتحجيم المشروع الصهيوني «هل تحجم بحق؟» وتأكيد الهوية القومية، وبعض التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن هذا المشروع ولد يتيما ومحاربا من مشروع النهضة الأوروبي «الاستعماري» ومن المشروع الصهيوني كخصم للمشروع العربي.
«نسي مفكرنا أن يضيف: « ومحاربا من الاستبداد الشرقي في الأنظمة العربية الحاكمة».
5- استنهاض العقلانية العربية في فكرنا الحديث، باستنبات رشدية عربية إسلامية، وبترشيد الإسلام السياسي، والتخفيف من التطرف الديني، ومن ثم، فإذا كان العقل السياسي العربي القديم «بل الحديث» قد انبني علي ثلاثية «العقيدة» «الأيديولوجيا» و«القبيلة» «الاجتماع» و«الغنيمة» «الاقتصاد»، فإن العقل السياسي العربي الجديد ينبغي أن ينهض علي العقلية النقدية والتعدد، واحترام الآخر «الآخر الذاتي والآخر الموضوعي» لا بالانسحاق فيه كلية ولا بنكرانه كلية، فكلاهما «الانسحاق والنكران» فناء وعدم المسعي هنا: عصر تدوين عربي حديث.
6- تشريح العقل العربي يوضح أن العلل هي: هيمنة الاستبداد الأبوي واستمرار الدول السلطانية وسيادة فلسفة تري أن الرق والعبودية والتراتب ظواهر طبيعية، وذهنية لا تفكر إلا انطلاقا من «أصل» سابق يحمل سلطة السلف ذات الجزم المطلق.
الاجتهاد العقلاني الرشيد
ولأن مشروع الجابري هو مشروع لتجديد التراث من داخله، اعتمادا علي العقلانية والروح النقدية والوعي العصري، فقد طالته سهام النقد عن يمينه وعن شماله.. هاجمه أهل النقل والأتباع حتي وصلوا إلي اتهامه في دينه، لاسيما بعد دعوته إلي قراءة جديدة للقرآن الكريم، تبني منهجية جديدة للشريعة، تعيد النظر إلي أوضاع المرتد وحكم قطع يد السارق، ومسألة الرق، وحقوق المستضعفين، ووضع المرأة في الميراث والزواج والطلاق والشهادة، بل إن بعض المواقع السلفية الإلكترونية أذاعت خبر وفاة الجابري بعنوان يقول «هلاك الجابري»، فيما يشبه التشفي والشماتة!، وفي المقابل رأي بعض التقدميين أن الاكتفاء بالعقلانية، من دون نظرة طبقية اجتماعية سياسية مصاحبة، يجعل السعي كله مجرد صراع عقليات نظرية في الفراغ. هو مشروع، إذن، يستغرق في نقد الفكر بالفكر، علي نحو ما تفعل النزعات المثالية الظاهراتية التي تحلق في الفضاء العلوي فوق مجريات الواقع الاجتماعي، ذلك أن استنبات عقلانية ابن رشد في فكرنا الراهن سيظل حلما نظريا ما لم تسنده قوي اجتماعية صاعدة، تصبح صاحبة مصلحة في «تعميم الروح الرشدية» في حياتنا المعاصرة.
والحق أن تجديد التراث تجديدات عقلانية اجتهادية ساطعة قد حصل مرات عديدة طوال مراحل تاريخنا العربي، منذ ابن رشد حتي اللحظة الحالية، لكن هذه التجديدات ذهبت أدراج الرياح وظلت بحوثا مسطورة حبيسة في بطون الكتب، لأن السلطات السياسية العربية وقفت بالمرصاد ضد «تعميم هذه الروح الرشدية» لأن تعميمها مضاد لمصلحة استمرار التسلط والاستبداد والسلاطين، وعليه فإن انعدام وجود هذه الروح الرشدية ليست مشكلة «عقل» بل هي مشكلة «سياسة» ونظام حكم.
كما أن ترشيد الإسلام السياسي والتخفيف من التطرف الديني سيظل دعوة أخلاقية نبيلة، ما لم يدعمها عمل سياسي يحقق تنمية ناجزة وديمقراطية فعالة تنهض علي التعدد والتنوع، ويحقق دولة مدنية صحية وصحيحة، ذلك أن التطرف الديني مدعوم من البنية الفوقية «بالدساتير والقوانين الداعية للتمييز ولكبت الحريات، ومدعوم من البنية التحتية بالهزيمة والفقر وانعدام التنمية وانسداد المستقبل».
تلخيص مشروع الجابري في كلمة هو «الدعوة إلي دولة إسلامية عقلانية رشيدة»، وهو ما يناهضه الإسلاميون المتطرفون الذين لا يريدون «العقلانية الرشيدة» في الدولة الدينية، وما يناهضه الاستناريون والتقدميون الذين يريدون دولة مدنية ديمقراطية بشرية، لا دولة دينية حتي ولو كانت عقلانية برهانية رشيدة، فعند هؤلاء، يبدو أن هناك تناقضا فلسفيا جوهريا كامنا في بنية العبارة نفسها «دولة دينية عقلانية رشيدة»، هو التناقض بين.. الثابت والمتحول.